مقطع من رواية (صمت الفزّاعة)/2

خاص- ثقافات


*مصطفى ملح

تقدّمتُ بإصرار نحوها. ماذا سيحدث؟ فستانها الزّهريّ وابتسامتها العريضة وعيناها الغارقتان في الحاسوب وعطرها السّابح في ملكوت الفراغ الصّامت. صباح الخير! خرج الصّوت مرتبكا مثل آخر قطعة ضوء تسقط في العتمة. ردّت: صباح الخير!

أكان صوتا أم موشّحا أم معزوفة تتدفّق من منقار سنونو؟ صباح الخير!.. الصّوت ليس مجرّد احتكاك شّفتين منسجمتين بدعم مسبق من الحلق، وإنّما هو لغة الباطن. هل أنا قريب من باطنها الغامض؟ تمنّيتُ لو أُدرك ما يحبُل به باطنها الذي جاد بهذا الصّوت المتناغم الحلو..

ومرّت الأيّام وأنا أحاول الاقتراب من خلية النّحل، والملكة  بدأتْ تلين بالتّدريج. وعلمتُ أنّ اسمها ليلى. وصرنا نتحدّث ولو بكلمات قليلة عن حالة الطّقس وعن العمل والمدينة الكبيرة وعن فيروز. أجل فيروز! فبعد أسبوعين دعوتها لشرب العصير. كانت المقهى هادئة، والحديقة أمامها نائمة في السّكينة، ما عدا بضع فراشات ملوّنة تترنّح فوق أزهارها. مددت أصابعي نحو أصابعها. والنّادل يمسح الطّاولة، وشفتاها تتلذّذان بصمت الغروب المتدفّق. وأصابعي تغرق في دفء أصابعها. وابتسمتْ فلمع الدّرّ وهاج قلبي. وما زالتْ أصابعي تتشابك مع الأصابع المجاورة الصّديقة. والبرتقال في الكأس يوشك أن ينفد. وبعد لحظات انطلق صوت فيروز داخل المقهى:(حبّيتك تنسيت النّوم، يا خوفي تنساني). وشعرنا أنّها تغنّي لنا دون غيرنا. وبعد برهة تململتْ شفتاها وشرعتا في الغناء انسجاما مع الأغنية. بعدها ستخبرني أنّها عاشقة لفيروز ومارسيل خليفة.وفي طريق عودتها أخبرتها برغبتي في الزّواج بها. لم تقل شيئا. عيناها فرحتان. وجهها أبيض كالبَرَد. يدها تضغط برفق على يدي. تلتفت نحوي كظبي شارد:

  • ما الذي أعجبك فيّ؟

  • كلّ شيء.. رأيتك منذ شهرين أو أكثر بقليل.. كنتِ الموجة الشّاردة.. وكنتُ الغريق العاشق..

  • قل أيّها العاشق.. كيف ستعاملني إن صرت زوجتك؟

  • أكثر ممّا تتصوّرين..

  • كيف؟

  • كما يحدث للشّعاع حين يلتقي بشعاع آخر.. يلتحمان فيصيران شعاعا ثالثا أبديّا!

  • يا سلام.. ما كنت أعرف أنّ وراء هذا الوجه الخجول شلّالا من الكلمات العذبة..

  • جمالك الطّفوليّ من ألهمني هذه الكلمات..

تعدّدتْ لقاءاتنا، المقهى والشّارع وصوت فيروز والأصابع المتسكّعة في خوف الأصابع الأخرى والهمس اللّطيف والأنفاس المعلّقة بحبال النّشوة. وانتقلنا إلى مرحلة التّخطيط العمليّ. الخطبة وعقد القران. أبوها الحاج علي يملك متجرا بأحد شوارع المدينة. أمّها متوفّاة منذ زمن بعيد. دمعتْ عيناها وهي تخبرني. كنتُ في سنّ السّادسة. البيت مزدحم بالنّاس من العائلة والجيران. أمّي تئنّ تارة بصمت وتارة يعلو الأنين. كنت صغيرة لأدرك ما يحدث. وحين ارتفع البكاء وانهمرت الدّموع تقدّم نحوي كثير من النّاس. لا تفزعي يا بنيّتي.. أمّك في السّماء.. في الجنّة.. عند الله. كنت أتساءل: إذن لماذا يبكون؟! ما دامت الجنة قد غدتْ مسكنها الدّائم ومادامت السّماء صارت سقفها العالي فلماذا البكاء؟! وأقنعت نفسي ألا أبكي لأنّ أمّي عند الله. أتُقيم فوق الغمامة أم تحتها أم داخلها؟ ألا يبلّلها المطر البارد؟ ألا يصدم رأسَها سقفُ السّماء العالي؟ أم أنّها في نعيم الجنّة مع الحوريات السّعيدات؟ أمّي سعيدة. تقول خالتي. لكنّ خالتي تبكي. هي غير سعيدة إذن. ومرّت السّنوات ولم أبكِ. أشعر كأنّ النّاس كذبوا عليّ. لقد بكوا بما فيه الكفاية وحرموني أنا من البكاء.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *