*عزالدين بوركة
اللذة هي عنوان للدخول في شبقية الجملة الشفافة في رواية “باب الليل” للكاتب المصري وحيد الطويلة. لغة هذه الرواية تأتي من الإيجاز في القول والتكثيف في الإبلاغ.
اللغة التي تبدأ في “باب الليل” من الأعلى لتصل إلى الأسفل، ومن اليمين لتصل إلى اليسار، من القواعد إلى اختراقها، ومن المعروف إلى كسر القيد في القول. هنا في الرواية، تنبع اللذة من شكلين، أولهما جمالية الوصف والاستعارة والمجاز غير المألوف والسائد، وثانيهما ذلك الحضور الطاغي على صفحات السرد في الرواية للجنس والجنسانية، ليكتفي الراوي بالتلميح والاختزال تارة والتدقيق في العملية المولّدة للحياة تارة أخرى.
نجد وحيد الطويلة يأتي اللغة من كل جانب، من سائدها إلى قوله المتجدد. يتبعها ويجعلها تتبعه، تلك هي الكتابة بحب ولذة. فعن أيّ جسد يكتب وحيد الطويلة؟ يقول: أكتب عن الجسد الذي يقينا أنّنا لا نملك شيئا سواه في الكون. ربما أكتبه متمعنا في مصيرنا الإنساني، في ذلك الذي يدلنا على أنفسنا، وعلى الألوان التي نخترعها كل يوم.
ويمكننا أن نستحضر هنا علاقة النص بكاتبه عند ابن عربي، الشبيهة بعلاقة العاشق بمعشوقه، فهي علاقة جاذبية لممارسة الحب. وإن فعل الكتابة ما هو إلّا مقارعة كؤوس النبيذ ومجالسة الحبيب على سرير اللذة، حيث لا تسلم الكتابة من دلك أصابع الكاتب.
يقول بارت، فيلسوف اللذة وهسيس النص “إن لذة النص تتأتّى من بعض حالات القطيعة أو من بعض التصادمات بين ما هو سائد ومقنن ومشرعن، وبين ما هو مرفوض بمعايير العصمة الأكاديمية والمناهج المدرسية والأيديولوجيات المتزمتة”. ومن هنا بالتحديد تنطلق جماليات الكتابة داخل رواية “باب الليل” لهذا الروائي، الذي يدلك كلماته، لينسكب منها عسل الشهد الأبيض، وترتعش الجمل في توالد باختزال للمسكوت عنه والمضمر في ثنايا الجسد العربي، ليستشعر القارئ لزوجة الوصف، السائل بين فجاج الكلمات.
وليس النّص/ إلا جسدا آخر/ لموت الكاتب. هكذا يقول الشاعر زريقة. والنص هنا وإن كان موتا للكاتب، فهو باب ليل لخروج القارئ منتشيا بلذة الاختزال والتكثيف من بين فخذين.
وللإشارة: فكاتب النص هو قارئه الأول. وقد كُتبت الرواية بثلاث أرواح/ ضمائر، روح الغائب والمُتكلّم والمخاطب. إن ضمير الغائب هو سيد السرد كمّا، وإنه إحالة عن “الهو” وعن الماضي، ممّا يجعل القارئ ينخدع بإمكانية وقوع الأحداث، وممّا يحمي الراوي أيضا من “إثم الكذب”: يعود في اليوم التالي يخطف فاتورة أخرى كصقر ويدفع الحساب كعصفور.
أما ضمير المتكلّم فله قوة وإرادة الحضور، إذ يتيح للسارد أن يصير هو الشخصية الرئيسية والمركزية، فتندمج الحكاية في روح المؤلّف، فيجعل المتلقي يلتصق بالعمل السردي ويتعلّق به “عشقتها/ تنام عندي مرتاحة هانئة، تفتح عيونها، تسلمني شفرتها بوداعة بمجرد أن أمرر أصابعي عليها…”. أما ضمير المخاطَب فهو الحضور المائز في الرواية، هو الضمير الأقل حظا في التناول من قبل الروائيين، فهو الضمير الأحدث من بين الضمائر في السرد، إنه الخط الرفيع الذي يربط بين المتكلم والغائب إنه خروج السارد من النص ليصير هو القارئ إنه نوع من الحلول، وهو عندنا أقوى هذه الضمائر السردية: اهدأ ولا تتعجل، سوف يحرك أبوشندي أصابعه في اتجاه الهدف، أصابع نحيلة طويلة مشطوفة، كأصابع عازف البيانو في خيالك.
تبدأ الرواية في مقهى وتنتهي عنده، بل الأحرى “كل شيء يحدث في الحمام”، حمام المقهى. فللروائي علاقة بالمقهى شديدة الجذب، إلى درجة أن ميلاد الرواية كان في مقهى، وكتبت في سبعة مقاه تونسية ومقهى مصري، فمن المقهى ولدت الثورة التونسية، وفيه تحضر الروح الفلسطينية التي تحوم على الرواية، وهو الفضاء الفكري حيث يطرح وحيد الطويلة نميمته الأدبية في بلاده مصر.
____
*العرب