الذاكرةُ عندما تُصالحُ وتخُون

*أحـمـد الـشَّـهـاوي

الأسوأ هو أن لا تتذكَّر ما مرَّ بكَ عبر حياتك طويلة كانت أم قصيرة .

هناك أحداثٌ ومواقفُ تُنسى ولا يتذكَّرها المرءُ ، وهي من نعم الله على الإنسان ، وهي النسيان ، نسيان الشَّر والبُغض والحقد والسُّوء ؛ لأنَّ ما يوجعُ الرُّوح يفتكُ ويقتلُ ، والله يريدُ لك أن تواصلَ حياتك بعد شِقاقٍ وفِراقٍ وألمٍ وقعَ لك .

فالذاكرة تُخزِّن يوميًّا ما يمرُّ بها ، ولكلِّ ذاكرةٍ نهاية في الاستيعاب ؛ فهي تُخزِّن وتُؤجِّلُ وتمسحُ ، وهي رحيمةٌ بنا ؛ لأنها تمسح ما يؤلمُ ويوجع ، أو على الأقل تُقلِّل من حِدَّته ، وتجعله مقبولا ، أو من الأمور السيِّئة التي لا نحبُّ استرجاعَها وتذكُّرَها .

أنا شخصيًّا أقلقُ من النسيانِ ، أو تعطُّل الذاكرة لبعض الوقت ، خُصوصًا نسيانِ الأسماء والتواريخ والكُتب ؛ لأنَّها تحرجني عندما أكُونُ مُسترسلا في الحديثِ مع أحدٍ أو في حُوارٍ تليفزيونيٍّ على الهواء مباشرةً .

وأعرفُ بشرًا من قربٍ لديهم قُدرةٌ هائلةٌ على التخزين في الذاكرة إذا ما قُورنوا بسواهم ، ممَّن هم مُساوون لهم في العُمر ومُعايشُون للأحداث نفسها ، ربما لأنَّ ذاكرتي مثلا تطردُ غير المُهم أو غير المُؤثِّر في مسيرِي ومصيرِي ، فكأنَّني أصدرُ أمرًا لها بالطَّرد من جنَّة التذكُّر ؛ كي أمنحَ مكانًا آخرَ لما هو مُجدٍ ومفيدٌ ومؤثِّرٌ وضروريٌّ ولا ينبغي الاستغناءُ عنه .

والذاكرة مثلها مثل أيِّ عضو في جسد الإنسان تحتاجُ إلى تنشيطٍ وتدريبٍ وممارسةٍ وغذاءٍ ، فمثلا بعد ظهور الهاتف المحمُول لم يعُد المرءُ يهتم بحفظ أرقام الهواتف ؛ لأنها مُخزَّنة عليه ، ومن ثم أصاب الذاكرةَ كسلٌ ، جاءها بأمرِ الإنسان ، وأنا شخصيًّا لا أحفظُ سوى خمسة أو ستة أرقامٍ ؛ لأنَّني أطلبُها بشكلٍ دائمٍ فقط ، ولم أكُن كذلك قبل اختراع الهاتف المحمُول .

وما يُهدِّد الإنسان في كبره هو النسيان ، وتراهُ لا يردِّد ، بل يكرهُ مقولة ” نعمة النسيان ” ؛ لأنَّ النسيانَ بالنسبة إليه معناه هدم لحياته ، وضرب ليقظته ، وحلول شُرُود ذهنه ، وفُقدان الإحساس بتدفُّق الزمن داخل نسيج الرُّوح قبل العقل ، لأنَّ في التذكُّر انتصارًا ، وهزيمةً لدورة الزمن.

وبحُكم سفري الدائم إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ 1988ميلادية فالمجد هناك ل ” أقراص الذاكرة ” التي تُغذِّي العقل وتُحسِّن أداءَه ، وتُنشِّط الذاكرة ، وتُعزِّزها وتقضي على شُرُود الذهن حسبما هو مكتُوبٌ على عُبوات هذه الأقراص المصنُوعة من الأعشاب الطبيعية ، لكنَّني حتى الآن لم أستخدمها ، رُبَّما لأنَّني كائنٌ “خضرواتي وفاكهي ” منذ كنتُ طفلا صغيرًا في قريتي كفر المياسرة ، كما أنَّني مشَّاءٌ خُصُوصًا عندما أكونُ على سفرٍ ، ودومًا أمارسُ المشي حتى ولو كان لمدة خمس عشرة دقيقة على الأقلِّ يوميًّا ؛ كي يصلَ الأوكسجين إلى دماغي .

والذاكرة هي التي تمنحنا الحميميةُ بالمكان والعلاقة المُرتبطة به التي نسجناها عبر ملايين الخطوات في أعمارنا ، وبالبشر الذين تحدثنا معهم في المدرسة والجامعة والشارع وأماكن العبادة والمطارات والطائرات ؛ فالتذكُّر جوهرُ هوية الإنسان الذاتية ، لأنَّ النسيانَ وهْنٌ وضعفٌ وذهابٌ مُؤجَّل نحو المَحْو .

فمن يفقد ذاكرته ، أو جُزءًا منها هو في منفى ، بمعنى أنَّ العقلَ بعيدٌ وغائبٌ وناءٍ عن الأشياءِ الأساسية في حياة صاحبه ، فيلجأ إلى العُزلة والصَّمت ، كأنه فقد زمنه ، ولا سبيل إلى استرجاعه إلا بمُعجزة .

فالذاكرة تعني الوجُود والحنين إلى ما نحبُّ : مراتع الطفولة والصبا ، سنوات المدرسة والجامعة ، البلدان التي سافرنا إليها ، النساء اللواتي ارتبطنا بهن رُوحًا وجسدًا ، النجاح والإخفاق اللذان مررنا بهما … إلى آخره .

وغياب الذاكرة يعني الانفصال عن المكان والزمان الذي نعيشه أو عشناه ، حتى لو كان بعيدًا في الدُّرج الأخير من غُرف العقل .

الذاكرة لواحدٍ مثلي هي الجوهر الذي لا يغيبُ ولا يصدأ ، إذْ هو يستعيدُ لي الأموات الذين يحيطون بي رُبَّما كل يوم ، خُصوصًا الأقرب إلينا ، فمثلا يعاودني مشهد موت أمي وهي تضعُ طفلها السادس ، الذي مات معها سنة 1965 ميلادية ، رغم أنني كُنتُ لم أتجاوز سن الخامسة ، إن هذا المشهد لا يغيبُ ولا يُمحى ، مع مشاهد يوم الموت لامرأةٍ في الخامسة والعشرين من عُمرها ، إنَّ الذاكرةَ تعني المعرفة والحدْس والحدَث ، وجنَّة الذات التي تشتغل بتجلٍّ نادرٍ .

أنتَ تسترجعُ ما تريدُ من ذاكرتك الفردية ، التي تعيد خلق الماضي وزراعته في أرضك من جديدٍ ، عندما تحتاجُ إلى ذلك سواء كُنتَ في امتحانٍ ، أو في حديثٍ مُرسَلٍ ، أو في كتابةٍ من الذاكرة ، دُون الاعتماد على مصادر أو مراجع ، وهنا تنشَطُ الذاكرةُ وتبدأ في تقديمِ فضائلها على الإنسانِ ؛ لأنَّك تسترجعُ الماضي إلى الحاضرِ من تجويف الدماغ ، الذي يعتبرُ مخزن الذاكرة وحافظها ؛ فالذاكرة جزءٌ من الإدراك الحِسِّي بحسب أرسطو . تعمل باجتهادٍ كي تجعل الشمس تُنير ما طواهُ النسيان ، أو ما كنا نعتقدُ أنَّ الغرقَ أدركه ، وصار من الماضي المنسي ، أو الغائب المختفي في غيابة جُب العقل .

فما تكون المعرفة إلا استدعاء للذاكرة حسبما لاحظ نيتشه ؛ لأنَّ الماضي لا ينفصمُ أو ينفصلُ عن الحاضر ولا يمكنُ للمرء نسيانه أو التخلي عنه ، فالذاكرة تحرِّر المرءَ من أسْر القُيود ، وتجعله أكثر حريةً في التعامل مع الذات في ماضيها وحاضرها ، ورُؤية النفس من الداخل ، فلو أنَّ المرء فَقَدَ طفولته ونسيها ؛ سيظل يعيش ناقصًا فترات تكوينه الأول ، ولن يستطيعَ استعادة الذكريات المُفْرحة والمُؤثِّرة في حياته ؛ لأنَّ فقدانها هلاكٌ ، وأنا هُنا لا أحبِّذ عبادةَ الماضي ، والصلاة في محراب ما فات .

الذاكرة باعتبارها سلطة هي جسرٌ بين فعلين أحدهما ماضٍ ، والثاني مضارعٌ مستمرٌ ، وهي نفسها تغربلُ وتصفِّي وتُبْقِي ما تحتاجه ، وتراه ثريًّا وضروريًّا للاستشهاد والاسترشاد به .

  • عن المصري اليوم

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *