عندما تتناقص صحون المائدة *

(ثقافات)

عندما تتناقص صحون المائدة *

عدي مدانات**

 

 

  استعدّت السيدة “جميلة” الأرملة، منذ الصباح ، لاستقبال أبنائها على مائدة طعام الغداء، فلا يخامرها شكّ بأنهم آتون. ارتدت ثوبا من تلك الثياب التي تدّخرها لمناسبة اجتماعيّة احتفالية، وزرعت بكلات عظميّة ورديّة في شعرها الأبيض القصير، وتزنّرت ب “مريلة”، ثمّ انشغلت بإعداد الطعام، وفي أثناء ذلك انصرفت إلى تجهيز مائدة الطعام للكبار، وهم عشرة : ابنان مع زوجتيهما، وثلاث بنات مع أزواجهن، في ما أن الحديقة ستكون مائدة الأبناء الصغار، حيث يتوزّعون فيها، يشاركون العصافير، وربما القطط أيضا، القليل مما يأكلون.

  وزّعت على حواف المائدة أحد عشر صحن طعام، وأحد عشر صحن شوربة، ومثل هذا العدد من الملاعق والسكاكين والشوك والمناديل كدأبها كلّ يوم جمعة، وحين انتهت من ترتيبها، وقفت تراقب المشهد اللائق بعينين صافيتين، فقد كان المشهد في غاية الكمال، ويعزّز ما تسعى إلى تأكيده من أنّ عزيمتها لم تُهن، وأنّ منزلها المكانُ الأفضل لاجتماع الأسرة. وفيما كانت تستعيد جمالات جلسات الطعام الجماعيّة السابقة، حيث كان أبناؤها يتناولون طعامها بتلذّذ، ويوجّهون لها الشكر على طيب مذاقه، رنّ جرس الهاتف، فانتشلها من حال شرود لحظيّ.

   نظرت باتجاه الهاتف، ثمّ دفعت كفّ يدها اليمنى في الهواء ، في إشارة معهودة لدى الناس تعبيراً عن الرفض، فهي لا تحبّ المكالمات الهاتفيّة، تستطيع احتمال الصمت مهما طال، ولا تحتمل الأحاديث التي لا تتغيّر، الأسئلة والإجابات نفسها، على نحو يجفّ معه ريقها، غير أنّ الرنين تواصل، فاتّجهت إلى الهاتف ورفعت السماعة. انشرح صدرها، فور أن عرفت المتكلّم، وقالت :

 ــ أهلا حسام.. كيف أصبحت، وهل هيام والأولاد بخير؟.

ــ إن شاء الله دائما بخير. ستأتون، أليس كذلك؟ أعددت اليوم “المسخّن”.. الأكلة التي تحبّونها.

 أنصتت ثمّ قالت:

 ــ تدبّرت أمري.

 أنصتت مرة أخرى ثمّ اربدّ وجهها وقالت:

 ــ عذرك معك. سأحتفظ بحصّتك ليوم آخر.

  صفا وجهها وهي تصغي ثمّ قالت:

 ــ لن أغضب. كلّ ما يعنيني أن تكون أنت والأولاد بخير.

  أنهت المكالمة واتّجهت إلى الطاولة، ثمّ تناولت ما يخصّه وزوجته وذهبت به إلى المطبخ، وفيما كانت تتفقّد الطعام، سمعت رنين الهاتف مرة أخرى، فتكدّرت، وأهملت شأنه، وراحت تقطّع البصل وهي منفعلة. تواصل الرنين، فلم تملك إلاّ أن تجيب:

 ــ أهلا سعيد .. كيف أنت والجميع؟

   أصغت، وتاه نظرها، كما لو أن الحديث أفقدها التركيز، أو أتى لها بقلّة الاهتمام. قالت وهي على هذه الحال:

ــ مجرّد صداع! لا بدّ أنك أطلت السهر.

 تركت الحديث له، وانشغلت عنه بتفحّص قطع كريستال مركونة على منضدة قريبة، ثمّ قالت وهي تعطي بالا للقطع أكثر ممّا تعطيه:

 ــ لا.. لا تكترث. كأنك معنا.

    عادت إلى طاولة الطعام واتّجه بصرها إلى الفراغ الذي أحدثه نقل ما يخصّ حسام وزوجته، فزادت فيه بأن رفعت ما يخصّ سعيد وزوجته. ظهر في الحال حجم الفراغ المُخّل، فتلبّثت تنظر إليه بأسف، ثمّ اتّجهت إلى المطبخ، وهي تردّد عبارة: ” من يحضر يسدّ”. عادت إلى طاولة المطبخ وأمسكت بالسكين وشرعت في تقطيع حبة بصل، فعاد الرنين، وبدا أنها عازمة على تجاهله هذه المرة، فقد دفعت الباب لينغلق، غير أنّ الرنين ظلّ يصل إليها، وما كان من وسيلة لإسكاته غير تلقّي المكالمة، فاتجهت نحو الهاتف، ورفعت السماعة، لكنها لم تتعجّل الحديث، انتظرت أن يأتي الكلام من جهة المتّصل، ثمّ أجابت:

  ــ أنا بخير كما تعرفين، وأنت كيف زوجك ورنا ويوسف؟

   أصغت وقضمت شفتيها هذه المرة، ثم قالت:

  ــ ولكن ألن تأتيا؟ جهّزت لكم طعام “المسخّن”.

 أبعدت السماعة عن أذنها للحظة، ثم أعادتها وقالت:

 ــ أسمع رنين جرس الباب.. لا بدّ أنّ أحد إخوتك وصل.

  أغلقت الخط واتجهت غاضبة نحو طاولة الطعام ورفعت ما يخصّها وزوجها، ثم جلست على أريكة وأخفت وجهها بوسادة.

  مع الاتصال الرابع، سارت نحو الهاتف، وقد خلا وجهها من أيّ تعبير واكتفت بالقول:

  ــ آلو.

 أصغت ، ثم أنزلت السماعة للحظة، ما لبثت أن أعادتها وقالت:

 ــ تريدين إخبار مفيدة أن تزورك صباح الغد، لِمَ لا تقولين لها بنفسك، أم إنك لن تأتي!

 تلقّت الجواب وقالت:

 ــ فاجأك ضيوف من أقارب زوجك… فهمت،.. لِمَ لا تهاتفينها؟

 تلقّت الجواب وعقّبت:

ــ لا بد أنها في الطريق، سأخبرها على أيّة حال.

  أبعدت ما يخصّها وبقي القليل، والمساحة الخالية أكبر، فعمدت على توزيع المُتبقي على المساحة الخالية. رنّ الهاتف من جديد، فلم تكلّف نفسها عناء تلقي الاتصال، على الرغم من أنه تكرّر مرات عدة، لكنها رفعت كلّ ما تبقى على الطاولة ودارت الدمع الذي تجمّع في محيط عينيها.

                                      ***************

  • “عندما تتناقص صحون المائدة” : إحدى قصص المجموعة السادسة ” تركة الأيام الثقيلة” الاثنتين وعشرين والصادرة عام 2013  في عمان.

** عدي مدانات : أديب أردني 1938-2016

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *