الآنسة ازدهار وأنا

(ثقافات)

الآنسة ازدهار وأنا

عدي مدانات

قصة طويلة تحمل ذات الاسم ( نوفيلا)

                                         

  ” الضوء الذي أعنيه داخليٌّ محض، لا علاقة له بضوء النهار، لا علاقة له بالمساحات والشوارع والحدائق. إنّه ينبجس من النفس ومن معنى الأشياء وجوهرها، وما عليك إلا أن تنزع عنكَ حلّتك، وتُنزِل حملك وتتهيّأ بما يكفي لحلوله بك. ليس بالأمر معجزة…”

      إليكم كيف حدث الأمر.

 فيما كنت أهمُّ بمغادرة عيادتي عند الساعة الثانية بعد ظهر السبت الماضي، جاءني شخص قصير القامة منتفخ الكرش، قليل شعر الرأس، يحمل حقيبة رجل أعمال كالحة اللون. تهيّأ لي أنه يعاني من ضيق في التنفُّس، وأنه بحاجة لمساعدة طبيّة. استأذن بالجلوس وجلس، فما كنت سأعترض بأيّ حال، لأنّ دخول بضعة دنانير أخرى إلى جيبي أمر جيد ليس من شأني أن أعفّ عنه. قال:

  ـــ أنا شكري حسين أبو الشكر.

 أدركتُ على الفور من يكون، فابتسمتُ وقلتُ:

 ــ أنت في غنىً عن التعريف.

انصرف عني ليتفقّد حقيبته، ثمّ رفع رأسه وتابع:

ــ جئتك في طلب خدمة، ليس من أجلي، فأنا كما تعرف، الله منعم ومكرم، وإنما من أجل شخص بحاجة لتلك الخدمة، أنت تعرفه وأعتقد أن أمره يعنيك. أنا أحمل عرضاً، هو فرصة العمر.

   تدركون ولا شك، كيف تنطلي الحيلة على الشخص العاديّ، فيسقط في وهم  أنه أهلٌ لتقديم خدمات نبيلة، بخاصّة إذا كانت الخدمة لشخص يعرفه. تابع بعد أن لمس فضولي:

ــ هل تسمح لي بعرض ما لديّ؟

  عبّرت عن عدم ممانعتي بجلوسي أنا الآخر، فالناس وأنا منهم، ضعفاء الأنفس ، لا يكتفون بما لديهم من فضائل ويطلبون دائما المزيد، فتقديم خدمة إنسانية غير مأجورة، يضيف إلى مكاسب الشخص مكسباً آخر يفاخر به.

 انتظرتُ بلهفة نفس أن يُفرج عن اسم الشخص المقصود، غير أنه ترك اسمه مغيّباً، وشرع في حديث عمّا ليس لي حظٌّ بمعرفته، وهو تجارة العقارات ومشاريع الإسكان والنتائج المذهلة التي حقَّقتها، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه، وسط دهشتي البالغة، وتساؤلي عن الخدمة الإنسانية التي سيطلب منّي تأديتها في هذا المجال، ومَن هو المقصود بالخدمة، فأنا مجرّد طبيب ، ولم تدخل تجارة العقارات في أيّ يوم ضمن اهتماماتي. أسهب في الحديث، وضرب أمثلة تستثير فضول من ليس له ضلع في هذه التجارة، وأنا ماضٍ في استغرابي وأسئلتي لنفسي عن دواعي هذه المقدّمة الطويلة التي لا تعنيني، إلى أن توقّف عن الكلام ونظر إلى ساعة يده، ثمّ رفع رأسه ونظر إليّ، لا ليعلن نفاذ الوقت، أو ليعتذر عن التوقيت الخاطئ للزيارة، وإنّما ليتأكد ، على ما تبيّن لي، أنه أثار فضولي، واستحوذ على اهتمامي بأكبر قدر ممكن، قبل أن يوجّه لي السؤال الذي مهّد له، وكان يدّخره منذ البداية.

 ــ أنت تقرّني، على ما أعتقد، بأن معالم عمّان تتغيّر.

  لم يكن لدي سبب لأن أُنكر التغيير الذي يشير إليه أو أرفضه، فأنا أحد الذين انتفعوا منه، فعضّدت رأيه بابتسامة أقرب إلى البله منها إلى التأييد القويّ.

 ابتسم هو الآخر ثمّ تابع:

ــ وتقرّني كذلك، بأنّ عمان القديمة بُنيت على عجل ودون تنظيم، وأن هذا الوضع ينبغي أن يتغيّر أيضاً.

  رأيتُ معه مرّة أخرى ما رأى، فتابعتُ ابتسامتي،  ليعرف أنني أوافقه الرأي في كلّ ما قال وما سيقول، على الرّغم من شدة فضولي لمعرفة ما يريده مني. تابع، وكأنه ليس في عجلة من أمره، بعكسي أنا الذي أزِفَ موعد مغادرتي إلى منزلي، فقد سبقتني زوجتي إليه:
ــ خذ ضاحية السعد على سبيل المثال، فأنت ابن الضاحية وقد نشأت فيها كما أعرف.

  انصرف ذهني إلى أنه إنما يؤجّل طرح الموضوع، الذي قصدني من أجله، لأنه اعتقد أنّ أمر الضاحية ومستقبلها يعنيني كما يعنيه، بوصفي أحد الذين ترعرعوا فيها، وبوصفه من أكبر ملاّك الأراضي فيها، فهذه عادة الناس في عرض ما لديهم، إذ إنهم يشرعون في استعراض معلوماتهم في الشأن الضالعين فيه، قبل الدخول في موضوع المَهمّة  الموكلين بها، والتي قد لا يكون لها صلة بمقدّمة  الحديث، غير أنني لم أعُد أكترث كثيراً، فقد هجرتُ شخصيّاً  الضاحية منذ سنوات عدّة. كدّرني الحديث، ومع ذلك تابعت الإصغاء  لسماع ما لديه، ما دام الحديث عنها يأتي في سياق لم تتبيّن ملامحه بعد. مرّ على كدري مرور الكرام، وخصّ بالحديث منزل النكوكند، فقد سألني:

 ــ وتعرف منزل عائلة النكوكند دون ريب.

  نهيتُه  بنظرة مستقيمة مستنكرة، خشية انتقال الحديث من الخوض في مواصفات المنزل، إلى الخوض في سيرة حياة الآنسة ازدهار وخياراتها الصعبة والمُغلقة على الآخرين، لأنها وكما بات معلوماً للجميع، هي من يملكه الآن، وهي من يشغله. وهنا  تجدُر الإشارة إلى أنّ الحفاظ على المنزل وعيشها وحيدة فيه، صار مدار خلاف بينها وبين أفراد أسرتها، بعد وفاة والدتها، لأن الحفاظ عليه من وجهة نظرهم، يعني تركها وحيدة فيه، في حين أنّ الجميع هجروا الضاحية، وتلك معضلة عُرِض أمرها عليّ ولم أُدلِ برأي، لأنّ في يقيني أن لا أحدَ منهم ولا أنا، الصديق المُقرّب، الأكبر سنّاً والأكثر تجربة، قادر على سبر غورها واستيعاب كنه قرارها الصعب. كنت بخلافهم أنزل عند رغبتها وأعفُّ عن الخوض في الموضوع، وها أنا دون فِطنة، أنقاد إلى مشيئته. ازداد كدري وتبرّمي، وانصرفت عنه إلى تفقُّد أجندتي، في إيماءة مني، من شأنها إنهاء الجلسة، أو تأجيلها إلى موعد آخر أكثر ملاءمة، لكنّه لم يأبه ومضى في حديثه مؤكّداً مخاوفي:

  ــ وتعرف العائلة بطبيعة الحال.

  وافقته الرأي على حذر، مكتفياً بهزّ رأسي ، هزّة خفيفة، إلاّ أنّ الشكّ أخذ يراودني، فاتخذتُ وضعاً يوحي بأنني أهمُّ بالنهوض وصرفه إذا لزم الأمر، ومع ذلك لم يأبه لما بدر مني، وإنما حثّني على الكلام، بأن أزجى المديح للعائلة ، وأضاف:

  ــ وتعرف الآنسة ازدهار النكوكند بطبيعة الحال؟

     اقترب من المحذور، إلاّ أنني لعجبي وافقته الرأي مرّة أخرى، وانتظرتُ أن يُفصِح أكثر عمّا لديه بخصوصها. فتح عِروة زرّ قميصه إذّاك، ودفع جذعه باتجاهي،  فبرز كرشه. قال:

  ــ هذا ما اعتقدتُه. يمكنك مساعدتي وبالأحرى مساعدتها.

 دُهشت ُ لجمعه شخصه وشخصها في مَهمَّة واحدة، وكأن ثمّة ما يدور في الخفاء وأجهله أنا، فاقتضى مساعدتي الآن. تساءلتُ عن ما قد يجمع قدّيسة بحقّ، تعيش في عزلة عن العالم، حتى عن أقرب الناس إليها، مكتفية بهذا القدر الضئيل المتوفّر لديها، وبين تاجر أراضي، شرهٍ في طلب المال، وليس له فضيلة واحدة من فضائلها، فلم أجد. وفيما كان يمسح العرق المتفصّد عن صدره وجبينه، اشتدّ السؤال عليّ وتهيّأ لي خاطر بعيد الاحتمال، وهو أنه في طريقه لعرض رغبته في الزواج، وأنه جاء ليستعين بي، وهذا احتمال مريب في دوافعه دون شكّ، لو تأكّد وجوده ، لأن استمرار الآنسة ازدهار في ما هي عليه، على علّته، أفضل من انتهاء مسيرة حياتها الحافلة بالعطاء، لتصبح واحدة من حريمه أو زوجة ثانية على أبعد تقدير، فقد عاشت حياتها حرّة أبيّة عزيزة النفس، وفوّتت فرص زواج عدّة من قبل، لأسباب أجهل معظمها، وبلغت الثالثة والخمسين من عمرها دون أن تحتاج رجلاً إلى جانبها، ولا إخالها تحتاج الآن، ثمّ إنّ مثله لا يرى الأمور ، إلا من باب المنفعة، وأسباب منفعته متوفرة لو صحّ الافتراض.

  استحضرت صورتها في مخيلتي، بانتصاب جذعها ووقفتها الشامخة وأنفَتِها، ونظرتُ إلى هيئته الزريّة، على الرغم من ثروته، فصغُر شأنه بنظري وهيّأت نفسي لردعه قبل ولوجه في الموضوع، غير أنّه عاجلني بالقول:

 ــ تحرّيتُ  أمرها قبل المجيء إليك، إنه لمن المؤسف القول، إنّ هذه التي كانت قوية الحضور، تزلزل مشيتها الأرض، ويدين لها الجميع بالطاعة، باتت في الظلّ كما تعرف، وصارت وحيدة، وكأنما لم يكن لها ذلك العنفوان والمجد، ولم تكن لها تلك الفضائل التي يعرفها كلّ من التحقت له بنت في مدرستها. أنا تاجر عقارات، ولكنني أقدّر الأشخاص الذين يبذلون حياتهم من أجل الآخرين وينيرون الطريق.

 توقّف عن الكلام ونظر إليّ، متفحّصاً أثر كلامه في نفسي، فلم أعقّب، وانتظرتُ أن يُفصح أكثر عن ما بنفسه ويعلن عن المقصود. ثم رأيت أن أسبقه وأنقضّ عليه، لكنّه دفع بالمنديل إلى جيبه وأردف:

 ــ أظنّك توافقني الرأي.

  وافقته الرأي مرّة أخرى بهزّة رأسي، فأنا كنتُ سأقول الشيء نفسه وأكثر منه لو طُلب الكلام مني، أنا الذي أحتفظ لنفسي بمعرفة هذا الذي وصفه وأكثر منه. استشطتُ غضباً وقلت بحدّة:

  ــ لِمَ لا تقول صراحة ما تريده مني؟

 غير أنه تابع الحديث مُمعِناً في مراوغةٍ مقيتةٍ أخرجتني عن طوري:

  ــ كل ما حصلتْ عليه من متاع الدنيا هو هذا المنزل كما علمت، وكان يمكن ألا تحصل عليه لو أن الأخوة الكرام ما تخلّوا لها عن حصصهم فيه، عن طيب خاطر.

  قطعتُ عليه الكلام وقلت:

 ــ هذا الأمر لا يخصّك، ثم إنّ تلك كانت رغبة والدها رحمه الله، فهي أحقّ بالمنزل من غيرها، ولا أحد منهم ينكر ذلك.

 وكدت أذكرُ تفاصيلَ لا تعنيه بقليل أو كثير في هذا السياق، تؤكّد حقّها بامتلاك المنزل، فأعفاني من ذكرها، وكأنه كان يقرأ أفكاري، فقد ابتسم لأول مرّة منذ شروعه في الكلام وقال:

ــ أنا لا تعنيني التفاصيل، ما يعنيني هو المنزل وحسب، وهي مَن تملكه الآن، وهي مَن تعيش فيه، وهذا بيت القصيد، فلديّ خطط خاصة به تعود عليّ وعليها بالنفع، وسترى بنفسك أنني أملك الحلّ لمعضلة حياتها، وما عليك سوى مساعدتي.

 علّقتُ على كلامه ساخراً:

 ــ لا أظنها تحتاج مساعدة منك، فهي على ما أعرف بخير ولا ينقصها شيء.

  لم يرفّ له جفن وتابع غير مبالٍ بغضبتي:

 ــ  دعني أسألك: متى كانت لك آخر زيارة لمنزلها؟

 أربكني السؤال وألزمني الكفّ عن مناكفته. مضى في طرح مخاوفه:

ــ ما أعنيه أنّ في عيشها وحيدة في منزل على طرف الحيّ، مغامرة خطرة، فقد اختلط ساكنوه ولم يعد الواحد يعرف جاره أو يأمن شرّه، فهذا المنزل، كما يمكنك أن تلاحظ، لم يعد آمنً بما فيه الكفاية، في عالم شرسٍ لا يرحم الضعفاء، وهي في عدادهم الآن، شاءت أم أبت، ولو أنها تعيش في بناء مأهول، بين جيران يعرفون قيمة الجار، لكان في ذلك حماية لها. فكّر بالأمر، الأبنية الحديثة وحدات متكاملة، مستقلّة، محميّة بنظام أمن كهربائي وتتوفّر فيها حراسة وخدمات مشتركة، أمّا في حالتها الآن، وهي عزلاء في هذا المنزل بالذات، فكّر بالأمر، ألا تكون هدفاً لكل طامع أو لص؟ كيف تحمي نفسها وتدفع الشرّ عنها؟ لم يحدث خطر كهذا حتى الآن، غير أنّ الاحتمال قائم، أليس كذلك؟

 كدتُ أرفض كلامه وأستهين بدوافعه ومخاوفه، فلا أظنّه حريصاً على أمنها إلى هذا الحد، ولكنني لم أستطع نكران صحة كلامه، فالوضع مقلق بحقّ، وقد كان هذا ما يشغلني ويثير مخاوفي، كلما حاذيت منزلها، فانزلقتُ إلى القول:

  ــ إنّ هذا بالذات ما يقلقني.

  ارتاحت أسارير وجهه، فانقضّ عليّ وأمطرني بكلامٍ كالسهام، ولم يترك لي سوى متابعة كلامه:

 ــ كيف تظنّها تحصل على حاجاتها، مَن يأتي لها بالطعام والدواء؟ مَن يذهب عنها إلى البنك، مَن يسدّد عنها فواتيرها، مَن ينقذها من وحدتها؟ ستقول: إنها ليست مقطوعة من شجرة، وأنا أقول: هذا صحيح، ولقد تحرّيتُ عن هذا أيضاً ووجدتُ أنها لا تستعين بأحد، فهي على ما أظنّ تعيش في وهم أنها ما زالت تملك السلطان الذي كان لها.

  انتابتني لحظة غضب أخرجتني عن طوري، فليس له أن يذهب إلى هذا الحدّ في رقابتها، على نحو يجرّدها من خصوصيتها، حتى لو كان حريصاً على أمنها وراحتها كما يزعم. قلتُ مغتاظاً وساخراً بالوقت ذاته:

  ــ أظنّك تعرف ماذا تأكل، وماذا تفعل على مدار الساعة، وحتى نوع برامج التلفاز التي تشاهدها والأغاني التي تفضّلها.

    لم يرفّ له جفن. نظر إليّ بعينين ثاقبتين، وكأنه الفائز في امتحان صعب، وقال:

 ــ أستطيع أن أخمّن.

  لملمتُ أطراف نفسي بعد تلك الهزيمة وسكنَتْ حواسي. ولعلّه أدرك أنه أفقدني سلاحي، فتلذّذ بالصمت للحظات بدت لي مديدة وثقيلة. لا أكتمكم أنه أصاب مرماه وأنني شعرت بالخجل، فهذا تاجر العقارات، وهو الرجل الغريب، يكترث بأمرها أكثر مني، أنا الجار القديم الذي أكل من زاد والدها، والمعجب بها شخصيّاً ، حتى إنّ فكرة الزواج منها راودتني في مطلع شبابي وقبل أن أكون مستعداً لها، ناهيك عن رغبة والدتي فيه. ولمّا لاحظ أنّ همّتي فترت، وأنني أقلعتُ عن مشاكسته، عاود الكلام في اتجاه فاحت منه رائحة التجارة، وليس في ما أثار مخاوفي:

  ــ أنت تعرف أن المنزل على جمال نسقه، غير ذلك  من الداخل، فهو يقبضُ على نفس من يجلس فيه ساعة، فكيف بمن يقيم  فيه العمر كلّه، وهذه حال معظم الأبنية القديمة، تراها من الخارج الآن فتعجبك، ولكن ما أنْ تدخلها حتى تغتمّ، أضف إلى ذلك أنها تخلو من متطلبات الراحة الحديثة. إنّ شقة سكنية رحبة ضمن أحد الأبنية التي وصفتها لك توفّر لساكنها مساحة عيش لا حشر فيها، فهي بهذه المواصفات المدروسة أفضل لها من بناء قديم لا يزيد عن كونه غلافاً جميلاً مُضلّلاً، ليس فيه من الداخل غير غرف داخلية معتمة، وأظنك توافقني الرأي على ذلك أيضاً.

  رأيتُ المنزل في الحال بهذه القتامة، فأنا عرفته من الخارج أكثر مما عرفته من الداخل، عرفته بإطلالته ومحيطه، بشجرات السرو والصنوبر التي نمت بسرعة مذهلة، والأرجوحة الي رُبط طرفاها على جذعي شجرتين، ولم يكن لي فيها نصيب في صغري إلا ما ندر. رأيتُ في الحال أنّ مشهد المنزل خادعٌ، فأنتَ  ما أن تجتاز عتبته حتى تغتمّ نفسك للحشر الذي تجد  نفسك فيه، على غير ما كنتَ  توقّعت. لم أكن قد نظرت إليه إلى هذا النحو من قبل، وبدا لي أنّ تاجر العقارات محقّ في النظر إليه من هذه الزاوية، وتذكرتُ أنه بُني بمواصفات تلك الأيام، التي لم تأخذ في الحسبان سوى توفير حجرات لنوم المواليد، حتى لو ضاقت مساحتها وحُجبت الإضاءة عنها. أذكر أنني دخلته من قبل مرّات عدّة وشعرتُ بالضيق للأسف الشديد. وجدُته محقّاً  في ما يدفعني لرؤيته، ووجدتُ معه أن الآنسة ازدهار تحتاج فعلاً مكان سكن تتوفّر لها فيه الراحة الحديثة، حيث تحصل بكبسة زرّ خفيفة على دفء المنزل والماء الساخن أو الهواء البارد، وقد خبرتُ الفوارق هذه بنفسي كما يمكن له أن يعرف.

  أسوق لكم من قبيل الطرفة هذا الحوار الذي دار بيني وبين والدي. كنا قبل سنة من السكن في تلك الضاحية قد أقمنا في منزل مستأجَر، ولمّا اكتمل بناء منزل النكوكند، سألت والدي، وقد كان يرأس دائرة مالية حكوميّة:

  ـ لماذا لم تبنِ لنا منزلاً جميلاً كهذا؟

 أجابني:

 ــ راتبي لا يسمح لي بترفٍ كهذا.

  استغربت كلامه وسألته:

ــ وهل يجني بائع الفلافل والحمص مالاً أكثر؟

  أجابني:

 ــ أكثر بكثير.

   ثمّ صرفني.

  أعود لحديثنا  وأقول: إنّ وصفه المنزل بهذه القتامة أصاب الحقيقة، فأنا ما كنتُ أتقبّل العيش فيه لو خلُص ملكه لي، وهذا ما يجعل الرجل حَسن النيّة، ويستدعي منّي التحلّي بفضيلة الصبر بانتظار ما لديه، فتجمّلتُ بالصبر ودفعتُ جذعي إلى ظهر مقعدي. أدرك أنه أصاب مرماه، إذ إنّ وجهه صفا ونبرة صوته اتسمت بالرصانة التي تكسبه فضيلة جديدة:

  ــ لو كنتُ مكان الآنسة ازدهار لهدمتُه وأقمتُ مكانه بناءً أخصُّ  فيه نفسي بشقّة وفق أفضل المواصفات.

 صمَتَ ليكتشف أثر اقتراحه بنفسي، ثمّ تابع:

 ــ ولكنها لا تمتلك المال ولا الخبرة. قد تسألني ما الحلّ؟ وأنا أقول : لا حلّ إلا ببيع المنزل والاستفادة من ثمن الأرض المرتفع، بشراء شقّة في بناء آخر من تلك الأبنية التي وصفتها لك، بناء محكم الإغلاق في وجه غير ساكنيه، ومحروس وفق أعلى متطلبات السلامة. ثمّة شقق بمواصفات عالية ولديّ نماذج تبهركَ بمواصفاتها. سترى معي الرأي نفسه.

 لا أكتمكم أنني اُخذت على غفلة، فلم أكن أعرف أنّ الحديث يسير بهذا الاتجاه، ولذلك عدتُ بمخيّلتي ، لتصفّح المنزل قبل الإجابة، وفيما كنتُ أقلّب الأمر وأبحث عن مزايا أهمَلَ شأنها، مثل حديقة المنزل، والجوار الخالي من البناء وهو ما يشكّل  بحدّ ذاته ميّزة لم تعد تتوفّر للكثيرين، فتح حقيبته وأخرج منها مخطّطات هندسية ووضعها على طاولة مكتبي برفق، ثمّ فاجأني بعرض تجاريٍّ  مثير:

  ــ أنا على استعداد لشراء المنزل مقابل ثمن يزيد عن ثمنه الحقيقيّ بما يعادل الرُبع إكراماً لله وللآنسة ازدهار، وهكذا تتمكّن من شراء شقّة، بالمواصفات التي ترتضيها مع وسائل راحة حديثة وإطلالة جميلة، ويبقى لها ما يكفيها للعيش براحة.

 عقّبتُ مباشرة:

ــ أخشى أنها لن توافقك الرأي وسترفض.

  حدّق بي للحظة مغتاظاً، كما لو كنتُ أنا الحائل، ثم تناول منديله من جيبه واستطعتُ ملاحظة أنه متّسخ، فأنا طبيب وعيني تلاحظ مثل هذا بحكم العادة. قدّمتُ له منديلاً ورقياً من حافظة المناديل التي تستقرُّ على طاولة المكتب، متمثّلاً دور المستمع المحايد. أهمل يدي الممدودة بالمنديل ومسح جبينه وصدره، وقال:

  ــ ولهذا قصدتك، فأنت رجل حكيم. أقول لك بصراحة لقد أعددتُ خططي، فأنا أملك قطعة الأرض المجاورة، وقد حصلتُ على التراخيص اللازمة لمشروعٍ سكنيٍّ متطوّر، فأنا كما تعلم أحصل على ما أريد، وعندما ينهض البناء الذي عزمتُ على إقامته، سيفقد المنزل كلّ قيمة، إن تبقّى منها واحدة. أنا هنا لأنقذها من هذه الورطة وأقدّم لها البديل.

 أشار إلى المخططات التي وضعها على مكتبي وقال: ــ هذه هي المخطّطات.

  فردها أمامي، فأشحتُ عنها، فقد اتضح المقصود، وأنا لا أكترث بمشاريعه التجارية، غير أنه لم يبالِ ومضى في عرض خطته. أعاد المخططات إلى حقيبته ثمّ استلّ منها مجموعة صور لهيكل بناء سكني ثم تابع:

ــ بإمكان الآنسة ازدهار تملُّك واحدة من هذه الشقق في حال الاتفاق، فالمساحة هنا لا تقلُّ من الداخل عن مساحة منزلها، وبوسعي ترتيب التقسيمات الداخلية وفق طلبها، وهذه ميزة جيدة لشخص يُشغل الشقّة بمفرده. أنا أملك البناء فلا مشكلة في هذا الأمر.

  أدخل يده في جيب سترته وسألني إن كنتُ لا أمانع في أن يدخّن. لم أجد ما يمنع، بعد كلّ الجهد الذي بذله. أجبت في الحال:

ــ دخّن، سأُحضر صحناً صغيراً، فأنا كما ترى لا أدخّن ولا أسمح بالتدخين في عيادتي، ولكنْ لا بأس هذه المرّة.

 تركته وذهبتُ إلى المطبخ، وفيما أنا هناك متحرّر من سطوته، فكّرتُ بخطورة الوضع، وبأنه قادر على إزعاجها ممّا يدفعها إلى الرضوخ لمشيئته، فخطر لي أن أستغلّ حاجته وأطلب زيادة كبيرة، وهذا ما عدتُ به مع الصحن.

  ــ حسب حديثك أنت، فإنّ عمّان تتغيّر، وهذا يعني أن الأسعار مرشّحة للارتفاع. أنا لا أفهم في هذه التجارة، ولكنني أخذتُ القول عنك.

 فغر فاه ثم ابتسم ابتسامة مُخاتلة وقال:

 ــ تريد زيادة السعر؟ هذا أكثر ما لديّ.

 رأيتُ أنني ربما أنجح فتماديتُ وقلتُ:

 ــ إن كنتُ أنا أرفض السعر، فما يكون حالها؟ أقترحُ أن تزيد فيه.

  لم تُرضِه مساومتي على ما يبدو، فمال إلى التهديد. قال:

  ــ ربما لم تدرك خطورة الوضع. مشروعي قيد التنفيذ، سيحاط منزلها بأبنية شاهقة الارتفاع، وسيمنع عنه الهواء والشمس، وتسبِّب لها أعمال البناء إزعاجات لا تحتملها. بوسعك أن تتصوّر الوضع على مدى سنتين أو ثلاث من الإزعاجات المستمرة وغير المقصودة بالطبع، فالبناء يتمّ وفق ترخيص قانونيّ، وأعتقد جازماً أنّ من صالحها أن تقبل، فلا أحد يحتمل إزعاجات كل ما سيجري وضمن القانون، فكيف بفتاة وحيدة، حتى لو كانت في سابق عهدها مديرة مدرسة، فستظلّ فتاة ضعيفة. ستفكّر عندها ببيعه بأيّ سعر متوفّر. أنا لا أستغلّ ضَعف موقفها، فأنا أعرض عليها سعراً عادلاً، ما كانت لتحصل عليه من غيري، ولا أقلّ منه بكثير.

  استفزّني كلامه، كما لو كنتُ أنا الآنسة ازدهار، فرميتُ ما عندي بمغامرة ، لم أكن أعرف نتيجتها. قلت:

  ــ تعرف أنّ الآنسة ازدهار عنيدة بطبعها، وستتقبّل الوضع على سوئه، إن لم تحصل على زيادة لا تقلّ عن نصف الثمن المعروض.

  لم يُفاجأ كثيراً على ما رأيت. ردّ على عرضي بالقول : هذا كثير.

   غير أنني تمسّكتُ بطلب هذا السعر كشرط للوساطة، وبعد مساومة  ــ أختصر الحديث دفعاً للسأم ــ اكتفى بالتعبير عن موافقته بأن قال: حصل، مبروك.

  سُعدتُ للغاية لظفري بهذا السعر، الذي سيمنح  الآنسة ازدهار فرصة ترتيب حياتها على نحو مُرضٍ وآمنٍ لسنوات عمرها المتبقّية، واعتقدتُ أنها هي الأخرى ستسعد بحصولها عليه وتشكرني لمساهمتي في المساومة التي رفعت من سقفه، وهو الأمر الذي لم تكن تجيدُه، لو أنّ  الأمر ترك لها. غير أنني سرعان ما أدركتُ صعوبة المَهمة حال مغادرة التاجر، فلم يكن من السهولة بمكان اجتياز عتبة منزلها بعد انقطاع طويل لم يكن له ما يبرِّره، ولم يكن من السهولة بمكان كسر حاجز الرهبة في نفسي، فقد كنتُ دائماً أشعر بتلك الرهبة في حضرتها.

 بادرتُ إلى زيارة شقيقها في عيادته مساء اليوم نفسه، بقصد تشديد عزيمتي والحصول على تأييد لمَهمَّتي. كنتُ على غير عادة مرتبكاً، فهو أوْلى مني بمهمَّة كهذه، ولا أدري لمَ أغفل أبو شكري شأنه واختارني، فلم أدخل في الموضوع مباشرة. دفعتُ كلامي باتجاه أسئلة تخصُّ أفراد الأسرة الآخرين وخصصتُ منهم الآنسة ازدهار. هنا أبدى مشاعر القلق والإحباط لخطورة الوضع، وكرّر القول مرّات عدّة بأنه فعل كل ما بوسعه لإقناعها بالعدول عن قرار التمسّك بالمنزل وقدّم لها عروضاً مختلفة، ومنها بيع المنزل وشراء شقّة في بناء مأهول، غير أنها لم تأبه. تضرّج وجهه حتى خلتُ أنّ دمعة طفرت من عينه، فأسرعتُ إلى التأكيد أنّ خيار البيع هو الأفضل، وأطلعته على عرض أبي شكري، فاكتفى بالقول:

 ــ أرجو أن تنجح في ما فشلتُ أنا فيه.

   كانت النتيجة مُحبطة، غير أني حصلتُ على إجازة تأذن لي بمباشرة مَهمَّتي مسنود الظهر. لم أكتفِ بتلك الشحنة الزائدة من الحثّ والتأييد، فاختليتُ بشقيقتي، وهي على ما أدري الأقرب إلى الآنسة ازدهار الآن. وأطلعتُها على الأمر من كلّ جوانبه، فاكتفت بالقول:

 ــ جرّب.

 فهمتُ من جوابها المُبتسر أنّ مهمَّتي صعبة ، فقلت لها:

ــ لا أرى حلاً  مُرضياً لمأزق حياتها ، بغير هذا، أريدكِ أن تكوني معي في زيارتي الثانية.

  اعتذرت وقالت:

 ـــ أعرف الجواب مُسبقاً.

   لم تثنني حصيلتي المُحبِطة إلى حدّ ما عن فعل ما عزمتُ فعله، فالواحد منا يعتقد أن لديه من القدرة على الإقناع ما لا يتوفّر لدى غيره، ومع ذلك لم أتوجّه إليها وأباشر مهمَّتي في الحال، فقد لزمني مزيد من الاستقصاءات والمعلومات والاستعداد الذهني والنفسي، لأكسب المزيد من الثقة بنفسي، غير أنّ ” أبو شكري” لم يتركني وشأني، فقد ذكَّرني في زيارة خاطفة أنّ الوقت ينفذ، وأنه سيتخلّى عن عرضه نهاية الأسبوع إن لم يتلقَّ جوابا، فوعدتُه خيراً….

                           ***********************

 من هي الآنسة ازدهار؟ وما هو شأنها؟ وما صلتها بعائلته؟ ولماذا كان اسمها آخر ما نطقت به والدته قبل مماتها يوم أنهى المهمة، فاستنزلت رضوان الله عليها ؟ وهل نجح في مهمته أم لقي مصير من سبقه ؟  وهل  لديها رؤيتها، ببصيرة إضاءتها الداخلية وفق سجايا نفسها، لتوصف بـ “العنيدة” و”الضعيفة” في مجتمع ذكوري يرى مظاهر الأشياء فيحكم عليها، ولا يدرك أيّ توازن نفسي يحققّه التصالح الصادق مع الذات ليحدث موقفاً فارقاً ؟ وما هي دواعي ودلالات الرسوم المزينة لصورة الغلاف الأمامي؟

  هذا وأكثر منه ما تبيّنه فصول القصة الطويلة أو الرواية القصيرة (نوفيلا) الواقعة في ثلاث وتسعين صفحة من القطع المتوسط، الصادرة عن  ” الآن ناشرون وموزعون” العام 2015   في عمان  بدعم من  “الصالون الثقافي الأندلسي”  في مونتريال/ كندا، قبل رحيل المؤلف بعام.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *