لفتات حول تجربة “محمد الصمادي” القصصيّة

(ثقافات)

لفتات حول تجربة  “محمد الصمادي” القصصيّة

*محمد فتحي المقداد

من المُلاحَظ أنّ نصوص القاصّ  “محمد الصمادي” تتّسم بواقعيّتها البَحْتة القائمةِ على المُحاكاة، والتمثيلِ، والتأشير على بعض القضايا الاجتماعيّة عُمومًا، والقائمةِ على المنطق العقلانيّ أساسًا، بالمُحاكمة وتحليل المواقف، وإعادة تركيبها ضمن توليفةٍ سرديّة فيما بين نصوص قصصيّة قصيرة وقصيرة جدًّا، جاءت أحيانًا ساخرةً حاملةً لروح الدُّعابة؛ لتمرير نقد بعض مظاهر السّلوك الفرديّ والجماعيّ.

فالأديبُ يُلاحظُ، ويُؤشّرُ، ويُلمِّحُ ويُصرّحُ، ويُؤكّدُ، ويُكرّرُ للفت الانتباه؛ لأنّه غير مَعنيٍّ بالتفسير، والبحث عن حُلول وإجابات للمعضلات والمشاكل.

تتّضح ملامح تجربة “محمد الصمادي” القصصيّة بجلاء لا مِراءَ فيه من خلال مجموعته الأخيرة “جرعتان والبقية تفاصيل“، التي تُمثّل لوحاتها ومشهديّاتها تشكيلًا قصصيًا بخصوصيّة أو بنكهة “محمد الصّمادي“،  وبناء لا يختلف عن طريقة الفنانين التشكيليّين بطريقة تأسيس وتأثيث لوحاتهم، وذلك للتقريب والتشبيه مع ملاحظة اختلاف الحالتين. هذا يكتب بالقلم وذاك يرسم بريشته ألوانًا مختلفة تتوافق وتتنافر، لكنها في النهاية تكوينًا ذا محتوى، والنصّ القصصيّ عند “محمد الصمادي” عبارة عن التقاطات قافزة فوق الزّمان والمكان، حتّى يمكن تعميم ذلك على جميع نصوص المجموعة؛ لتكون سِمَةً وطريقةً اتّخذها الكاتب أسلوبًا له.

هذا القفز المُتوثّب بفرط حركته داخل نصوص المجموعة، مرهق للقارئ. مُوهِنٌ لأنفاسه. ربّما حالة القلق الإبداعيّ عند الكاتب، تبدو كتابته حاملة لهمومه القلقة بأفكاره، ومرّةً خائفةً، وضاحكةً، وباكيةً، ولامباليةً، وفوضويّةً، ومُستقيمةً، ومُجدّفة عكس التيّار. هذه المعاني المُستقاة من مطالعة نصوص المجموعة، جاءت العبارة الثانية من العنوان “البقية تفاصيل“، وفي التفاصيل يكمن الهدف، والدّرس، والرّسالة، وذلك من انعكاسات دواخل نفس “محمد الصمادي” على مفرداته وجمله ونصوصه، ليغطّي صورة كاملة واضحة بمعالمها الشخصيّة والنفسيّة والرّوحيّة للكاتب.

وفي اختيار العبارة التي جاءت على الغلاف الخلفي، يتضح شيئا من التماعات المعاني السابقة: “«نَعَمْ وَكَيْف أكُون سَلِيْمًا فِي عَالَمٍ. الْعَيْش فِيْهِ مَرَضٌ؟.  لَدَيّ أَمْرَاضٌ كَثِيرة يَصْعُب عَلَيَّ حَصْرُهَا؛ فَأَنَا مَرِيضٌ بالخوف والأمل، مَريضٌ بِالْمَحَبَّة، مريضٌ بِالْقِرَاءَة وَالْكِتَابَة، مَرِيضٌ بِالْفَقْرِ، مَرِيْضٌ بِالزَّائِدَة  الدُّوَدِيَّة فِي زَمَن تَنْخَر فِيْهِ الدّيدانُ كُل الْعَلاقات الإِنسَانَية». هذه العبارة بمثابة عتبة المجموعة القصصية بأكملها، ولتكتمل رسالة الكاتب إلى قارئه.

وفي مجموعته “جرعتان والبقية تفاصيل” لوحظ؛ تجلّيات وتقنيّات “محمد الصمادي” القصصيّة، وتُعتبَر تجربة يُعتدّ بها، حَرِيّة بالاطّلاع عليها، ودراستها أدبيًّا ونقديًا؛ تُضاف لتجربته السّابقة في إصداراته، وفيها تتّضح ملامح تجربته المُجنّسة قَصًّا وسردًا، بنكهة اللّون الأدبيٍّ الواحد، الذي يبدو النصّ فيه للوهلة الأولى مُفكّكًا غير مُترابط، ولكن بالتوقّف والتدقيق تظهر الخيوط المتينة الرابطة للنص، والتي تجعله كتلة واحدة، وذلك من خلال رابط المكان والزمان معًا، أو المكان منفردا أو الزمان منفردًا أيضًا، وفي أحيان يأتي ذلك ظاهرًا بالتصريح عن المكان والزمان، وأخرى بالتلميح أو يكون مُستتِرًا يفهمه القارئ ويستخلصه من سياق قراءته للنصّ، وهذا الأمر ينطبق على المجموعة بأكملها، كما أنّ البطل هو رابط آخر من روابط النصّ القصصيّ، وبهذا فإنّ الشخصيّة المحوريّة المُحرّكة للحدث بالاتجاه الذي يريده، ويريد الوصول إليه. هكذا تتكامل أركان القصّ وروابطه الوثيقة عند “محمد الصمادي“.

ولا يتأتّى لأيّ قارئ فهْمُ وسَبْرُ أعماق قصص “محمد الصمادي“، إلّا بالتزامن مع فَهْم شخصيّته، وطريقة تفكيره المُنعكسة على كافّة شؤون الحياة عُمومًا، ومحيطه المُصغّر، وهو الذي كتَبَ نصوصه بهذه الصِّيغة والصُّورة عامدًا مُتعمِّدًا عن سابق إصرار وتصميم، وعلى حدّ قوله المُتكرّر: “أريدُ إيصال رسالتي بيُسرٍ وسهولة، ولن تضيرني المُباشرة والوضوحُ، وسعادتي بتسليم مفاتيح نصّي للقارئ“.

أخيرًا أقول رأيي كقارئ: “إنّ نصوص المجموعة -جرعتان والبقيّة تفاصيل- تُقرأ كنصوص قصّة قصيرة مُتكاملة مُتوافقة، أو تُقرأ كلوحات نصوص قصّة قصيرة جدًّا (ق. ق. ج) مُتكامِلة مُتوافِقة، في حال تفتيت وتجزيء أيّ نصٍّ منها إلى (ق. ق. ج)، ولا يضيرُ قراءة أيّ من نصوص المجموعة من أعلى إلى أسفل أو بالعكس“. وكما الحياة عُمومًا تجربة تُستقى منها الدُّروس والعِبَر والعِظات، فإنّ الكتابة تجربة، وكلّ تجربة ترومُ الصّواب والفائدة، وربّما يشوبها الخطأ والزّلل بجميعها أو ببعضها، والله المُوفّق.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *