في ذكرى رحيلها: ماذا تعلِّمُنا جين أوستن عن العلاقات الإنسانية؟

في ذكرى رحيلها: ماذا تعلِّمُنا جين أوستن عن العلاقات الإنسانية؟

مولود بن زادي*

 

في مثل هذا الشهر من عام 1817، رحلت الكاتبة الإنكليزية جين أوستن عن عمر يناهز 41 عاما. استهلت أوستن مشوارها الأدبي وهي لا تتعدى سن الثانية عشرة. ولم تكتب إثارة للأنظار ولا رغبة في شهرة أو ثراء، وإنما رغبة في المتعة لها ولأسرتها. فالكتابة لدى جين أوستن متنفس إبداعي لخيالها، ووسيلة للشعور بحريتها واستقلالها، والتعبير عن مشاعرها وأفكارها، وانتقاد العادات والأعراف الاجتماعية في عصرها، وهو بلا ريب أحد أسرار خلود اسمها، وبقاء أعمالها، بعد مرور أكثر من قرنين على رحيلها.
كتبت جين أوستن في مشوار حياتها القصير أربع روايات: «العقل والعاطفة» (1811) و»كبرياء وتحامل» (1813) و»مانسفيلد بارك» (1814) و»إيما» (1815) و»قناع» و»دير نورثانجر» (نُشرتا معا بعد وفاتها عام 1817). سعت من خلالها إلى رصد الواقع في بريطانيا في تلك الحقبة من تاريخها، وتصوير حياة الطبقة المتوسطة البريطانية في مستهل القرن التاسع عشر. وها هي روايات أوستن الكلاسيكية ـ رغم قلة عددها ـ تجتاز اختبار الزمن لتصل إلينا تحمل لنا دروسا وعبرا ورؤى قيمة عن جوانب متعددة من الحياة ومنها، العلاقات وما يحيط بها من مشاعر وتوقعات مجتمعية ووعي بالذات ونمو شخصي. فيا ترى، ماذا تعلمنا جين أوستن عن العلاقات؟

الحب الحقيقي

يُعدّ الحب والرومانسية من الثيمات الأكثر ترددا في أعمال جين أوستن. تتناول الحب من خلال شخصيات مختلفة، ومن خلفيات وطبقات اجتماعية متعددة، حريصة على رسم معالم الحب الحقيقي الذي تنظر إليه على أنه عاطفة عميقة ودائمة تربط شخصين، تبنى على أسس الاحترام المتبادل والتفاهم والتوافق. والحب الحقيقي، لدى أوستن، يتعدى حد الانجذاب الجسدي فيرقى إلى مستوى التآلف الفكري والعاطفي. وغالبا ما يتميز الشريك الحقيقي، في رواياتها، بالقدرة على الإخلاص للمشاعر والتضحية والاجتهاد للتغلب على المشاكل والعقبات وتجاوز التوقعات المجتمعية المؤثرة في العلاقات. والحب الحقيقي ليس مجرد انجذاب عابر، وإنما التزام حقيقي ورباط وثيق يصمد أمام اختبار الزمن. ولتجسيد الحب الحقيقي في الواقع، تؤكد أوستن على أهمية اشتراك الحبيب في القيم والمبادئ والمعتقدات والرغبات والتطلعات، فالسعادة الحقيقية لا تتحقق بالثروة أو المقام، ولا من خلال التوقعات المجتمعية، وإنما من خلال علاقة عاطفية حقيقية متكافئة. ولا بد من أن يكون الحب أصيلا صادقا كاملا، إذ تقول في رواية «دير نورثانجر» «لا يمكنني أن أتصور حبا نصفيا تجاه الآخرين، فذلك ليس من طبيعتي» وفي رواية «إقناع» تعدّ شخصية آن إليوت أفضل نموذج للحب الحقيقي، فرغم إلغاء الخطوبة بالكابتن فريدريك وينتورثمرور نتيجة تأثير المجتمع، إلاَّ أنّ حبها له يبقى ثابتا لا يتغير. تتجلى ملامح الحب الحقيقي أيضا في رواية «كبرياء وتحامل» حيث تبدو العلاقة بين إليزابيث بينيتا والسيد دارسي في بداية الأمر مضطربة نتيجة الأحكام المسبقة، وفي وقت لاحق تتطور إلى حب عميق حقيقي، عندما يتفهم كلاهما ظروف الآخر ويقدِّر طبيعته الحقيقية.

الروابط الفعالة

غالبا ما تسلط الكاتبة البريطانية جين أوستن الضوء في مؤلفاتها على دور التوافق النفسي، وتوفر القيم والمبادئ المشتركة والتفاهم المتبادل في إرساء دعائم العلاقات السعيدة. فمجرد الإعجاب والانجذاب لا يكفيان لحفظ العلاقات وصيانتها من التعثر الانهيار. وتشدد الكاتبة على أهمية التعبير الصادق عن المشاعر والحوار المفتوح في بناء علاقات دائمة، فالمشاكل الزوجية غالبا ما تنتج عن قلة التواصل البناء وغياب الحوار الواضح وعدم الرغبة في الإصغاء إلى الآخر وتفهم ظروفه واحتياجاته، وعدم الاجتهاد لحل النزاعات وتشييد علاقات هادفة، يتجلى ذلك في رواية «إقناع» حيث يسبب غياب الروابط الفعالة لبطلي القصة آن إليوت والكابتن وينتورث خيبة أمل وحسرة وانفصالا طويل الأمد. وفي رواية «كبرياء وتحامل» تتعثر العلاقة بين إليزابيث بينيت والسيد دارسي نتيجة سوء الفهم والافتراضات الخاطئة، وفي الأخير تكلل العلاقة بالنجاح بفضل الحوار المفتوح والمحادثة الصريحة.

القيود الاجتماعية والطبقية

من الثيمات التي تتردد كثيرا في أعمال أوستن تأثير التوقعات الاجتماعية والاختلافات الطبقية في العلاقات الزوجية. نرى الكاتبة تستميت في الدفاع عن حق الفرد في التصرف بحرية وتلقائية متحديا الحواجز الاجتماعية التي تؤثر سلبا في حياة الأفراد وعلاقاتهم بمن حولهم في المجتمع. فالتصرفات العفوية النابعة من قناعات شخصية خير من التصرفات التي تمليها الأعراف المجتمعية. ففي رواية «كبرياء وتحامل» تنتقد أوستن التسلسل الهرمي الاجتماعي الصارم السائد في ذلك العصر، بتصويرها العقبات التي واجهتها إليزابيث بينيت والسيد دارسي نتيجة اختلاف أوضاعهما الاجتماعية، بطلا الرواية يتمكنان في نهاية المطاف من كسر هذه القيود والمضي في درب السعادة المبنية على أسس الحب الصادق والتفاهم المتبادل والانسجام.

الاعتراف بالعيوب وتصحيحها

ترى جين أوستن أن العيوب من طبيعة البشر، وجزء لا يتجزأ من العلاقات. غالبا ما يواجه أبطال رواياتها نقائص وسلبيات في مشوار حياتهم، يتغلبون عليها تدريجياً مع تقدم القصة. نلمس ذلك في رواية «كبرياء وتحامل» حيث تصور لنا أوستن البطلة إليزابيث بينيت على أنها امرأة متعجرفة تسارع إلى إصدار أحكام جائرة في حق البشر من حولها دون الاجتهاد لفهمهم واكتشاف أفكارهم ومعرفة ظروفهم. وفي وقت لاحق تشعر بمدى كبريائها وتحاملها، ما يؤدي إلى تحقيق الوعي بالذات وفهم الآخرين فهما صحيحا وتعزيز علاقاتها بأفراد المجتمع من حولها. وبالمثل، في رواية «إيما» تسيئ البطلة إيما وودهاوس فهم مشاعر الآخرين ويؤول بها الأمر إلى التدخل في علاقاتهم. ومع تطور أحداث القصة، تدرك إيما عيوبها وتتعلم من أخطائها وتكتشف معنى الحب الحقيقي.

النمو الشخصي والوعي الذاتي

تكشف لنا روايات أوستن عن إيمانها الراسخ بأهمية الوعي الشخصي والتأمل الذاتي. فعلى المرء أن يعي ذاته وأن يدرك مشاعره قبل الانخراط في علاقات غرامية والانجراف في ارتباطات مصيرية، وهكذا يخضع أبطال رواياتها لنمو شخصي يمكنهم من حل مشاكلهم والتعلم من أخطائهم وإدراك أعلى مستويات الوعي الذاتي. فنراهم في النهاية يعيشون رفقة شركاء يحترمونهم ويقدرون ظروفهم. وهكذا تلهمنا أوستن للبحث عن سبل إدراك النمو الشخصي والوعي الذاتي في علاقاتنا، وتحثنا على قبول التغيير والتأقلم والاجتهاد الدائم لتحسين الذات، وتقديم ما هو أفضل. وفي رواية «إيما» يُبرز البطلان إيما وودهاوس في بداية علاقتهما نقصا في الوعي الذاتي وعجز عن فهم مشاعر الطرف الآخر، ومع تسلسل أحداث القصة، تصبح إيما شيئا فشيئا أكثر وعياً بذاتها، وإدراكا لأخطائها وأعمق فهما لعواقب أفعالها.

مبدأ النزاهة والبعد الأخلاقي

تشغل ثيمة النزاهة والشخصية الأخلاقية موقعا مهما في روايات أوستن، حيث تؤكد الكاتبة على أهمية الإخلاص في العلاقات، وتحذرنا من الآثار الوخيمة للمراوغة والنفاق، فغالبا ما يواجه أولئك الذين يفتقرون إلى هذه الصفات صراعات وصعوبات جمة في علاقاتهم، وبذلك تؤكد أوستن على ضرورة إيجاد شركاء يتمتعون بشخصية أخلاقية سليمة لبناء علاقات قوية ومشرفة، يتجلى اهتمام أوستن بمبدأ النزاهة والأخلاق السامية في رواية «إقناع» فعلى الرغم من الضغوط المجتمعية وسوء الفهم ، يبرز الكابتن وينتورث نزاهة عالية ببقائه وفيا لمشاعره تجاه آن إليوت.. نراه يتصرف بعفة وشرف ولا يحيد عن مبادئه حتى إذا اشتدت الظروف قساوة.. نلمح ذلك أيضا في رواية «مانسفيلد بارك» والتناقض الصريح بين صِدق شخصية فاني برايس ونفاق شخصية السيدة نوريس وشخصيات أخرى في الرواية. وفاء فاني لنفسها وأخلاقها يعينها في آخر الأمر على إيجاد الحب وتحقيق السعادة، في حين يتحمّل ذوو المظاهر الكاذبة عواقب أفعالهم.

موازنة الحب والعقل

بينما تقر أوستن بأهمية الحب الرومانسي والعاطفة في العلاقات، فإنها تحذر أيضا من عواقب الخضوع المفرط لهذه المشاعر، فالكاتبة البريطانية تؤكد ضرورة الجمع بين المشاعر والعقلانية لاتخاذ قرارات مستنيرة سليمة، وبناء روابط قوية ومستدامة. وتعلمنا أوستن أنّ الحب الذي يقوم على أساس العاطفة وحدها قد لا يصمد أمام اختبار الزمن، فالعلاقات طويلة الأمد تتطلب روابط أعمق تستمد قوتها من العاطفة والمنطق والعقلانية معا. في «كبرياء وتحامل» تبرز لنا أوستن أهمية الموازنة بين الحب والعقل من خلال العلاقة بين إليزابيث بينيت والسيد دارسي. ففي بداية مشوار حياتهما، تتعثر علاقتهما نتيجة الأحكام المسبقة وسوء الفهم. وبفضل التأمل الذاتي والنمو الشخصي، يتعلمان الموازنة بين العاطفة والعقلانية، ما يسمح لهما بالتغلب على العقبات وبناء علاقة ذات مغزى، أساسها الاحترام المتبادل والحب الحقيقي.
وخلاصة القول، تقدم كتابات أوستن رؤى قيمة حول تعقيدات وديناميكيات العلاقات الرومانسية، مع التركيز على أهمية الوعي الذاتي، وحرية الاختيار، والتوافق، والتواصل في إرساء أسس روابط سليمة هادفة. وهكذا تقدم لنا جين أوستن بالفعل دروسا خالدة حول العلاقات، مؤكدة من خلال مؤلفاتها على أهمية الحب الحقيقي والتواصل الفعال والنمو الشخصي والنزاهة والإخلاص وضرورة تحقيق التوازن بين العواطف والعقل وتجاوز حاجز التوقعات المجتمعية. ومن خلال تأمل تعاليم أوستن وتطبيقها في حياتنا، يمكننا بلا ريب تنمية روابط أقوى وأكثر جدوى مع شركائنا.

كاتب جزائري

*عن القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *