“تلك الطرق”

(ثقافات)

“تلك الطرق”  – مقطع من رواية     

عدي مدانات*   

                                 

  …….. ” كان العمال قد تجمّعوا عند مطعم صغير يقدّم الحمص والفلافل والفول والشاي الساخن. تقدّم صالح منهم، فلم يُعِره أيّاً منهم انتباهه. انتظر أن يكسر أحدهم حاجز الصمت، غير أنهم جميعاً استمرّوا بتجاهل وجوده. خاطب المشرف وقال:

ــ شو أبو جميل. العمال بيسمعوا منك. أنا مش ممتنع عن الدفع وإنت عارف . الحكومة حابسة مستحقاتي، بس لو نكمّل الشغل شهر زمان بتغيّر الحال. تحمّلوني هالشهر بس. أنا مش ساكت. إنت عارف .. الأجور تأخّرت قبل هيك والدفعة اللي أخذتها كلها راحت للعمال. ما إنتو هيك بتخربوا بيتي وبيوتكم.

ترك أبو جميل مقعد القش ونهض واقفاً ثم اقترب منه وهمس في أذنه:

  ــ معلّم رتّب قميصك. مزرّر غلط.

 انتبه وارتبك ثم قال:

  ــ الحال من بعضه.

قال له المشرف بصوت أوضح وأشدّ صرامة:

  ــ لا تغلّب حالك ، العمال ما عاد يتحملوا، ما هُمَّ مع الراتب مش موفيّة معهم، كيف وهم من ثلاث أشهر ما قبضوا ملّيم؟ أنا ما عندي حكي، والحكي اللي عندك إحكيه في المحكمة.

 وقف أمام قاضي الأجور من دون دفاع. سأله بماذا يردّ على لائحة الدعوى. أجاب:

  ــ سيادة القاضي ، اللي بطالبوا فيه بذمتي. بس أنا بدّي وقت. الحكومة حابسة مخصصاتي.

  كان القاضي على عجل ، فقد اكتظّ المكان خارج غرفة المحاكمة بالعمال الذين يطالبون بأجورهم. قال:

 ــ بعطيك أسبوع. روح تفاهم معهم.

  ثم أعلن تأجيل الجلسة.

 غير أن الحكومة التي خشيت من اندلاع توقّفات أخرى عن العمل، دفعت الأجور المطالب بها، فعاد العمال إلى العمل ولكن  بعد أن اقتطعوا وقتاً ثميناً من وقته هو.

 رفعت الحكومة عنه عبئاً كبيراً بدفع أجور العمال، ولكن من يسدّد عنه بقية الديون؟ فهو مدين للبنك، ومدين لمرابيين اثنين، ومدين لصاحب الكسارة بثمن الحصمة، ومدين لتاجر الزيوت بأثمان زيوت الآليات، ومدين لزوجته سناء بثمن منزل ماركا وبردّ الاعتبار لها عن القسوة والإهانات، ومدين لوالده بخروجه عن الطاعة واختلافه مع التاريخ الذي ابتدأ باستشهاد جدّه واستمرّ معه، ومدين لأبي محمود عمّا اقترفه بحقّه من إساءات، ومدين لحمدان بتنكّره له، ومدين لأبي صايل بسوء تصرّفه. لا يستطيع عقله أن يستوعب كل هذا الذي يحدث الآن.

 قال لسناء في الصباح، بعد أن أقحم نفسه على المائدة  الصغيرة في المطبخ، فيما هي وكيرا  الآسيوية  تطعمان الأطفال:

ــ صار لا زم نزور حيّ التلّة . والله الواحد مرجعه لأهله. بترافقيني يا سناء؟

 لاحظ وجومها فأردف:

 ــ مش مشاني، مشان أهلك. بنظل على اتفاقنا بين بعض، مش هيك؟ بس قدّام الناس… بلاش…

تابع:ــ أنا طشت على شبر ميّة. كان يمكن حياتي تكون غير هيك، ما أنا اشتغلت في الكويت وما شاء الله عليّ. سوّيت قرشين ونفعت أهلي. بس أبو محمود الله يسامحه دار براسي وخلاّني أعمل شركة معه. كنت غشيم. من أول يوم جابلي عقود عمال أجانب إحنا مش بحاجتهم، وطلب مني أجيبلهم تراخيص عشان نقبض من ورا الشغلة، وعقلي بلّط؟ بطّل يشتغل. قلت لحالي يعني ليش شقا الكويت؟ ما هاي مصاري بتيجي بدون تعب. وبعدين هات لحّق. المصاري صارت تيجي بدون تعب. لو أحسبلك فوق النص مليون دخل جيبي بدون تعب. طيب كيف بدي أعرف إنه اللي بعمله غلط والحال ما بدوم؟ ما هي الدولة ماشية هيك وعقلي بلّط.

لم يعُد يعنيها من كلّ ذلك التاريخ، سوى أطفالها وخلاص نفسها وعفّتها، وهو ما صار يدركه، ويدرك أنّ كثرة الكلام تذهب هدراً، غير أنه  ما كان يكفّ عن الحديث. ظلّت تحدّق فيه من غير عجلة. التفت عنها ثم قال وهو لا يُحدّد ما ينظر إليه:

ــ أبو محمود كان شايف الصورة هيك كمان. ما هو كان مستفيد. بس لما حوّش قرشين ملاح لقي الحل عند شيخ الجامع، بعدين راح عَ أفغانستان. بس وقعت براس أختي علياء.

  وجدت نفسها تقول:

  ــ لا تخاف عليها. عندها محمود الله يحميه ما بيخلّيها تعوز إشي. أنا خايفة عليك إنت يا صالح وخايفة على أولادي.

استدار ونظر إليها، غير مصدّق ما صدر عنها بخصوصه، فقد ذهبت في القطيعة معه حدّ تركها غرفة النوم، وقد تقبّل منها تلك القطيعة على قسوتها لشعوره بالذنب. قال:  بتتعدّل.

 سألت بنبرة حانية هو بأمسّ الحاجة إليها:

ــ إنت أفطرت يا صالح؟ كلْ لقمة وخلّيني أجهّز الأولاد.

 دمعت عيناه وانحنى ليقبّل يدها، فسحبت يدها ودمعت عيناها هي الأخرى، فكفّ عن الكلام.

  استقلّ سيارته وتوجّه إلى المشروع. استدعاه موظف كبير في وزارة الأشغال على الهاتف. سأله: ــ كيف الشغل ماشي معك؟ بحب أخبرك. غيّرنا اللجنة وخطّطنا للتحويلة. بدنا إياك ترضى.

 خاطب نفسه  وهو يمضي في طريقه إلى الوزارة: تأخرت كثير يا موسم الخير.

 كانت نبرة الموظف تشي بأن يداً عُليا قد تدخّلت لصالحه،  وقد أدرك ذلك. قال للموظف بعد أن أخذ علماً بالتغيّرات التي حدثت:

ــ أقدّم مطالبة لعطوفتك؟

 قال الموظف وهو يبتسم بقصد طيّ صفحة الماضي:

 ــ المشكلة عندنا وعندك. واللجنة رفعت تقرير لصالحك. شوف، مدّة العقد انتهت والمشروع متوقّف، والجرايد صارت تكتب، والأهالي يقدموا عرايض وإحنا بدنا نخلّص كمان، هاي صارت سولافة ما بتخلص وإنت مش منجز نص الشغل. مش كلّه ذنبك صحيح. على كلّ حال، قدّم مطالبة. بنصرفلك.

 قدّم مطالبته وعرض احتياجاته، غير أنّ الدولة لم تكن بالسخاء الذي توقعه. لم تكن بمستوى الأمل الذي أحدثه لديه الموظف الكبير، فلم يكن الربع مليون دينار ليرفع الخطر عنه، ولكن من شأنه أن يجنّبه هجمة جديدة من المرابين ويقنع البنك أن الخطر لا يتهدّده ويمنحه قوة دفع جديدة. غير أن آماله سرعان ما تبدّدت في هذا أيضا، فقد فتح المبلغ الذي سرى علمهُ إلى جميع الدائنين، عين كلّ من له مطالبة وجعله يلحّ في طلبه، فذهبت فرصة انتفاعه به أدراج الرياح.

كان الشتاء يشهد بوادر عاصفة من نوع ما، ولم يكن من الممكن معرفة في أي اتجاه سيجري هبوبها، ولذلك أخذ صالح الذي اقترب من الأربعين ونال من الأذى ما يكفيه، يُصغي لكلّ ما يقال ويأخذه على محمل الجد، فلم تأتِ الأقوال السابقة عن خطورة سياسة الدولة في الإكثار من القروض من فراغ. فَقَد الدينار الأردني قوّته أمام العملات الأجنبية وتهاوى، وأسرع المدّخرون لاستبدال الدولار به، وانتقلت العدوى من كبار المدّخرين إلى صغارهم ثمّ إلى مَن ليس لهم ادخار. ارتفعت الفائدة على ودائع الدولار عند الصيارفة، حتى بلغت عند بعضهم أكثر من  15%. لم يُشارك من جهته في هذا الهوَس الذي أصاب الناس، فلم يكن بحوزته مالٌ يُتاجر به.

أدرك صالح خراب حياته فقد طفحت خسارته حتى بلغت أعتاب غرفة نومه وأطفاله الذين لم يشتدّ عودهم بعد، من دون بارقة أمل واحدة، فقد وقع في شرك البنك والدائنين وعلى وجه الخصوص المرابين.

غير أن الأحداث تسارعت. تتالت مذكرات التوقيف بحقّ صالح لإصداره شيكات من دون رصيد، فأودع السجن، وتتالى جلبه لحضور جلسات المحاكمات، فنزلت هامته ووهنت عزيمته. وجاءت الطامة الكبرى من البنك، فقد طرح الرهن للتنفيذ لدى دائرة إجراء عمّان، فأصدرت بناءً على طلبه إعلاناً إلى المدين وكنيته ” صالح سالم صالح الموههي” بلزوم تسديد المبلغ المحكوم به والبالغ ثمانية مئة ألف دينار مع الفوائد للدائن”  بنك الوفرة”. تلاه إعلان بوضع اليد على العقارين المسجلين باسمه. ولم يكن الوضع على صعيد الوطن بكامله أفضل، فقد ارتكبت الحكومة خطأً فادحاً لم تقدّر عاقبته، إذ إنها وقعت في قبضة البنك وصندوق النقد الدوليّين وشرعت في تطبيق وصفيتهما، فرفعت أسعار المحروقات. تفجّرت الاحتجاجات الشعبية في مدينة معان، والحكومة لم تبالِ، ثمّ رفعت الدعم عن رغيف الخبز. فتفجّر الغضب في مدينة الكرك واتّسعت رقعته لتشمل لواء البلقاء وعمّان. خرج الغضب، من فجاج الأرض، من تشقّقات البيوت، من الحارات الضيّقة اللزجة، من انكسار الآمال وخيبات الأمل، من رحم الفاقة، من صعوبات حياة الناس، من إهمال الحكومة لشؤونهم والتنكّر لحقوقهم وازدراء آرائهم، ولم يعُد غضباً وليداً، فقد  شبّ عن الطوق.

 راقبت سناء كل ما يحدث بقلب بارد، وكأنّ المحنة الطاحنة ألقت بملاءة بيضاء على تاريخ أشبه ما يكون بالوهم، فجمعت في نوبة تأبين غير اعتيادية ثيابها الفاخرة التي تراكمت على مدى سنين، ولم تكن قد ارتدت الكثير منها، وحملتها إلى الحديقة ثمّ أضرمت النيران فيها، وجلست على الشرفة تراقب وهجَها والشرارات التي تطايرت في كلّ اتجاه. “

       * عدي مدانات: كاتب أردني 1938-2016

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *