المُترجم (المجرم)… والرّواية (الضحية)!

المُترجم (المجرم)… والرّواية (الضحية)!

د.حنين عمر

من الطبيعي أن تتباين آراء الناس في عوالم الأدب بشكل عام، ومن الطبيعي أن نجدهم يختلفون – بشكل خاص- حول كثير من الروايات العالمية باختلاف الذائقة والوعي والتوجهات والثقافات والمشارب الإيدليوجية عند القراء، لكن ما مدى صحة هذه الأحكام التي تصدر يوميا بشكل عشوائي في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي؟

إن محاكمة هذه (الأحكام) قد تؤدي غالبا إلى اكتشاف مشكلة أخرى لا علاقة لها بنص الكاتب ولا بمحمولات القارئ، فإن استثنينا الأحكام المبنية بعد الاطلاع على العمل بلغته الأصلية – على ندرتها- باعتبارها علاقة مباشرة بين طرفي المعادلة (الروائي والقراء) ولا يتدخل فيها أي طرف ثالث، فإننا سنجد أنفسنا في مواجهة إشكالية خطيرة جدا بدخول الطرف ثالث في المعادلة – وهو المترجم – الذي له دور محوري في صناعة الصلة اللغوية والثقافية التواصلية بين الكاتب الأجنبي والقارئ العربي أحادي اللغة، بل يعدّ الحلقة الأقوى لأنه يستطيع أن يتحكم بشكل أو بآخر في أحكام القراء، فقد يجعلهم يحبون رواية ويكرهون أخرى، ويمدحون كاتبا ويذمُّون آخر، وقد يحكمون على روائي عبقري بالفشل لمجرد أنهم لم يطلعوا سوى على ترجمات رديئة لأعماله قام بها مترجم (عابثٌ)، وقد يفضلون كاتبا أقل في المستوى لمجرد أن حظه أوقع أعماله في يد مترجم أمين ومحترف، استطاع أن يجعلها تبدو – رغم مستواها العادي- أفضل من أعمال عظيمة مترجمة بطريقة رديئة.

وليست ظاهرة (الترجمات الروائية الرديئة) وليدة اليوم، بل هي قديمة جدا منذ قام المنفلوطي بإعادة كتابة الروايات الفرنسية بعد أن حكتها له زوجته ووضع أسماء الكتّاب الفرنسيين عليها وسميت (ترجمات) مع أنها ليست كذلك بل هي إقتباس وإعادة كتابة أو ما يسمى بالتوطين (تعريب- في حالة اللغة العربية)، والفرق بين التعريب والترجمة فرق شاسع جدا.

ولعل السبب الرئيسي هو العجز اللغوي لكثير من المترجمين الذين يستسهلون فعل الترجمة دون أن يفهموا أهمية الحفاظ على قيمة النص الأصلي، فأغلبهم يكون مستعجلا لإنهاء العمل والحصول على مكاسبه المادية والمعنوية، ولا يهمُّ مدى أمانته أو جودته ما دام يرتكز على اسم كاتب أجنبي – شهير غالبا- وما دام لا أحد سيراقب جودة العمل لغياب العمل النقدي الترجمي الأكاديمي بشكل شبه كلي في العالم العربي، والاستناد على مقولة “الترجمة خيانة” لتبرير العجز والاستسهال، في حين أن “الترجمة أمانة” لا يمكن أن يحملها سوى من هو جدير بها.

فبعض الروايات الموجودة في الاسواق لا يمكن أن يقال عنها سوى أنها (جريمة) مزدوجة، في حق كاتبها الأصلي ثم في حق القراء الذين يدفعون أموالهم لشراء كتاب سيصدمهم ويخيب آمالهم وقد يقطع علاقتهم ببقية أعمال الكاتب بعد ذلك.

وإن شئنا الذهاب أبعد من (جريمة) الركاكة والرداءة اللغوية والأسلوبية، فسنجد جرائم أخرى أبشع وأكثر توغلا في غياهب الجهل، فالموضوع يتعدى إفساد اللغة والأسلوب إلى إفساد المتن الروائي ذاته، من خلال حذف كلمات واستبدالها بأخرى، وحذف مقاطع كاملة لأسباب شتى مثل الرقابة الأدبية التي يمارسها المترجم على القراء وكأنه وصيٌّ شرعي عليهم وعلى عقولهم، فيحذف ما يراه خادشا للعادات والتقاليد أو ما يراه غير مفيد من وجهة نظره، وقد نجد روايات من ألف صفحة مختزلة في مئتي صفحة، مثلما حدث مع رواية البؤساء لفكتور هوجو التي تحوي أكثر من نصف مليون كلمة (حوالي 2000صفحة) وتم اختصارها عربيا في روايات لا تزيد عن 250 صفحة!

فهل كان فكتور هوجو غبيا وساذجا وغير متمكّن من لغته وأحداثه ليكتب كل تلك الصفحات جزافا؟ في حين يعتقد المترجم أنه أذكى منه حين استطاع أن يختصرها إلى عُشرها؟ وهل من حق المترجم أساسا أن يختصرها أو أن يلمس أي شيء في متن أي رواية؟ الجواب قطعا هو : لا!

لكن السؤال الأخير يقودنا إجباريا إلى أعمق (الجرائم) وأكثرها خطورة وأقلها وضوحا للقارئ العادي، وهي جريمة تدمير السيميائية النصية، بمعنى : طمس الدلالات السميولوجية للنص الأصلي، وتفريغه من أهم الإشارات الثقافية والبنيوية والتفكيكية، وتحويله إلى نص آخر بمحمولات ودلالات أخرى تحجب عن القراء الكثير من حقيقة النص الحقيقي ومن جمالياته وعمقه، لأن النص الروائي ليس لغة فحسب، بل هو عالم من الدلالات الفكرية والثقافية والنفسية والاجتماعية التي يجب نقل كل ما يمكن نقله منها عند الترجمة، ولكن… إن كانت إشكاليات الترجمة العربية لم تستطع حتى الآن تخطي حاجز اللغة البسيط وما زلنا نجد ترجمات بائسة فيها حشد من الأخطاء الفادحة، فهل يمكننا – أصلا- أن نطرح إشكالية الحاجز السيميائي الأعلى تعقيدا والأعمق رؤية ؟

وعلى ذكر سيرة التمكن اللغوي، فإننا لا نستطيع طرح مشكلة ترجمة الرواية في العالم العربي دون أن نشير إلى عدد من الملاحظات الهامة جدا، أولها تتمثل في كون الأسماء الشهيرة في عالم الترجمة والتي تتردد كقرع الطبل المقدس في ساحات المشهد الأدبي، ليست دائما هي الأفضل، فكثير منها ليس أمينا في النقل، وكثير منها يعتمد على تلاميذه الذين يجمعهم ويقسم بينهم صفحات الكتاب بوصفه واجبا دراسيا، ثم يجمع صفحات الرواية منهم ويطبعها في كتاب عليه اسمه المبجل، في حين يلجأ بعضهم لحيلة أكثر طرافة من خلال الترجمة الإلكترونية – المضحكة غالبا- ثم إعادة صياغتها بطريقته، وقد لا تصنف بعض تلك الترجمات ضمن الرداءة اللغوية، بل قد تبدو جميلة وجيدة عند بعضهم، لكن ذلك لا يشفع لها ولا يبرر تدليسها، لأنها نسخ مزورة في النهاية، وهي أقرب إلى كونها نصا كتبه المترجم من كونها نصا للكاتب الأجنبي.

ولا بد أيضا من الإشارة إلى موضوع ترجمة النصوص الروائية عبر لغة وسيطة وضرورة مراجعته، مثلما فعل سامي الدروبي الذي يعد أشهر مترجم عربي للأدب الروسي، ولكنه في الحقيقة لم يكن يفهم اللغة الروسية من الأساس، وترجم أعمال دوستويفسكي من اللغة الفرنسية إلى العربية، مرتكبا – دون قصد – جنحة في حق النص الأصلي من حذف وتحوير وتغيير في المتن والكلمات، ولن أسميها جريمة لأنني أفترض حسن نيته على قلة إمكانيات ساحة الترجمة العربية آنذاك، لكن المثير للأسف هو ألا يتم تدارك تلك الأخطاء اليوم والتحدث عنها وتصحيحها مع أننا نملك كثيرا من المترجمين المختصين في اللغة الروسية، فلماذا لم تظهر نسخة جديدة لأعمال دوستويفسكي تتجاوز نسخ الدروبي القديمة، ولماذا ما زلنا نعتبره أفضل مترجم للأدب الروسي؟ مع اعتراضي على أن تكون ترجماته الجميلة لغويا مبررا للاستمرار في تداولها، فالتحفة الجميلة المزورة لا يمكنها أن تكون أهم وأفضل وأغلى من الأصلية حتى إن كانت أجمل منها.

أما عن تغيير عناوين الروايات الأجنبية – على مزاج المترجم والناشر- فحدث ولا حرج، إذ يمكننا أن نجد رواية واحدة بثلاثة أو أربعة عناوين مختلفة في الأسواق، قد تكون جميعها غير مطابقة للأصل، لأن من يسمحون لأنفسهم بهذا العبث لم يفتحوا غالبا في حياتهم أي كتاب يتحدث عن العتبات النصية، ولم يسمعوا عن جيرار جينات ولا عن غيره، ولا يمكنهم أن يستوعبوا كون العنوان عتبة نصية هامة تدخل في دراسته السيميائية، وأنه جزء من المتن، وجزء من الهوية الإبداعية للكتاب وللكاتب، لكن… هل يهمهم الكاتب الأجنبي المسكين الذي قضى عمره ينحت نصه كلمة كلمة ليقوم مُترجم (عابثٌ) بإلغاء كل تعبه ومسيرته بجرة قلم أو نقرة كيبورد؟ وهل يهمهم القارئ المسكين الذي قد يتم تخريب وعيه وذائقته ورؤيته الوجودية بالترجمات الرديئة والمزيفة مما يجعله يعيش طوال حياته حبيس أقفاص الأحكام الخاطئة التي صنعها له ذلك المترجم (العابث)؟

يبقى هذا السؤال مطروحا إلى أن تظهر في العالم العربي معجزة ما لتخلص القراء والكتاب من عبثية المشهد التّرجمي الذي بات مليئا بالمرتزقة والمدعين، ولترتبه وتنظفه ولتنصف المترجمين الجيدين – أصحاب الضمير والأمانة- الذين يؤمنون بالعمل الجاد ويبذلون ما في وسعهم من أجل منح كل ذي نصٍّ حقه وحقيقته، ومن أجل أن يكونوا حلقة قوية تربط الحضارات والشعوب واللغات والقيم والمشاعر الإنسانية… فـ “أولئك هم المفلحون”!

* عن مجلة أبوليوس 2019

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *