ناجي العلي وزمنه الكويتي

(ثقافات)

ناجي العلي وزمنه الكويتي

 جهاد الرنتيسي

تنزلق محاولة التأريخ الفني لتجربة الفلسطينيين في الكويت الى العبث في حال التفكير القسري بتجنب اثر نخب ونشطاء مثل ناجي العلي، الفنان المختلف الذي ضاقت به هوامش الحريات في المنطقة، وظل قادرا على اثارة الزوابع حتى اغتياله في بلاد الضباب، بعيدا عن ثقب الصحراء الاسود الذي ابتلع ركام اوهام القبيلة الضائعة في بلاد الرمال والسراب.

بعيدا عن محاولة تثبيتها للتعامل معها كمسلمة، تستدعي هذه الحقيقة اجراء بعض المقاربات، لاخراج الصورة من اللبس الذي وقعت فيه، بفعل سخاء ماكنة البترودولار على عمليات تشويه العقل وطمس الذاكرة التي لم تتوقف منذ عقود.

لم يعش العلي اهوال التسلل عبر الصحراء، القلق من دوريات الحدود، او الخوف من مخاطر الغرق في مياه شط العرب، كما حدث مع غيره من التعساء على اطراف الامارة قبل وصولهم الى اسوار المدينة، لكنه ظل بعيدا عن هوس جمع المال، عاش على الكفاف حينا، ميسورا في احيان لاحقة، ولم يقترب من الثراء في افضل الاحوال، مما ابقاه في المربع الاجدى لتتبع انماطَ حياة وسلوك السواد الاعظم من العرب والاسيويين الذين سكنوا تلك البلاد حتى نهايات ثمانينات القرن الماضي، وقد يكون البقاءَ في هذه الدائرة تفسيرا لرؤيته القضايا الكبرى من زوايا نظر المحرومين، الشغف بتفاصيلهم، تقاسم الهموم معهم، وعدم اختزال نظرته للناس الى حدود البحث عن مادة لرسم يومي.

دفع بعض فاتورة ارتداد الحكم على الديمقراطية النسبية في الامارة الصحراوية من رغيف خبزه، واضطرته هذه التحولات للتحايل على شروط الحياة في وقت مبكر من وجوده هناك، يقول رئيس تحرير مجلة الطليعة السابق احمد النفيسي ان المجلة كانت معطلة عن الصدور وقت تزوير الانتخابات النيابية عام 1967 ، ولم تصدر بعد ذلك احتجاجا على التزوير وبسبب الحصار على الصحافة “مما اضطرنا الى تسريح عدد من العاملين معنا، واحتفاظنا بناجي، ولأن مواردنا جفت، اضطررنا لخفضِ رواتبِ من تبقى من العاملين الى النصف، واضطر ناجي لان يمارس اعمالا بالقطاعي ليتمكن من تسديد التزاماته العائلية” ولم يجد العلي امامه غير الانتقال الى جريدة السياسة، الصحيفة النقيض لقناعاته، وحين سئل عن تكيفه مع هذه النقلة قال انه يتعامل مع المساحة التي يشغلها رسمه باعتبارها منطقة محررة.

ظل سؤال الحرية وانعدام الرضا عن المتاح يشغل فنان الفقراء حتى اللحظة الاخيرة من حياته، سأل عن منفى بديل للندن عند صدور قرار ابعاده من الكويت في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، جاءه الجواب باستعداد اليسار الفتحاوي لتأمين حمايته في دمشق، لكنه تردد في قبول العرض رغم الاتفاق السياسي مع اصحابه، تكرر الموقف حين وصلته التهديدات المباشرة في منفاه، ابلغه صلاح خلف بصدور قرار اغتياله ونصحه بالاختفاء في احدى القرى القريبة من لندن، اضيفت طرابلس الغرب الى دمشق في عرض المنتفضين على قيادة فتح هذه المرة، وكان تردده الاقرب الى الرفض ناجما عن خشيته من فقدان مساحات الحرية المتاحة للرسم في حال انتقاله الى احدى العاصمتين العربيتين.

قاده منطق البحث عن “الثغرات والعيوب” الذي تبناه واوقعه في المتاعب الى تشعيب معاركه التي لم تقتصر على السياسيين، وابقاءها مفتوحة، لينال المشهد الثقافي الهش نصيبه من التعرية، رفع سبابة ووسطى يمناه بشارة النصر التي اعتاد عليها عرفات ذات عشاء في الامارة ليفسرها لمحمود درويش ساخرا بانها بشرى الحصول على سيارات الـ “فولفو” وليست نبوءة بنهاية مسار، وارتبط اغتياله برسمين شهيرين على صفحات القبس احدهما حول علاقة عرفات برشيدة مهران التي منحت مستشارة القائد العام قدرة التأثير على مجريات الامور في اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ويتناول الاخر دعوة درويش للقاء مع كتاب وصحفيين اسرائيليين.

تباينت الضربات التي تلقاها من مثقفي منظمة التحرير الذين تعاملوا مع الثقافي باعتباره مطية للسياسي، بدء من درويش الذي وصف عرفات قائلا “اما ان يكون الآن او لا نكون” ومرورا بعبارة بلال الحسن “اضرب بنا يا ابا عمار” وكانت هذه الممارسة كافية ليصفهم محمد الاسعد المدافع دوما عن العلي بنباتات الظل التي تنمو في بيوت زجاجية، ويجري غالب هلسا دراسته الشهيرة “مثقف منظمة التحرير” المنشورة في مجلة الكاتب الفلسطيني، والتي تعد مرجعا لا بد منه للالمام بالخراب الذي تلحقه مؤسسة السلطة الفلسطينية براهن المشهد الثقافي العربي، يتجرع المثقفون العرب مغرياتَه حينا ويستسيغونَه في كثير من الاحيان.

 بلغت ضرباتهم اوجها بتهديدات درويش الشهيرة، تندرج في سياقها اتهامات احمد دحبور بالفجور والوقوفِ ضد الشعب، تزوير نبيل شعث لاحدى الرسومات وتوريط صحيفة القبس بنشرها، وتوجت باخفاء مريد البرغوثي قصيدته الرثائية “اكله الذئب” من دواوينه اللاحقة خشية اغضاب الزعامة السياسية.

كرست النجومية التي وفرتها صحافة الامارة، قدرة الابداع الفني على مخاطبة الوعي و التأثير في الضمير، وامكانية الارتقاء بحاسة البصر من خلال الصورة ارتباط ناجي بقراء الصحف التي كانت تتمتع بحرية نسبية في ذلك البلد، ومطبوعات اخرى تتناقل الرسومات عن الصحافة الكويتية، وكان لهذا الارتباط نتائج بينها المساهمة في تكوين انطباعات عامة، قد لا تكون صحيحة، عن مدى الحريات في ذلك البلد واوضاع الفلسطينيين الذين اقاموا هناك.

تجاوز ناجي هامش رسمة الكاريكاتير التي كانت ترفع سقف مبيعات الصحيفة، وتجاوب القارئ مع النقد، ليؤثر في جدل يومي ساذج في معظمه حول القضايا المصيرية اعتادت عليه القبيلة الضائعة في تلك الصحراء.

 اخذت العلاقة بين الفنان وجمهوره الممتد منحى التعاطف في كثير من الاحيان، فلم يكن بوسع المتلقي غير الانحياز لحرية فنانه في التعبير، بعد تهديد على الملأ باذابة اصابعه بالاسيد اعقبها لقاء مصالحة فاشل مع ياسر عرفات، تسريبات بين فلسطينيي الامارة حول محاولة لتفخيخ سيارته، ابعاده عن ذلك البلد، وتحويله الى جثة على رصيف شارع لندني.

حاول فنان الفقراء تطويع  المادة التي احدثت انقلابا في ادوارِ مراكزِ واطراف الوطن العربي لتخدم الوعي، باستخدامه الزفت في رسوماته، كما استخدم المرايا من قبل ليلغي المسافة بين جمهوره والمطلوبين والمعتقلين والموتى، لكن النفي والاغتيال حالا دون بلورة التجربة.

علاوة على الدلالات المتشعبة لقدوم القبيلة الضائعة الى تلك الصحراء وتجربتها الحياتية في الامارة كانت كل زوبعة من الزوابع التي اثارها ناجي ورسوماته محطة لقراءة مرحلة، فرصة للكشف عن المخفي بين السطور والعالق في المعنى، وتحفيز الخيال المسكون بالبحث عن الجمال، ومع التقاء المعرفي والجمالي تحققت قدرة الابداع الروائي على التحليق.

على ارضية فهمه لتهميش الفلسطينيين وفئة البدون جنسية في تلك الامارة وجد روائي الخليج الاول اسماعيل فهد اسماعيل في تجربة فنان الفقراء فضاء لشرح مظلمة البدون الحاضرة في الحياة اليومية، الممتدة اصداءها الى اهتمامات حقوقيي المنظمات الدولية، استحضر خياله ناجي العلي في رواية  “في حضرة العنقاء والخل الوفي” الصادرة عام 2012 اي بعد مرور قرابة الثلاثين عاما على الاغتيال، ليؤشر على شبه بين حنظلة الذي ولد دون أب والمنسي بن ابيه الذي ينتمي لتلك الفئة، ويصل السرد الى حد اطلاق ناجي العلي لقب “حنظلة الكويتي” على المنسي.

اتسع حضور ناجي في أدب اسماعيل بعد خمس سنوات، فقد كان القراء على موعد مع رواية “على عهدة حنظلة” التي تُحدّث فيها الشخصية الكاريكاتيرية صاحبها خلال وجوده في غرفة الانعاش عن الازمنة التي عاشها، لتظهر جوانب اخرى من تجربة الفنان المشتبك، والحياة التي عاشها الفلسطينيون في الامارة، كان لافتا في الرواية حضور الزمن الكويتي لناجي العلي، محدودية علاقاته مع الكويتيين شأنه شأن معظم الفلسطينيين الذين عاشوا في تلك البلاد، الاشارة الى تشابه المناخات بين حي النقرة المعروف بكثافته الفلسطينية ومخيم عين الحلوة، وهي التقاطات جريئة تسجل لروائي تقدمي تأثر في مقتبل حياته بالشيوعيين العراقيين، واعتبر نفسه فيما بعد تلميذا لغسان كنفاني.

ترك العلي الذي رأى بحسه الفطري ما لم يره الكثيرون نافذة مفتوحة لاعادة قراءة التاريخ الفلسطيني المعاصر، بما في ذلك تجربة الفلسطينيين في الكويت التي ساهم في اثرائها باشتباكه اليومي مع الوعي الزائف، واستفاد اسماعيل فهد اسماعيل من هذا الارث في خدش الزوايا المعتمة للتجربة التي ما زال الكثير من تفاصيلها مجهولا، محاولة ترشيد انماط التفكير، وتوضيح مفاهيم ملتبسة.

كرس استحضار الروائي لفنان الفقراء في روايتيه حقيقة ان التجربة الحياتية والفنية لناجي العلي ما زالت بكرا رغم كل ما قيل فيها و عنها خلال العقود التي مرت على وفاته، ويشجع غياب ملامح المسارات الخائبة والمآلات المقلقة على وقفات اخرى للتدقيق فيها، بعيدا عن الكسل الفكري.

ترك لنا الفلاح اللاجئ الذي قال ذات لقاء “البلطة ما بتقطع في رأسي” شيئا منه ومضى، يخيف الناقد المرعوب من محتوانا، ويعزز قناعتنا بأن جذورنا اعمق من النكبات والنكسات والهزائم، لا تلومونا حين نتجاوز الخطوط الحمراء الوهمية لنشتبك مع المحرمات.

ـ القيت المداخلة في حفل احياء الذكرى الـ” 36″ لاغتيال الفنان ناجي العلي والتي نظمها منتدى الفكر الديمقراطي في عمان .

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *