فصل أخير يكفي

(ثقافات)     

   فصل أخير يكفي    

  إفلين الأطرش

  لأول مرة سأكتب في شأن خاص خارج عن سطوة الشأن العام وطغيانه، فتحين المناسبة ولا أحدّد مدخلاً للكتابة، إذ تربكني الذكريات بتداخل الكثير من  جمالاتها مع قسوة  الأخيرة منها حيث يغيب أحد قطبيها الأساسيين عن المشهد، بعذر مفهوم كآخر معارك الحياة المعيشة، لا تملك سوى  الرضوخ  لإقراره مع رفض الموافقة عليه لقبوله التام.

    فنحن لا نختار مجيئنا إلى عالمنا لنعيش فيه، لكننا نقرّ ذلك بالمضيّ في ما يرتّب لنا من أصحاب قراره، وحين نُقدم على تحدّي الخوف في دواخلنا، نمتلك قرارنا الأول، وبتحقيقه نبدأ صوغ أحلامنا وسعياً وراءها، لنصنع أنفسنا وفقها. قد تتكسّر أو تتبعثر تلك الأحلام، وبخاصّة الكبيرة منها، على دروب السعي الصعبة، بوعورتها أو انزلاقاتها، التي لا نمتلك إزالتها أو إزاحتها أحيانا، فهي ضمن محيطها المفروض بقوّة من سبقنا إلى عيش وسعي، فلكلّ اجتهاد يصل حدّ السيادة.

  ونحن نقتدي ولا نقلّد، نتمثّل ولا نمثّل، نحترم ولا ننقص قيمة، نحافظ على إنسانيتنا بعد إنسانيتهم فهي مشترك جمعي، فنختار في العلاقات من تجمع أحلامنا أحلامهم الكبيرة  كي تكون سعيا مشتركا فاعلا. أما في الأحلام الخاصة وأهمها الزواج، إذ هو الارتباط الأزلي الأسمى في العلاقات الثنائية، فأنت تعمل على إزاحة كلّ ما  قد يعترض  طريقه كحجر عثرة، فهذا شأنك الخاص يقوده فكرك وحدك، وقد تساير بعض المفروض من عادات وتقاليد لئلا تخرج كثيرا عن النصّ.

  هذا كان حالنا ” عدي مدانات” وأنا قبل خمسين سنة، من يوم الأحد تمام الساعة الحادية عشرة  صباحا في الأول من تموز العام  1973 حيث سنتحصّل على وثيقة زواج كنسي في حفل بسيط، يقتصر على المراسم الكنسية المتبعة في كنيسة” المخلص” شارع سقف السيل وسط عمان، وتقديم ” مطبقيات العرس” كتذكار لذاك اليوم  بحضور أهلينا، من تمكّن المجيء برفقتي من بيت ساحور الفلسطينية ومن تمكن المجيء من الكرك الأردنية، وبعض أقارب الطرفين والأصدقاء والمحامين من مقيمي عمان، بعيدا من كلّ مظاهر تسود هذه الأيام، لنبدأ حياة تشاركية دامت وتدوم .  فشخصياً لا أعترف بتصنيف اجتماعيّ يدوّن  في الوثائق الرسمية، فهو حكايتي التي عشتها ولا أزال أعيشها، بالرغم من وثيقة الغياب…

    وحيث أنني أريد الخلاص من مغبة الفشل الكتابي، وحيث أنني لا أزال أتابع تحقيق بعض أحلامنا العالقة مع مرور الزمن، سواء المشتركة أو المنفردة منها، أستعين بما كتبت سابقا. يحضر كتاب ” ترحال” ، مَن حمّلته بعضاً من هموم  مسيرتينا المنفردتين والمتداخلتين لتغدوا مسيرة واحدة.  وحيث أنني سجّلت الحكاية كما هي، فلم أجد تلخيصا خاصا ب ” عدي” وبي  من فصولها العشرين إلاّ فصلها الأخير،  فوحده  قد يكفيه هو في عودته إليه ليعينه  في ترحاله الجديد شديد الاختلاف فلن يكفّ عمّا اعتاد: “السعي وراء الحلم ليولّد قصّاً” ، فتبقى المناسبة كما نعرفها  نحن الاثنين …….الذكرى الخمسون ليوم زفافنا.

*********************

حين حشرتُ في معرفة ماهيّة مرض، معك ومع أبنائنا وأهالينا وأحبّتنا، قبل أقلّ من ثلاثة أشهر على الرحيل. دون أصوات تعلو، إلا ما يقتضي الحال في أقلّ أوقاته، كتعبير صامت عن جيشان النفس بما فيها. ارتضيتُ تحوّلي إلى إنسان آليّ. تمّت برمجته، وفق ما تتطلّب متابعة حثيثة، لدحر ذاك الآتي. فلم يكن ما أعرف أكثر مما أُخبرنا به سوية. اختلف بنا السعي باختلاف الحلم آخر أسبوعين، بإعلانك لأخيك ولي، في زيارته الأسبوعية المنتظمة تلك الفترة، ” أن الرحلة قد بدأت، فالجسد يعرف ما به ويخبر صاحبه”. ليعود بانفراده وارتداده على دائرته الأضيق.

 تنامى خوفي مرّة واحدة وصار رعبا يحرّكني، في تماثل مع تنامي وجعك غير المُعلن بقوّة جهر. سأعترف الآن أنّ من يده في النار يشعر بوجع أشدّ بكثير ممن يرقبه. مع أنه قد يتألّم بشدّة  لما يشعر به ذاك المتوجّع، لاستحالة الإحلال الجسدي  والنفسي المرافق. وبعلوّ صوت إرادتك أكثر من أي صوت، أَدخل معك حلمك بظلمات نفقه. لم أُفلح كثيرا في تغيير برمجتي، فلا يزال بعض حلمي المنفرد يشدّني، ويبعث بعض أمل مرجو. ومسؤولية تجاهك تتعاظم. لحظتها، تملّكني الشعور بأنني تلك الشاة التي سيقت إلى الذبح.

تعود قبيل الاقتراب من اكتمال عام رحيلك الأول. باكيا على ذاك الجانب من السرير، دون حراك أو نطق، مُثبتا نظرك علي لا تُبعده. ولما لم أجدك، أو أجد من استعنتُ بهم، لمساندتي في تخليصك من تلك الحالة. أصحو على رسالة واضحة. خذلاني لك في ما كنت ترددّه ليكون سبب طمأنينة تجاهنا ترافقك. وبسطوعها هي فعل خيانة لثقة لم أحافظ عليها. فها أنا أوجع قلبك لحالة انكسار أعيش. لا تريد لها استمرارية أو ديمومة، بدليل أنك لم تنطق بحرف واحد.

ولأنك أنتَ لا تزال، تُبقي قلبك معي ليعين عقلي. وتمدّ يدا حانية  من جديد لتحضن ضعفي. في تماثل حقيقي لوداعك لي يوم رحيلك. أدركتُ أنك بحاجتي لأعينك. تماما كحاجتي إليك لتعينني. أعدتُ شريط حياة طويل، يزخر بعيش وطمأنينة وراحة تجلّلها المحبة. بدأت التفكير في كتابة يدويّة إليك. وعلى مرأى منك في ركن إقامتك من غرفة جلوسنا. تتابع معنا تفاصيل أيامنا. فلم  ولن يتغيّر أي شيء يُذكر. قد يكون فعلي ذاك لقرار جديد اتّخذت. ما هدّأ من روعك، فقلّل من توجّعك. فها ما أكتب يصل، وما أقول تسمع. فأنتَ لا تزال معي، تراني وترعاني. أواظب رغم حالات انقطاع لم أكن أقوى على تجاوزها، لزيادة توجّع من نار مُحرقة لا تبتعد.

 تزورني في مرّتك الثانية، قرابة انتهاء عامك الثاني. مستعدّا لمغادرة المنزل بالخروج من غرفتنا كعادتك. بجسد لم يعرف أي مرض بعد. بكامل وسامتك وأناقتك المعهودتين. بإشراقة وجهك لسعادة طاغية. بابتسامة آسرة  ميّزتك، استقبلتني بها وودّعتني بها. في العيش الجسدي كما في تلك الزيارة. تقول من خلالها: “حابب أضل معك أكثر، بس لازم أروح”. تماما كما نطقتَها.

لم أفُه بأي حرف. ولم أتابع خروجك لتذكير بهاتف نقاّل قد يحتاجه أحدنا. ولا طلب أن تنتبه لقيادتك، فأنا في انتظارك.  ولا تأكّدٍ من إغلاقك الباب الخارجي بالمفتاح، بعد رؤيتي لك ملوّحا بيدك. وإسماعي كلمات اعتدتها في هذه الحالة، تختمها ب “يسعدك”.

لم أنتحب كثيرا كما المرة الأولى. إذ عليّ فهم الرسالة المرادة. مهما تستغرق من أسابيع طويلة بجمع حروفها  لتكتمل. فأنت لا تريد مطلقا إعادة عيش تلك الفترة من اختلاف الأحلام والسعي. وهي موافقة ضمنية منك على رفضي لها. فأنتَ أبقيتَ على تصالحك النفسيّ لآخر لحظة عيش، ولآخر لحظة وداع.  إذن عليّ إبعادها عنك، بحفظ حضور صورة زيارة دالّة.  لذلك سأكتفي بيقين تلخيص مسيرة حياتك، بتوصيف وجيد لك:

      ” فأنا في المجمل لم أتغيّر، فلقد شددتُ وثاقي على قناعاتي ونهجي طوال حياتي.”

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *