الرواية التي لم ترو
إبراهيم عبد المجيد
هل هناك رواية لم ترو حقا؟ وما هي هذه الرواية؟ سؤال سألته لنفسي فجأة رغم أني أعرف إجابته، فأنا أؤمن بأن من قبلنا أو من بعدنا، ليسوا آخر من يكتب الروايات، حتى لو تحققت المدينة الفاضلة على الأرض. الأمر يمتد ليشمل كل المبدعين في كل المجالات. الشعر والفن التشكيلي والنحت والموسيقى والمسرح وغيرها. تاريخ هذه الفنون كلها هو تاريخ ثورات المذاهب الأدبية. من كلاسيكية إلى رومانتيكية إلى واقعية إلى واقعية اشتراكية إلى واقعية جديدة إلى عجائبية إلخ. في الفن التشكيلي من واقعية إلى تأثيرية، أو انطباعية إلى سريالية، إلى تكعيبية إلى تجريدية وما تشاء. الأمر نفسه في الشعر من موزون مقفَّى إلى شعر حر إلى قصيدة نثر، والسينما من صامتة إلى ناطقة وأبيض وأسود إلى ملونة، وأشكال من الإخراج والتقنية وأبعاد ثلاثية للتصوير، وهكذا في المسرح وكل الفنون.
أحيانا أفكر أن أفضل أشكال الفنون هو اللوحة الخالية.. أذكر يوما في مركز بومبيدو في باريس رأيت لوحة خالية لا أذكر مبدعها مكتوب عليها بالفرنسية «لوحة المستقبل». حدث الأمر نفسه في الرواية، فهناك من أصدر رواية صفحاتها بيضاء. ليس ذلك انتهاء للعالم، لكن ما تحقق لا يكفي، ويبدو أن الإنسان لن يجد أمامه إلا الصمت. يوما أصابتني الحياة بالإفلاس ففكرت في كتابة سيناريو للتلفزيون. فعلتها وكان اسمه «بين شطين ومياه» أخرجه عمرعبد العزيز وكان من بطولة حسين فهمي وسلوى خطاب وزيزي البدراوي وآخرين. المهم بعيدا عن المسلسل الذي عرض مرة واحدة، ثم اختفي رغم الحفاوة التي قوبل بها، وجعل المنتجين يتصلون بي وهذه حكاية ليس مكانها هنا.
المهم في المسلسل يقوم حسين فهمي بدور مثقف ضائع، قرر إقامة ندوة صامتة في مقهي في حي كرموز الذي تدور فيه أحداث المسلسل. أقام الندوة وجلس الحاضرون في صمت وهو صامت أمامهم حتى قال انتهت الندوة وتفضلوا بالأسئلة. يقف من يسأل صامتا حتى يجلس ويجيب هو صامتا حتى أعلن انتهاء الندوة. تقدم إليه شخص يقول له يا أستاذ أنا مخبر والضابط أرسلني لأسجل كلامك فماذا سأكتب له؟ قال له اعطه الورقة بيضاء سيعرف ما فيها. أتذكر ذلك الآن مع التطور الحادث في الدنيا الذي يجعل غوغل يراني وأنا جالس في غرفتي أكتب المقال، وقرأت أنه قريبا سيضعون في مخ الإنسان شريحة تصدر للخارج ما يفكر فيه، أي حتى الآمال المحبوسة سيعرفونها. وبالمرة هناك نكتة مصرية قديمة عن توأم في بطن أمهما لا ينزلان رغم جهد الولادة. احتار الأطباء فوضع أحدهم أذنه على بطن الأم ليجد أحد التوأم يقول للآخر تفضل انزل، فيقول له الآخر تفضل أنت.. هكذا لا يريدان النزول إلى عالم لا يعرف فيه أحد متى يتحقق الأمل. الشائع طبعا عن بكاء المولود بعد خروجه إلى الدنيا أنه يبكي بسبب توقعه لما سيراه، والعلم يقول إنه يبكي بسبب التأثر بالخارج وتنفس هوائه بعد أن كان حبيس الرحم، لكن هكذا رأى الناس العاديون معني البكاء. فالمعرفة بعدم تحقق الأمل معروفة منذ الميلاد، وكل أمل يأتي بعده أمل جديد. لا تنتهي الآمال حتى يكون الأمل الأخير هو الصعود إلى السماء بعد ما يعاني الإنسان من أمراض جسدية أو آلام. الجسد هو الذي ينهك الروح بعد أن يظل عمرا يطاوعها ويحقق لها ما تريد من سفر أو زواج، أو يتحمل ما يفعله فيه الأعداء من قمع وتعذيب على طول التاريخ.
في الفترة الأخيرة أصابني هوس التأملات من فرط العزلة الإجبارية، التي تسببت فيها كورونا من ناحية، والعمر وتأخر الصحة من ناحية. كتبت شيئا من النثر متأملا فيه ما هو نتاج تجربتي الخاصة، وفيه ما هو نتاج ما حولي، لكني لا أعرف لماذا نسيت أن استمر بها! لعلي لا أريد أن أتذكر فيتوقف الأمل. كان ما كتبته عددا قليلا وما جاء من تجربتي الخاصة مثلا:
لو كان ميلادك بإيدك ماكنتش نزلت الدنيا بتعيط
لكن في يوم تتمرد وتصنع الأحلام
وهوب.. في لحظة جسمك يخذلك ويقول لك أنت صدقت؟
حتى جسمك اللي بنيته كان عليك بيتفرج!
ولن أنشر مما يخصني أكثر من هذا الآن، لكن مما يخص رؤيتي أنشر شيئا بعد أن عشت في عصور ما بعد يوليو/تموز 1952 حتى الآن. كتبت:
قالوا لي خلاص بلدنا حرة وانت من الأحرار
انزل أرقص في الشوارع واهتف هزمنا الاستعمار
نزلت ماعرفتش ارجع والعمر ضاع مني
وكل ما قرَّب لبيتي يبعدوه عني.
لماذا أتذكر هذا الآن؟
السبب هو اقتراب السادس من أكتوبر/تشرين الأول وكيف بدأ كثير من الصحافيين يتصلون بي لأبدي رأيي في حالة الأدب وحرب أكتوبر. ولأني كتبت في ذلك أكثر من مرة وضاع الكثير من ذكرياتي مع أعمال غيري الأدبية، تذكرت أنه الأمل الضائع . فبعد الحرب توقع الكثيرون وقد انتهينا من الحروب أن نعيش أياما أفضل. تذكرت قصة قصيرة نشرتها في مجلة «الطليعة» عام 1975 عنوانها «تعليقات من الحرب» عن جنديين في أحد الخنادق أثناء الحرب يتحدثان، فقال أحدهما أنه رغم ما قدمناه من تضحية سيأتي سماسرة وتجار خردة يفوزون بنجاحنا. أذكر احتفاء من أكثر من ناقد وكاتب وقتها بالقصة.
وأتذكر الآن ما حدث ويحدث حولي. ورغم أنى أعرف السبب، إذ لم تكن الحرب بداية للدولة في رعاية شعبها والنهضة به، بل كانت بداية في التخلي عن كل الإنجازات في الصناعة والزراعة وغيره، وحتى نهر النيل أخيرا تم ترك مصيره لإثيوبيا. كم هي الروايات التي كتبناها في مصر أو تكتب حتى الآن، عما جري من تحولات في المجتمع الذي أخذه الحكام إلى الخلف ليحققوا التخلف الذي لم تكن إسرائيل تحلم بتحقيقه على الأرض لنا. روايات كثيرة كتبت وتظل تكتب وصيحات من الشعر ومسرحيات. أفلام كان من بينها مثلا فيلم لعلي عبد الخالق هو «مدافن مفروشة للإيجار» بطوله محمود ياسين ونجلاء فتحي، وكيف ضاقت بهما الأحوال فعاشا في أحد الأحواش بين المقابر، لكن جاء إليها إنذار بالطرد لأنه سيتم هدم المقابر وبناء كوبري في المنطقة. كان الفيلم عام 1986 وكان نبوءة سابقة بما سيحدث. تستطيع أن تمد الخيط إلى الأمام لما كتبه وحيد حامد من أفلام، ومسلسل لأسامة أنور عكاشة مثل «الراية البيضاء» وغيرهما. لكن رغم ذلك كان ولا يزال الأمل قائما. كل الروايات والأفلام والقصائد والمسرحيات التي جسدت الآلام كانت تبحث عما لا يمكن تجسيده، وهو الأمل. ما يحقق الأمل في العمل الفني يجعله ساذجا وتعليميا وأشبه بدروس التربية الوطنية في المدرسة. فهل كان حكامنا على دراية بذلك فمنعوا عنا تحقيق الأمل على الأرض ومن ثم في العمل الفني. لا يمكن أن يكونوا كلهم جهلاء بالفن والأدب، فلماذا تضيع الآمال ويريدونك أن تصدق ما يقولون ويفعلون، ولا يتصورون أنه سيأتي يوم يكتب فيه الكتاب عن الأمل الضائع بأيديهم هم الحكام. أي سيكونون هم مادة الرواية وغيرها. لا شك في أنهم يضحكون ويقولون لأنفسهم وماذا يهمنا مما تكتبون. والحقيقة أن هناك عشرات الروايات كتبها الكتاب في العالم ومن العالم العربي عن الديكتاتور، ولن يتوقف الأمر، وستظل تأتي الروايات والقصائد وغيرها. بعد كل رواية لا شك أن يشعر الكاتب بأنه حقق شيئا من الأمل في رواية مغايرة، وإن لم يكتب غيرها سيكتبها غيره. لن يتوقف الأمل وستظل الروايات التي لم ترو في الطريق رغم الآلام.
روائي مصري
عن القدس العربي