أحمد طملية

مقطع من رواية “هيفا” لأحمد طملية

(ثقافات)

مقطع من رواية “هيفا” لأحمد طملية

يشرد يوسف بعيدا في تفكيره، منتظرا إلى أن يحين دوره للمقابلة. يتذكر أنه استيقظ على أصوات أولاد الحارة وهم يعبرون عن فرحهم بمجيء العيد. هو لم يكن فرحا بمجيء العيد مثلهم، رغم أنه يحبه أكثر منهم. كان ينتظره على أحر من الجمر. كان ينتظره أكثر منهم. لكن ما حدث ليلة أمس نزع فرحته، أو بالأحرى دعاه لأن يؤجل فرحه، ريثما تهدأ الأجواء في البيت. ريثما تهدأ أمه.

كانت غاضبة ليلة أمس. تصرخ طوال الوقت. أعدت قلاية بندورة، عشاء الأولاد، وهي تصرخ، تشتم، ودموعها تسيل على خديها.

هي هكذا تكون، عندما تكون غاضبة.  ليلة العيد كانت غاضبة. أبوه لم يف بوعده، لم يعد في المساء  بما وعد . كان قد قال : اليوم سوف تفرج، سوف أعود بمال كثير. وجه الكلام لأمه:

يمكنك أن تشتري للأولاد ملابس العيد. ويمكنك سهر الليل في اعداد كعك العيد.  طلب منها أن تستعين بجاراتها للانتهاء من الكعك مبكرا.

قال لها: الليل مزدحم بالكثير من المهام التي يتوجب علينا فعلها:

” بدك تسدي ديونك، أهمها الدكان، أبو العبد لم يقصر معنا، بس احنا طولنا عليه.

تقاطعه: أم علي أكلت وجهي، بدها مصاريها. بعدين بدي احمم الأولاد، واعزل الدار. ثم تتنهد قائلة: مية شغلة علي.

لكن والده عاد في المساء خالي الوفاض، ما معه مصاري. جن جنونها. راحت تبكي وتشتم. بل إنها شتمت العيد. قالت: مش وقته.

ما يتذكره تماما أن أمه  طلبت منه. يتذكر أنه كان دائما يجلس جانب أمه. سواء كانت غاضبة، غير غاضبة، يجلس جانبها. لا يروق له الجلوس إلا جانبها.

طلبت منه أن يذهب إلى دكانة أبو العبد، ليستدين. يستدين ماذا؟ يحاول أن يتذكر: خميرة. نعم خميرة. طلبت منه أن يستدين من دكانة أبو العبد خميرة.

يتذكر أنه قال لأبي العبد:

بتسلم عليك أمي، وبتحكيلك بدها خميرة دين.

كاد أبو العبد أن يضربه. صرخ بصوت مرتفع: عيد ودين. الله أكبر. وطرده..

لم يعرف كيف يعود إلى أمه دون خميرة. الخميرة مهمة. بل إنها أهم شيء في الدار بالنسبة لأمه. دون خميرة لا يوجد خبز، لن تتمكن أمه من أن تعجن.

 كان يضحك حين يتذكر أمه وهي تعجن. يحب أن يراها وهي تعجن. يعتبر أجمل مشهد يراه، مشهد أمه وهي تعجن:

تجلس على الأرض. تفرج قدميها لتضع وعاء العجين بين قدميها، بما يساعدها على التحكم بالعجين بقدميها ويديها. ثم تصب الماء. صب الماء يتم تدريجيا، وضمن تعليمات الأم، أي خطأ في صب الماء، زيادة أو نقصان، يمكن أن يتسبب بإفساد العجين، وبالتالي خراب الخبز. أثناء صب الماء تضع أمه الخميرة، وتبدأ تعجن فيه. تظل تعجنه، تقلبه بيديها. إلى أن تكتفي منه.تغطيه، وتضعه جانبا حتى يستريح. يجب أن يستريح العجين قبل خبزه. إذا لم يسترح يفسد.

 صب الماء على العجين مهمة ليست سهلة. يجب أن يصب بهدوء. قطرة..قطرة. حسب تعليمات الأم.

كان هو الذي يقوم بهذه المهمة. يقاتل إخوته من أجل أن يفوز بهذه المهمة. يحب أن يقوم بهذه المهمة. يستمتع وهو يرى كيف يتحول الطحين إلى عجين.

لكن، كيف يعود إلى أمه دون خميره: صعب. قرر أن لا يعود إلى البيت. أن يمضي بعض الوقت في الحارة، إلى أن تنسى أمه أين أرسلته. سوف تنسى أمه بعد قليل. سوف تنساه. الأم تتفقد أولادها فقط ساعة النوم، قبل ذلك، لا أحد يسأل عن أحد.

في بيتهم يمكن أن يغيب الطفل ساعات، دون أن يفطن لغيابه أحد. أمه تفطن فقط عندما يحل المساء. تعدهم. آخر شيء تفعله قبل أن تنام هو أن تعد أولادها، لتتأكد أن لا أحد مفقود .

ثم، وهذا ما راق له، أمه سوف تنسى أين أرسلته. سوف تنسى موضوع الخميرة. سوف يستجد في نهارها ما هو أهم من الخميرة. سوف تتدبر أمرها بالنسبة للخميرة من الجارة.

” لن تعجز عن تدبير نفسها إذا اتصل الأمر بالخبز”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *