(ثقافات)
فلسفة المتأمّل وشجن الإنسان في ديوان “صبا الرّوح”
صباح بشير
أن تكتب عن الشّعر فهي بلا شكّ كتابة وعرة قد لا تفي الشّعر حقّه، فالشّعر حمّال للوجوه والأبعاد، هو مرآة لذات الشّاعر وانعكاساتها، يولد من رحم قضايا الإنسان حاملا همّ البسطاء والفقراء، ينغرس مع سنابل الأرض في ترابها، ويعلو بالحرف ليسمو به فوق السّحاب. وكأنّ الشّعر وما فيه من كلمات إنما هو نور مخبّأ في جيب اللّغة، يمنح الشّاعر سرّ الحرف وسريرة الحياة.
“صبا الروح” هو العنوان الذي اختارته سلمى جبران لمجموعتها الشّعريّة الجديدة، التي صدرت حديثا عن الدّار الأهليّةِ للنّشر والتّوزيع (2023). تضمّ هذه المجموعة باقة من القصائد المتنوّعة في موضوعاتها الاجتماعيّة والإنسانيّة، طغت على أكثرها صبغة نسويّة، فبرزت قضيّة المرأة ومجموعة من القضايا المعبّرة التي تحثّ القارئ على الوقوف عندها.
تتمثّل الرّؤية العامّة لهذه المجموعة في بعدين رئيسيينِ هما: البعد الفكريّ الفلسفيّ، والبعد الاجتماعيّ الإنسانيّ، وهما ينسجمان معا انسجاما تامّا، الأمر الذي كفل لهما درجة من العمق، كما اتّسمت اللّغة بالسّلاسة والوضوح، نجد فيها تعبير الحقيقة وتعبير المجاز والصّور المستعارة، مما يعكس أفكار الشّاعرة ورؤيتها الإبداعيّة، وسمات الأسلوب الرّومانتيكيّ في المضامين والأفكار. ولا أريد في هذه العجالة أن أحلّل أو أشير إلى مواطن الإبداع في كلّ القصائد، سأقارب بعضا منها لمعرفة أَوجهها الفلسفيّة والفكريّة.
“صبا الرّوح” هي القصيدة الرّابعة، وعنوان الدّيوان الذي يوحي بجوهره، تتحدّث الشّاعرة في هذه القصيدة وغيرها من القصائد عن عمق الصّحوة الفكريّة والرّوحيّة التي عاشتها فتقول:
هزَمَتْ فؤادي صحوةٌ
صدَّتْهُ عن عرشٍ تفرَّدَهُ
فقيَّدَني حنيني
وتناسَخَتْ في منطقي روحٌ
تغازلُ غايتي وتُعيدُ لي
قلبًا تعمَّدَ فيهِ
ينقذني ويهديني.
وتتابع الحديث عن العمق الفكريّ الذي تستشعره فتقول في قصيدة مسار ذاتيّ (ص26):
عُمقي يكبرُ
تتباعدُ أطرافُهْ
فتحلِّقُ روحي فيهِ
يتوسَّعُ قلبي
ترقُبُني أطيافُهْ
وتقول في قصيدةٍ أخرى:
وغدوْتُ أحيا في منافيَّ الكثيرةِ
صحوةً سادتْ بها روحٌ
تُدثِّرُها وتحميها
فلا قيدٌ يراوِغُها
ولا كبتٌ ولا عارُ.
لقد تعرّض الفلاسفة للأمور الحياتيّة والقضايا الإنسانيّة ونظروا إليها بعمق، تطرق سارتر إلى التّطور الفكريّ عند الإنسان فقال: إنّ فكر الإنسان هو ما يمثله، فهو لا يتّوقف عن التّطوّر الفكريّ طالما أنّه حيّ.
وضّح أفلاطون أن ﺃﻋﻤﻖّ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺬّﺍﺕ ﻫﻮ الفكر، ورأى سقراط أنّ الحياة الخاليّة من التّفكّر والبحث والتأمّل لا تستحق العيش، أمّا نيتشه فقدّر التّفكير والتّفكّر، وصفه بالنشوة العارمة التي تصحو بالذّهن الإنسانيّ وتؤدّي به إلى الإبداع، ويرى الفيلسوف بيار دي شاردان أنّ الإنسان يبصر في روحه، ما لا يبصره بالعين المجرّدة.
تظلّ الشّاعرة تنبش ما استقر في ذّاكرتها، تطلق العنان لخيالها، وتقتّنص من الشّعر لغة للحياة، تمرّ بمحطات كثيرة عبر تلك الصّحوة التي وصفتها، وتنثر بذور الأمل قائلة:
لكنَّ الأملَ تعنّقَ
عانقني، قوّى إيماني
وحباني نُضجًا أروى
عمري، ناجاني
زرعَ الذاتَ الأخرى في عمقي
واستنبَطَ عمقًا آخرَ للآتي
تحفزّنا هذه السّطور على التّطلع إلى الأمام بدل النّظر إلى الخلف، فالأمل من الأفكار الحيويّة التي علينا التّمسّك بها، وهو طاقة دافعة للذّات نحو التّحرك والتّغيير.
يقول الفيسلوف آرنست بلوخ: إنّ التّطوّر الذي عاشته المجتمعات الإنسانيّة ما هو إلا انعكاس للأمل، فنتائج اليوم على كافة المستويات العلميّة والثّقافيّة، ما هي إلا آمال الأمس ورغباته وتخيّلاته.
المرأةِ في شعر سلمى جبران:
تثير جبران قضيّة المرأة والمجتمع الأبويّ والفكر الذّكوريّ بجرأة، تتحدّث عن تجربة الأنوثة وأبعادها الاجتماعيّة، تدافع عن المرأة بشكل خاص وتسعى وراء الإنسان بشكل عام، تسير بالكلمة نحو قلب القارئ؛ فيشدّه انغماسها بروح التّمرّد على القمع والظّلم، وذاك ما نجده في إضمامة من القصائد التي تلاقت بجملة من الوسائل التّعبيريّة؛ فشكّلت لوحات شعريّة متجانسة، تقول في قصيدة وهم الرّجولة (ص8):
فيروحُ من كاشَفْتهُ
يندسُّ بينَ الخافقَيْنِ، ويعتلي
وهمًا تكدَّسَ في رجولتِهِ
وعلَّمَهُ الرِّمايَةَ سهلةً فَرَماني
أُنثى تغمَّدَها عرينُ محبَّةٍ
واستلَّها عُمُرٌ، ونُضجٌ فائقٌ
كَسَحَتْ به وهمَ الرُّجولةِ
أسقطتْهُ من حساباتِ المكانِ
ومن حساباتِ الزَّمانِ!
للوقوف على هذا المعنى وتجنّب الخلط بين الرّجولة والذُّكورة، فالذُّكورة هي النّوع الجندريّ أو الجنوسة، أمّا الرّجولة فهي الأخلاق والمواقف، الفكر والسّلوك، والرجل وطن تسكنه المرأة بأمان واحترام، وهذا ما تقصده الشّاعرة فكتبت تقول عن شبح الرّجولة (ص7):
شبَحُ الرّجولةِ يُغرِقُ الكلماتِ في كلماتي
ويُغيظُ فيَّ أُنوثتي
ويُعيدُ لي ذاتًا بذاتي
ويُثيرُ ذاكرتي ويُعمي حيرَتي
ويُثيرُ أسئلتي مُردِّدَةً:
كيف استطاعت.. حِقبةٌ قَبليّةٌ، بسوادِها وبِجهلِها
وهْبَ المعاني كلِّها، تخليدَها
توريثَها لذكورةٍ قيَمًا، تُرفِّعُها على عرشِ الحياةِ.
وتقول في قصيدة ثانيّة بعنوان “بين فكّيّ القبيلة” (ص62):
هلّا يعاتِبُني الزمانُ
على انتزاعِ قضيَّتي
من بينِ فَكّيِّ القبيله
وعلى نجاتي من قيودٍ
أقحَمَتْ روحي بهاوِيةٍ ذليله
فأنا حميْتُ درايتي من عتْمِ
لا وعيي ومن قَسَمٍ تقادَمَ عهْدُهُ
ما اخترتُهُ، فتراجَعَتْ
كلُّ المطامِحِ فيَّ
واخترْتُ أن أبقى بعيدًا
عن صلاتِ الرحْمِ
يعبَقُ في حياتي مطمَحُ الحرّيّه!
تنقلنا سلمى لتلَمُّس الحريّة في أفق الشّعر والتمرّد على السّائد من الفكر البّائس، تقول (ص60):
فكَفَرْتُ بالبنتِ الخجولة
بل كنتُ أنعاها بروحي
كلَّما كسَرَتْ جناحيَّ القبيلَة!
تتحدّى الشاعرة بلغتها المتمرّدة على السّاكن الرّاكد، وتنشغل ببناء صورة أخرى من لغة وألم كامن، فتفرد عنوانا مستقلّا لموضوع قتل النّساء على خلفية الشّرف، تقول في قصيدة قرويّة (ص70):
نرفُضُ عُرفًا فنعاني
نختارُ قيودًا فنُعاني
نقبَلُ بالقَيْدِ قضاءً، فنُعاني
لكنَّ القَدَرَ تنكَّرَ، وتغاضى عن قتلٍ
وتصالَحَ مع روحٍ، تحيا في الكَوْنِ وحيده.
تكتب أيضا عن اضطهاد المرأة فتقول (ص41):
كلٌّ يجرِّبُ حظَّهُ، في قهرِ من رَفَضَتْ
طريقَ الزيفِ والتّعتيمِ عندَهُمُ
كلٌّ تعدّى حدَّهُ وأبانَ نابًا لامعًا
حينَ ارتدى وجهًا أليفًا، يقتنيهِ الدّرهَمُ!
لقد أثبتت المرأة قدرتها على مواجهة التّحديّات، فثمّة إنجازات كبيرة وصلت إليها على كافة الأصعدة، لكنّ صورتها ما تزال أقلّ شأنا من صورة الرجل في كلّ المجتمعات الذّكورية، وذلك ما طرحته د.نوال السّعداوي في كتابها “المرأةُ والجنس”، وما ناقشته أيضا فرجينيا وولف – رائدة الأدب النّسويّ- في كتابها “غرفةٌ تخصُّ المرءَ وحدهُ”، وما تحدّثت به الفيلسوفة الوجوديّة سيمون دو بوفوار في كتابها “الجنس الآخر”.
صراعات الحياة:
تصور أيضا المجتمع بكل تناقضاته، وتعبّر عن حاله البّائس بإيجاز وكثافة؛ تتحسّس الجوانب الواقعيّة الحيّة التي نعيشها، تجمعها بحرارة التّعبير الحرّ، فنستشعر الصّدق في وصفها عن حالة الخراب الإنسانيّ التي أصابت مجتمعاتنا تقول (ص48):
حُزْنٌ وحِقدٌ واندفاعٌ زائفٌ
وتسلّقٌ يبغي الوصولَ، فلا
يصُدُّ مُرادَهٌ عجزٌ ولا يثنيهِ
عن غيٍّ جمودٌ أو جحودٌ أو قرارُ
كلٌّ يردِّدُها مآربَ عصرِنا
ويُحيلُها لُغزًا تَقاعَسَ فهمُهُ
وتصف صراعات الحياة (ص55):
طِفلٌ يركُضُ خلْفَ رغيفٍ
ورغيفٌ يركُضُ خَلْفَ الطفلْ
العالَمُ يجري
يرقُصُ خَلْفَ الأشباحْ
وأنا أتحدّى فيَّ القَهْرَ
أُغالِبُ نفسي كي أبقى في الظلْ
والشمسُ تُعانِدُ وتُشاكِسُ
لم تنسَ الشّاعرة أن تعرّج على ظاهرة الجهل المجتمعيّ، تحدّثت عن دوافع الجهل عند الجاهل وقبوله بالجهل خوفا من التّغيير، ظنّا منه أنّه بذلك يحمي نفسَه فكتبت (ص88):
وأُعاوِدُ بحثي عن أمَلي المسجون
أترجّى أنْ يرقى فهمي
لكنّي أدرَكْتُ بأنَّ الجهلَ كفيلٌ أن يحميني!
بحسب الفيلسوف باسكال فإن الوعيّ هو الميّزة التي تعلو بالإنسان، وقد عبّر نجيب محفوظ عن ذلك فكتب في رواية خان الخليلي: فتش عن السّعادة الحقّة، على ضوء العلم والعرفان. وفي نظر الكاتب فريديريك لونوار فتكمن راحة الجاهل وسعادته في غياب التّفكّر في أمور الحياة.
الأنا الفلسفية:
نلاحظ البعد الفلسفيّ في المفردات والكلمات التي تدعو إلى الشّرح والتّأويل، هناك تركيز على مفردة “الأنا الفلسفيّة” التي تتّسم بها الذّات المفكّرة، التي وظّفت في بعض القصائد؛ لتضع القارئ على ناصيّة التّفكير والتّأمّل، وأذكر هنا بعض الأمثلة التي جاءت في مواقع مختلفة:
-
فأنا أُحبُّ حرارةً تعلو دمي.
-
وأنا أعفو عنهُ.
-
وأنا تهجُرُني لاءاتي.
-
وأنا أمشي أحملُ عنها كلَّ همومٍ.
-
وأنا أتحدّى فيَّ القَهْرَ.
-
وأنا أبقى في صمتي.
-
وأنا أتشبَّثُ بدقائقَ من نورٍ أعْشَقُها
-
فأنا حميْتُ درايتي من عتْمٍ.
-
يتحدّى فيَّ أنايَ المُفْعَمَةَ بمأساتي.
-
ويغيظُ أنايَ الأخرى، أبكيهِ فيبكيني.
-
وأنايَ تنوءُ بأحمالٍ، أثقَلَ من ظُلْمٍ وأمرّ.
نلمسُ الوضوح في هذا الخطاب الشّعريّ الذي يوظف الذّات الفلسفيّة ويفسّر ارتباطها الوثيق بالآخر؛ ليظهر خوالج النّفس المعبّرة عن المواقف والمشاعر المختلفة، فذات الانسان تعكس ما بداخله وتمثّل وجهته في الحياة، ونظرته إلى نفسه ومدى تأثّره بالبيئة المحيطة.
يعتبر “سقراط” أنّ الذّات هي قلب الوجود وهوية الإنسان، ودليله في التّفريق بين الصّواب والخطأ، وأنّ ذات الفرد هي روحه، ويرى “أفلاطون” أنّ ذات الإنسان تتجسّد بالعقل الذي يحكم روحه، ويعتبر “ديكارت” أنّ الذّات جسد مادي وعقل مفكر، وهي تتصل بوعيّ الإنسان وتفكيره، وهذا ما ترسّخهُ مقولته الشّهيرة “أنا أفكر إذن أنا موجود”.
فلسفةُ العبثيّة والوجوديّة:
تتحرّر الشّاعرة من محيطها لتنعتق في ظلّ الحرف، تمدّ يدها إلى حيث تولد الكلمات، فلا تهجر إغواء اللّغة وجمال القول الرّشيق، توثّق أحاسيسها وتصوّر آفاقها، وتبحر عميقا في رحلة مع الذّات، فتكتشف عبثيّة الحياة وتعود محمّلة بالرّؤى والشّعر، تقول (ص 103):
أبحَرْتُ عميقًا في روحي
وبدأْتُ أُحاورُها
كي أفهَمَ ما كانَ
يُغطّي عينيَّ وأحيانًا يُعميني
فوجَدْتُ حياتي غارقةً
في عَبَثِ وجودي
تدخل الشّاعرة هنا إلى عالم العبثيّة، فهي لا تنفكّ تبحث عن حقيقة الوجود ومعنى الحياة، وكون الشّعر حالة إبداعيّة حرّة تنقل فكر المبدع ورسالته، من هنا تختار ما يناسب رسالتها من اللّغة؛ لتجسّد رؤيتها إلى الحياة، فتقول (ص 24):
هيَ طفرةٌ هذي الحياةُ
فلا يُضلِّلُني مداها
هيَ طينةٌ نُفِخَتْ بها روحٌ
فأحْيَتْنا وأحيانا ثراها
هيَ جمرةٌ ترتاحُ
تحت رمادِنا لا تنطفي
فتُحيلُ كلَّ زماننا الآنَ
وتفضُّ عنهُ رمادَنا
وتلوحُ فوقَ أديمِها
تجذو بلَمْسِ هوائها
ليعيشَ فينا حُبُّها وهواها.
وتعبّر عن مشاعر الاغتراب والاستلاب التي تعتريها، فتقول في قصيدة “عبثُ الوجود” (ص 28):
عبثُ الوجودِ
يُحيطُ بي ويصدُّني
ويُحيكُ لي مَهْجَرْ
فأعيشُ يحضُنُني اغترابي
يسترِدُّ شقاوَتي
فصغائري تكبُرْ
عُمُرٌ يعايشُني
ويقتصِرُ السِّنينَ
فيستقي منها الحنينَ
ويغتني حُلُمي
ويزيدُني عَبَثيَّةً
ويُعيدُ طيفَ طفولتي
متمرِّدًا ومُحاوِرًا قَلَمي
هل لي بلحظةِ نشوةٍ
أن ترتقي
وتُثير بي لحنًا تخَمَّرَ
هازئًا برصانتي
ومُكَفِّنًا عَدَمي؟
في قصيدة اللاشيء تقول (ص30):
قد غِبتُ في اللاشيءِ
يحكُمُني ويرصُدُ لي زماني
في غياهِبِ لازماني
وعشقتُ أمكنةً تعاينني
وتفقه صحوتي في لامكاني.
تقدّم هذه القصائدُ صورا كفكاويّة؛ لتبقى مفارقة الوجوديّة والعبثيّة من الأفكار التي تثري الدّيوان، فتجسّد المعنى الفلسفيّ وتخاطب عقل المتلقّي ووعيَّه، وتشدّه إلى فضاءات النّور والدّلالات التي تسقطها سلمى على رّؤيتها الشّعريّة، تلك التي لا تريد لها أن تتلوّث بالواقع، الذي وصفته في قصيدة أرواح عاريّة فقالت:
أرواحٌ تتغشّى بسوادٍ تتستَّرُ فيهِ
تتنقَّلُ بينَ قصورٍ
ولَّتْ منذُ دهورْ
لا ترجو عَوْنًا من ربٍّ
بل تطلُبُ من كلِّ النّاسِ
بأن تحسبها ربَّ العَوْن.
ولا تفتأٌ جبران تعرّي الواقع وما تراكم عليه من صدأ الأفكار، تصبّ عليه لهيب غضبِها، فتصّور بإدراك واقعنا الفجّ، تعبّر عن استيائها قائلة (ص37):
غضبي تفجَّرَ حينما
اختلَطَتْ ينابيعُ المشاعِرِ في دمي
وتضوَّعَتْ كلُّ المعاني في حروفي
وانبَرَتْ عبَراتيَ الثَّكْلى
تصارِعُ مبْسَمي
الحزن والتّجلّيات الرّوحانيّة:
وبشعريّة شعوريّة تفصح عمّا يثير انفعالاتها تجاه الفقد والذّكريات الحزينة، فتذكر الموت قائلة (ص39):
الموتُ يُحدِّقُ بي
من كلِّ زوايا الكوْنْ
فيعيشُ يراقِبُ كلَّ
مَرافِقِ روحي، يركُضُ
يلعَبُ ويزاحِمُني، يغلبني
يتحدّى كلَّ مجالاتِ حياتي
يكشِفُ أينَ اختبأتْ أحلامي
ينتظرُ الأمَلَ، يُحوِّلُهُ ألَمًا
يَنتزعُ البسمةَ من قلبي
يتجلّى هاجس الموت واضحا في بنيّة الكلمات، تقول أيضا(ص31):
أحياهُ ظِلًّا يحياني
ألقاهُ يهزَأُ من قَلَقي
يرعى صحوي يُحييهِ
ويُعتِّقُ ماضيَّ
فيجرعهُ خمرًا يُسكِرُهُ
ويُعرّي فيهِ خُمولًا
يتضوَّرُ خَجَلًا منّي، يهرُبُ،
يتركُني لجُنوني أَنعمُ فيه وأُعانيِ.
يتعاظم البوح في هذا الجمع بين الحياة والموت، ينمو بين الحياتيّ والغيبيّ، فهذا النّصّ الشّعريّ يواجه عبثيّة الحياة بفكرة الضّرورة الأنطولوجيّة بحسب رؤية سارتر، الذي يرى أنّ الموت شأنُه شأن الميلاد فيقول: إن كان من العبث أن يولد الإنسان، فمن العبث أيضا أن يموت.
الفيلسوف الوجوديّ جابريل مارسيل يرى أنّ كلّ إنسان هو لغز أنطولوجيّ، ولا بدّ من الوعيّ بهذا اللّغز لمقاومة اليأس النّابع من مواجهة الموت. أما ألبير كامو فيشبّه الموت بالعدم، ويظهر ذلك العدم في روايته “الغريب” بالإنسان العدميّ العاجز أمام قوانين الحياة، ويقول: إن حتمية الموت تضيف على عبثية الحياة وزنا إضافيّا.
تظلّ سلمى تتأمّل في ملامح نموّها الرّوحيّ، وتتفكّر في طبيعة الحياة، فتصوغ الكلمة وتنصهر معها، وتحلّق في عوالمها بصمت، فتكتب:
صمتٌ أعقَبَهُ صمتٌ
وتبدّتْ آياتٌ في أعماقِ الكوْن
تحكي صامتةً
عن ريحٍ تُسقِطُ أزهارًا وثمارًا
غابت عنها آثارُ اللون
في هذا الصّمت صورة إيمائية تجريديّة الألوان، تشي بفضاء واسع للتّخيّل، فالصّمت صلاة وتَدبّر، تعبير وشعور، وهو من الأفكار التي تستحوذ على قريحة الشّعراء برمزيّته وأسراره وغموضه.
يقول “آينشتاين”: الكون مدعاة للتّأمّل والأصوات تكسر الصّمت، والتّنوير يعبّرُ عنه. أمّا الفيلسوف “بيكار” فيشرح الصّمت على أنّه اللّامرئيّ الحاضر، يتفوّق على كلّ الصّخب والضّجيج؛ ليعيد الأشياء إلى كمالها وسّكونها.
الحبّ والتّجربة:
يقول ديكارت: الشّعر عطاء روحيّ جيّاش، لا نِتاجَ تعلُّم. وسلمى شاعرة تكتبها القصيدة بنبض طوعيّ، تتنازع فيها الحياة والموت، فيعلو شأن الحياة ويتسامى فيها الحبّ، تنجو من وسواس الخوف وقهر المجتمع في قصيدة عقود الخوف (ص83)، وتترك الصّخب لأهله وتعتزل في قصيدة سفر العزلة (ص92)، تسكن إلى ملاذها لتعيش لحظات التّجلّي الرّوحيّ في قصيدة نفسي تعيى، وتترك حرفها المشحون بالغضب بحثا عن الهدوء والسّلام، فتستشعر الاكتفاء وشفافيّة الحبّ، ويعلو صوت القلب، تقول (ص21):
يأخذُني حبُّكَ
حيثُ يشاءُ
ولا أدري هل أخطو
نحوَ خميلةِ حُبّي
أم أجري؟
عطَّرْتَ حياتي
حينَ اختارَكَ لي قلبي
وكياني أشرقَ فرحًا
لم أعرفْ أنّي بوجودِكَ
أتصادَقُ مع قَدَري.
نجد الحبّ حاضرا في الدّيوان لا ينفك يغادر، فالشّعر وصف للحظة شعور، والقصائد تؤكّد ذلك، تكتب(ص22):
إنّي عشقتُكَ
فامّحَت من خاطري
صُوَرُ الرِّجالِ
وتفتّحَتْ في داخلي
سُبُلُ الحياةِ
وأشرَقَتْ نورًا
يُضيءُ بصيرتي وخيالي
أحبَبْتُ نفسي فيكَ
فانفجَرَتْ ينابيعُ
المحبّةِ في دمي
فهَجرتُ مالي
واكتفَيْتُ بما لي.
نعم إنه الحبّ، تلك الحكاية الشّغوفة بجمالِ البوحِ وعفويته، تحوّل العاشق بريئا يختزل سيلا من الحكايا والفرح، ولفرط جمال الحلم، يظنّه العاشق حقيقة؛ ليصحو من غفوته متجرّدا منهزما إلا من خيبته، لكنّه بعد التّجربة يغدو صلبا، أكثر عمقا ووعيا، وذلك بعد أن تتراءى له الصّورة الأوفى والأكمل.
تصف الشّاعرة تلك الحالة وتكتب عن فرح البداياتِ في أيّ علاقة جديدة، تلك التي تنطوي عادة على قدر كبير من الدّهشة، فتمنح العاشق طاقة وإقبالا على الحياة، تقول في قصيدة الحبّ الفجّ (ص5):
أدخلَني روْضًا أغناني
عن كلِّ رياض الدُّنيا
وحباني أمَلًا وورودًا وكُرومًا
يتبخْتَرُ فيها الحُبُّ ويَسْطَعْ
وتتابع إلى أن تقول:
فتدافَعَ نحوي موْجُ حياتي
وتَحَوَّلَ حُبّي مِحرابًا ومُصَلّى وقضيّهْ
وغدوْتُ أُكابِدُ بُعدًا عن روحي
واُصارِعُ ظِلًّا يغمُرُني ويحوِّلُ
كُلَّ حياتي جزءًا من آخَرْ
فاختلطَ الضّامِرُ فيها بالظّاهِرِ فِيَّ
تَحَوَّرَ لوْني وتبدَّدَ فيَّ بريقٌ أعماني
فتجدَّدَ بَصَري، لأرى
طفلةَ عُمْري تتعافى، تتنامى
تركُضُ خلفي وأمامي
وتُعيدُ الرّوحَ إليَّ
من وجهة نظر فلسفيّة، لا يمكن التّعبير عن الحبّ منطقيا أو إدراكه بالعقل، فهو لغز غير قابل للتّفسير، يشبه إلى حد كبير تجربة صوفيّة.
يعتبر سقراط أنّ سّعادة الحبّ تتمثّل بالجمال والخير، ويكتب الأديب المسرحيّ أريستوفان: لا يكفي أن يكون المحبوب هو النّصف الآخر كي نحبّه، فعلى هذا الطّرف أن يكون خيّرا ومتفهّما، وإلا فسينتهي الارتباط إلى السمّية والأذيّة.
الأسئلة ودلالة المعنى:
في مواضعَ كثيرة نجد بعض الحيرة والتّساؤلات التي تُقدم من الشّجن الكثير، ومن الشّعور بالفقد والضّياع الذي رافق الشاعرة، فكتبت (ص46):
واعترتني حيرةٌ
فتفجَّرَتْ فيها سؤالاتي
تُوَلِّدُ ضجَّةً في محجري
وتحوَّلَتْ لُغةً تُحاكي
كُلَّ أيّامي وتحكي قصَّةَ
القلقِ الدّفينِ بخاطري
وتُطرَحُ هنا بعض الأسئلة؛ لتغدو المفردات أكثر إیحاء وانزیاحا، فتدفع القارئ إلى الوقوف على دّلالة السّؤال، ولعلّ أصل المفاهيم الفلسفيّة سؤال يتبعه سؤال، مما يفضي إلى البحث والوقوف على أسرار الحياة، أمّا منبت السّؤال فهو الفضول أو الدّهشة التي تولّد المعاني.
تُطرح الأسئلة في أكثر من موضع، أذكر منها:
-
حتّى متى سأظلُّ تائهةً؟
-
هل لي بلحظةِ نشوةٍ أن ترتقي، وتُثير بي لحنًا تخَمَّر؟
-
هل أخطو نحوَ خميلةِ حُبّي أم أجري؟
-
هل أعشَقُ الغياب؟
-
هل يحتويني حُبُّهُ؟
-
هل أنحني وأنطوي؟
-
هل أستجيرُ بالنّوى وأهجُرُ العِباد؟
-
هل يحتويني حُبُّهُ؟
-
هل أُدْمِنُ الحياةَ في غُروبِها؟
-
كيف استطاعت حِقبةٌ قَبليّةٌ، بسوادِها وبِجهلِها، وهْبَ المعاني كلِّها، لذكورةٍ تُرفِّعُها على عرشِ الحياةِ؟