الفلسفة للجميع.. المنهج الديكارتي في إتاحة الفلسفة للرجل العادي
حاتم السروي – القاهرة
أن ينزل الفيلسوف من برجه العاجي حتى يشرح فلسفته لرجل الشارع، فهذا أمرٌ لم يفكر فيه عمالقة الفلسفة منذ عهد الحكيم “طاليس”، بل قد عانى الفلاسفة كثيرًا من تشغيبات العامة وديماغوجيتهم، وهذا الاتهام المستمر لأصحاب الفكر بالثرثرة والسفسطة وبيع الكلام، إلا أن الأمر تحول إلى العكس تمامًا على يدي “رينييه ديكارت” الذي استطاع بذكائه أن يحقق شعبية لم يصل إليها فيلسوف قبله.
وربما يكون “ديكارت” هو الفيلسوف الوحيد المعروف جيدًا عند العامة في شرق العالم وغربه، إذ يمكنك أن تسأل مواطنًا متوسط الثقافة عن هذا الفيلسوف وحينها ستكون إجابته: “إنه صاحب مقولة: أنا أفكر إذن أنا موجود”.
لقد تفطن “ديكارت” إلى الأزمة الكبيرة التي عاشتها الفلسفة طيلة العصور الوسطى، حيث دخلت في طور الجمود وأصبحت عَسِرَة الفهم شديدة التعقيد، ويضاف إلى ذلك أنها اختلطت باللاهوت وصارت وقفًا على رجال الكنيسة، وانقطعت صلتها تمامًا بالرجل “العلماني” أي الشخص الدنيوي الذي لا يحمل رتبة كهنوتية، وأصبحت الفلسفة مؤهلة للذوبان، لاسيما وأن التقنيات الحديثة بدأت تبهر الأوروبيين وتجتذبهم نحوها في الوقت الذي شاع فيه لديهم أن الفلسفة طبلٌ أجوف، وكلامٌ مرصوص لا طائل منه.
وهنا جاء ديكارت ليهبط بالفلسفة إلى رجل الشارع الذي لا يستطيع التحليق في سمائها بحكم الواقع المفروض عليه، ولأول مرة بدأ الناس يتفاعلون مع الفلسفة ويتأثرون بها، وبذلك أصبح “ديكارت” أبًا للفلسفة الحديثة، واستطاع أن يغير مسار الحضارة الغربية التي أصبحت بفضله تقوم على دعامتين هما: “العقل” و”التجربة” ومن ثم أصبح لقبه “أبا العقلانية” و”صاحب الشك المنهجي”.
ونحن لا نشك في أن شك “ديكارت” هو نسخة طبق الأصل من “شك الغزالي” ذلك الفيلسوف المسلم الطموح الذي كان بحاثا عن الحق متقد الذكاء دائم النقاش لا يقف عند معتقد حتى يقلبه على كافة جوانبه فإذا لم يسترح إليه تركه وبحث عن غيره، وقد نختلف مع الغزالي في النتائج التي وصل إليها أخيرًا، وهي المرحلة التي شملت القسم الأخير من حياته، حيث تحول إلى عرفانية لا تأبه بالعقل كثيرًا وتعلي من جانب الروح لدرجة أنه أنكر السببية واتجه إلى الجبر المطلق، إلا أن الغزالي استطاع بمنهجه في الشك أن يطور مسار الفكر الإنساني، لاسيما حين صرَّح في كتابه “ميزان العمل” بأن من لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في ضلالٍ مبين، وحين أفهمنا أن من يبدأ بالشك سيصل إلى اليقين، أما من بدأ باليقين فإنه مع الأسف سينتهي إلى الشك.
ولقد سار ديكارت على منهج الغزالي في الشك، متسائلًا باحثًا طالبًا لليقين فوصل إليه بعد رحلة تفرض علينا احترام صاحبها، وإن أفضل ما في هذه الرحلة انطلاقها من العقل باعتباره فعلًا أصل الوجود، إذ طالما نحن نفكر فنحن على قيد الحياة، وطالما نفكر فنحن بشر على الحقيقة.
وكانت نقطة البداية في فلسفة ديكارت هي تمرده على فلسفة أرسطو التي انتشرت في الشرق والغرب على حد سواء طوال العصور الوسطى، حيث تعلم الفلسفة المدرسية في صباه ومطلع شبابه من سنة 1604 إلى سنة 1612 في مدرسة “لافليس” اليسوعية، وكانت الفلسفة في هذه المدرسة وغيرها من المدارس المسيحية معقدة جدًا، وفيها غير قليل من الحشو، فلما أراد أن يؤسس مذهبه حرر الفلسفة من النتائج التي توصل إليها أرسطو، لأنها ليست وحيًا منزلًا، بل هي نتاج فكر إنساني قابل للمراجعة، وبعد هذه الاستقلالية شرع في تيسير الفلسفة وتبسيط مصطلحاتها ثم أخرجها في ثوبٍ جديد باللغة الفرنسية حتى يفهمها الجمهور بعد أن كانت تُكتَب باللاتينية التي لا يفهمها إلا الرهبان والقُسس والمثقفون.
وبالإضافة إلى كتابة الفلسفة باللغة الفرنسية، راعى ديكارت أن يناقش قضايا الرأي العام وما يهم الناس في بلاده، متفقًا مع الحس البشري السليم، أو الفطرة كما نقول، ومعتمدًا على قضايا واضحة تنطلق من بديهيات يتفق عليها الجميع، وهكذا قام ديكارت بعملية يمكن أن نسميها “دمقرطة المعرفة” محطمًا بذلك الوصاية والاحتكار، ومتجاوزًا مفهوم “نخبوية الفلسفة” التي سادت حتى عند أرقى الفلاسفة من أمثال “ابن رشد” الذي اعتبر أن الفلسفة من العلم المضنون به على غير أهله.
و”ديكارت” ليس فقط فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي الدارج للكلمة، فهو إلى الفلسفة كان رياضيًا وعالم فيزياء، وفي عام 1619 بدأ حلمه الصامت بوضع علم عام يكون مفتاحًا لبقية العلوم الأخرى، وتوحيدًا للمعرفة الإنسانية، ليساهم في تشكيل منهج يعصم العقل من الزلل ويمنعه من الوقوع في الأوهام، وهذا أمرٌ في منتهى الأهمية، فكثيرًا ما نفكر منطلقين من أوهامنا ومحبوسين فيها وبالتالي يصبح تفكيرنا عبارة عن ضلالات تؤدي إلى خطأ أو بالأحرى سلسلة أخطاء، وكلمة ضلالات هنا ليست بالمعنى الديني، وإنما بالاستخدام الفلسفي للكلمة، وهي كلمة لها أيضًا استخدام خاص في علم النفس.
وهذا العلم العام أو “المنهج” كما قصد إليه ديكارت ليس فلسفةً بل هو أسلوب جديد يتجاوز أخطاء المنطق الأرسطي ويرتبط بالعلم ليكون أساسًا للعمل والصناعة، ويحررالإنسان من أوهام الحواس والمخيلة، ويجعله نشِطًا معتمدًا على ذاته لا ينتظر من السماء معجزة تنشله من عذاباته دون حركةٍ منه ولا سعي، ومهمة هذا المنهج أيضًا أن يتقدم الإنسان في العلم مما يمكنه من تطويع الطبيعة لصالحه وبلوغ الحقيقة في العلوم المختلفة بواسطة هذا المنهج القوي المستند إلى بداهة الرياضيات وإحكامها، وبذلك يكون راسخًا ومتماسكًا أكثر من منطق أرسطو الذي تعرض لانتقادات كثيرة.
إن قيمة “ديكارت” الأساسية كامنة في تحويله الجذري لمسار الفلسفة والعلم على حدٍ سواء، وبالأخص في الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا والبصريات، وهذا التحويل ما كان ليصبح شيئًا ما لو أن ديكارت قصد إلى مجرد إصلاح العلوم في زمانه أو ترقيعها بمعنى أوضح، وإنما حدث هذا التحول بفعل قطيعة معرفية مع نمط العلم القديم وكل تراث المعرفة للفلسفة المدرسية.
وهذه القطيعة المعرفية مع التراث القديم جاءت من خلال الشك المنهجي في كل العلوم بعد وضعها بين قوسين ثم الانطلاق من الأنا، إذ لا رقيب على فكر الإنسان مطلقًا عند “رينييه ديكارت” فالعقل سلطة قائمة بذاتها، وينبغي رفض كل السلطات الأبوية التي سيطرت على العقل على مدار قرون طويلة، فلا سلطة المجتمع ولا سلطة الأسرة ولا سلطة رجال الدين، ولا أية سلطة يمكن لها أن تؤثر على رحلة العقل المنطلقة بلا قيود، وأصبح شعار ديكارت الدائم: “كن جريئًا وحرًا في استخدام عقلك” فنحن بذلك أمام بداية صافية للمعرفة يمكن تسميتها بالصفر المعرفي، وهو الصفر الذي لولاه لما تنفس العلم ولا تقدمت الحضارة.
وفي اختلاف بيِّن مع الفكر الصوفي الذي تبنته الكنيسة الكاثوليكية وطائفة الصوفية من المسلمين يقوم الفكر الديكارتي على الاعتداد الكامل بعقل الإنسان والإيمان بتعالي الوجود البشري على بقية الكائنات، وبأولوية التفكير على الوجود، في حين كان الفكر الكنسي ومثله الفكر الصوفي يقومان على أولوية الوجود على الفكر، بمعنى أن عالم الأشياء مقدم على عالم الأشخاص، وما الإنسان عند أصحاب هذا التيار إلا كائن مثل بقية الكائنات، وما الأرض إلا نقطة ضئيلة في كون بالغ الضخامة، وبالتالي فإن الإنسان لا شيء أو هو شيءٌ تافه، وعقله الذي يفتخر به لا يستطيع استيعاب هذا الوجود الهائل وحسبه أن يفهم أوامر الله ونواهيه فالعقل على الحقيقة موظف لا سلطان.
ومما سبق يظهر أن مشروع ديكارت الفلسفي هو مشروع إنساني يقوم على رد الاعتبار لهذا الكائن الذي يتمتع بالفهم واعتدال القامة والعلم بالأشياء وإرادة التفوق، وميزة هذا المشروع أن صاحبه توخى عدم التعقيد في وضعه للقواعد التي بها يهتدي العقل في سيره، ويرى الفيلسوف “مييه” أن كتاب “قواعد لهداية العقل” لديكارت هو أعمق وأروع رسالة في المنطق عرفتها الفلسفة في كل عصورها بلا استثناء، ولا شك أن في هذا القول قدر من المبالغة، إلا أننا نتفق حتمًا مع القائلين بأن هذا المنهج كان له أكبر الأثر في القفزات الكبرى للحضارة الحديثة التي غيرت العالم.
- عن ميدل ايست أونلاين