آني إرنو: حصلتُ على جائزة نوبل ولم أكن أرغب فيها…

آني إرنو: حصلتُ على جائزة نوبل ولم أكن أرغب فيها…

مولود بن زادي

تناقلت صحفٌ بريطانية أمثال «الغارديان» آنفاً تصريحات الكاتبة آني إرنو الفائزة بجائزة نوبل للآداب 2022، في حواراتها الأخيرة، أوضحت فيها رد فعلها على حصولها على الجائزة العالمية. الكاتبة الفرنسية معروفة بصراحتها وجرأتها في الكتابة منذ أن بدأت مسيرتها الأدبية، وهو ما نلمسه في مختلف أعمالها التي تندرج ضمن أدب الاعتراف والسيرة الذاتية. فكيف تنظر آني إرنو يا ترى إلى جائزة نوبل؟ ماذا كان شعورها بعد فوزها؟ وما تأثير الفوز فيها وفي مشوارها الأدبي؟ ولنرحل معا من خلال إحدى تجاربها الروائية الجريئة، «الضياع» إلى إحدى الفترات العصيبة في تاريخ عالمنا، أواخر القرن الماضي، طبعتها الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

قنبلة شديدة المفعول

منذ نشأتها في عام 1901 وإلى يومنا هذا، كرّمت جائزة نوبل مئات الأشخاص والمنظمات الفردية في العالم. وإن اختلفت ردود الأفعال، فإنها في مجملها إيجابية مرحِّبة. فالفوز بجائزة كبيرة شرف عظيم. عند فوز فيلم «أطفال منتصف الليل» بجائزة بوكر عام 1981، قال الكاتب البريطاني سلمان رشدي، «لقد كانت قائمة قصيرة استثنائية وكان شرفا لي أن أكون فيها. والجائزة محفِّز لإنجاز المزيد وتحقيق ما هو أفضل. فعندما حصل الرئيس الأمريكي السابق أوباما على جائزة نوبل للسلام عام 2009، قال إنه يعتبر فوزه «دعوةً للعمل». فالجائزة محفِّز لمزيد من العمل والجهد لتحقيق مزيد من الانجازات في طريق السلام الشائك. وليست الجائزة غايةً، بل وسيلة لبلوغ غاية، يجسده بامتياز موقف عبد الرزاق غورنا الفائز بجائزة نوبل في عام 2021. لم ينل غورنا نصيبه من الشهرة قبل ذلك، فنظر إلى الفوز على أنه سبيل للوصول إلى مزيد من الجماهير في العالم، وهو ما أكده في قوله إثر فوزه، «أحتاج إلى مزيد من القراء».
ردُّ فعل الكاتبة الفرنسية آني إرنو، الفائزة بجائزة نوبل عام 2022، بدا مختلفا عن كل هؤلاء، تطبعه نزعة تشاؤمية. قالت في حواراتها الأخيرة إنها لم تكن ترغب في الحصول على جائزة نوبل. وذهبت إلى حد تشبيه الجائزة بـ»القنبلة». قالت إنها وقعت في حياتها «مثل القنبلة» وإنها أعاقت قدرتها على التركيز على الكتابة.

أدب السيرة الذاتية

عادة ما تُنسب كتابات آني إرنو إلى جنس الرواية، غير أنّ عددا من النقاد والناشرين الناطقين باللغة الإنكليزية يميلون إلى إدراجها ضمن أدب المذكرات، وليس من شك في أنهم محقون. يتجلّى ذلك في كتاب «الضياع» الذي نشر في نسخته الأصلية في 2001 وأعيد إصداره في عام 2022 مترجما إلى اللغة الإنكليزية. يروي الكتاب قصة غرامية قوية جمعتها بموظف حكومي سوفييتي، ذكرت الكاتبة في مقدمته أنها سجلت أحداثها اليومية ساعة وقوعها بدقة وتفصيل. وقد استغرقت كتابة هذه المذكرة سنة ونصف السنة، من 27 سبتمبر/أيلول 1988 إلى 9 أبريل/نيسان 1990. ترحل بنا الكاتبة الفرنسية من خلال هذه القصة إلى نهاية ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن الماضي، إلى أوروبا في حقبة حاسمة من تاريخها، شهدت انهيار الاتحاد السوفييتي بين 1988 و1991، وسقوط جدار برلين في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989. كتبت آني إرنو مذكراتها بلغة سهلة رشيقة مأنوسة متدفقة، وبأسلوب تداعي أفكار حرٍّ تلقائيٍّ صادقٍ، غير متكتّمٍ وغير متكلِّفٍ، متحرِّرٍ من متاهات اللَّفِ والدوران والغموض، التي كثيرا ما نشهدها في أعمال السير الذاتية في الشرق. واللافت للانتباه أيضا إصرار الكاتبة على نشر مذكراتها في صورتها الأولى الخام، من غير إضافة أو مراجعة أو تعديل، ليصدر عملها في صيغته الأصلية الطبيعية، من غير تجميل أو تنميق، وهو ما اعترفت به، «لم أقم بتغيير أو إزالة أي جزء من النص الأصلي أثناء كتابته في الكمبيوتر. بالنسبة لي، الكلمات الموضوعة على الورق لالتقاط الأفكار والأحاسيس في لحظة معينة لا رجوع فيها، فهي مثل الوقت تماما ـ بل هي الوقت نفسه».
من تجليات فن المذكرات، فضلا عن ترابط الأحداث وتسلسلها، تحديد الإطار المكاني والزماني. نرى الكاتبة تحرص على ذكر يوم، بل ساعة وقوع الحدث، على منوال، « الثلاثاء 11 أكتوبر/تشرين الأول: غادر على الساعة 11:00 مساءً. إنها المرة الأولى التي أمارس فيها الحب لساعات متتالية، بلا هوادة».

بنية الشخصية

اللافت للانتباه ارتباط قصة «الضياع» برواية سابقة بعنوان «شغف بسيط» عام 1991. فالروايتان ترويان علاقة غرامية عاشتها الكاتبة مع ملحق سوفييتي. كانت البطلة آنذاك مطلقة ولديها ولدان عندما التقت بالموظف الروسي، أواخر ثمانينيات القرن الماضي. تقول عنه، «كان الرجل الذي عاد الآن إلى موسكو خادما مخلصا للاتحاد السوفييتي، وهو دبلوماسي روسي نُصّب في باريس. التقيته السنة الماضية في رحلة كتاب إلى موسكو وتبليسي ولينينغراد. وقد كُلِّف هذا الرجل بمرافقتنا في هذه الرحلة، لقد أمضينا الليلة الماضية معا في لينينغراد. وبعد العودة إلى فرنسا، استمرت لقاءاتنا بشكل روتيني. كان يتصل بي هاتفيا يسألني عما إذا كان يمكنه الحضور لرؤيتي في ساعة ما بعد الظهر، أو في المساء في غالب الأوقات، أو بعد يوم أو يومين في أوقات نادرة. وكان عندما يحلّ في البيت يمكث بضع ساعات نصرفها في ممارسة الحب، ليغادر بعد ذلك، فأظل انتظر مكالمته المقبلة».
كان هذا العشيق دبلوماسيا يؤدي مهامه في فرنسا.. وكان متمكنا من لغة آني إرنو، الفرنسية. وصفته برجلٍ «في الخامسة والثلاثين من عمره. عملت زوجته سكرتيرة له في السفارة… كان عضوا في كَمسَمول (اتحاد منظمات الشباب السوفييتي) ثم في الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي، وهو الوقت الذي أمضاه في كوبا، وكان يتحدَّث الفرنسية بسرعة وبلهجة قوية».
لم تكن علاقتها بهذا الرجل قائمة على عاطفة وإنما انجذاب جنسي، ما يبرر عدم اهتمامها بالتقرب منه ومعرفته أكثر، وهو ما اعترفت به، «لم أكن أعرف أبدا أي شيء عن أنشطته، التي كانت مرتبطة رسميا بالثقافة. فلا يسعني اليوم إلاَّ أن أندهش لعدم قيامي بطرح المزيد من الأسئلة، ولن أعلم أبدا ما كنتُ أعنيه لهذا الرجل. فرغبته الجنسية تجاهي هي الشيء الوحيد الذي كنت متأكدة منه».
الشخصية من العناصر المهمة في الرواية، فلا عجب أن يوليها الكُتَّاب اهتماما بالغا، وكيف لا وهي التي تستطيع أن تجذب القارئ إلى أعمالهم أو تنفِّره عنها. فنراهم يجتهدون لإخراجها في أحسن صورة لاستمالة القراء. لكن ذلك لا ينطبق على الرواية الواقعية، التي عادة ما يسعى فيها المؤلف لتصوير شخوص الرواية مثلما تحيا في الواقع بكل محاسنها وعيوبها. والكاتبة آني إرنو ليست استثناء عن ذلك، إذ نراها تصف بطل رواياتها وصفا طبيعيا عفويا، من غير مغالاة أو ماكياج. ففضلا عن سنه وطريقة نطقه اللغة الفرنسية، تعرفنا على عمله. فهو موظف حكومي روسي. وتعرفنا على مواقفه في الظاهر والباطن، «وإن كان ظاهريا من أنصار غورباتشوف وبيريسترويكا، فإنّه عندما يشرب الكحول، يعبّر عن حزنه على عهد بريجنيف ولم يكن يخفي تبجيله لستالين».

انبهار بالثقافة السوفييتية

ما نلمسه ونحن نجول بين صفحات كتاب: «الضياع» لآني إرنو إعجابها الشديد بالثقافة الروسية والتراث السوفييتي، وهو ما تؤكده مذكرة 31 يناير/كانون الثّاني 1989، «أنا مفتونة بـ›الروح الروسية› أو «الروح السوفييتية» أو بالاتحاد السوفييتي بأكمله، قريبة كل القرب منه بالجسد – وبالثقافة أيضا (في الماضي)… مع العلم أني لا أحمل مثل هذه المشاعر تجاه الصين أو الهند». وتقول في مذكرة بتاريخ يوم الأحد 12 فبراير/شباط 1989، «ها أنا أفكر في صوته، تلك النغمة الحالمة الطويلة التي تتعالى عندما ينطق كلمة «نعم» بالروسية، تلك النغمة المثيرة للخيال والمفعمة بالحلاوة… كل ما هو جميل بشكل لا يمكن اختزاله هو أنه سوفييتي».
لقد استطاعت الروائية الفرنسية آني إرنو أن تجذب أنظار الجماهير، وأن تشدَّ اهتمام الأكاديمية السويدية المنظمة لجائزة نوبل بفضل جرأتها وصدقها في نشر سيرتها الذاتية. وكتاب «الضياع» نموذج يعكس ذلك. فهو من أصدق وأعمق الكتابات التي جادت بها أنامل إرنو ضمن أدب البوح والسيرة الذاتية النادر في عالمنا. إنها قصة امرأة قوية تقع في غرام رجل أصغر سنا، مرتبط بامرأة أخرى، فكل ما ترجوه منه عند مجيئه إلى فرنسا هو جسده. ينتابها شغف بالانجراف في سيل الجنس الغامر معه، والتحليق عاليا في فضاء اللذة والمتعة وإياه. وقد كانت للمسة هذا الرجل السحرية لجسدها بالغ الأثر في وجدانها حتى أنها خصّته بمؤلفين كاملين: «الضياع» وقبل ذلك بسنوات طويلة «شغف بسيط» وهو أول كتاب تكشف آني إرنو من خلاله للعالم عن علاقتها الغرامية مع الملحق السوفييتي، يستحق بدوره القراءة والتأمل والاهتمام.

كاتب جزائري

  • عن القدس العربي

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *