فصل من رواية (غابات الإسمنت)

(ثقافات)

فصل من رواية (غابات الإسمنت)

ذكري لعيبي

القسم الثاني/ الحرية

الفصل 5

احتفالية

في تلك الليلة وصلتُ قبل ساعة.

حسبت حساب الزمن، وهيّأت لي مكانا آمنا لا يخطر على بال أيّ من المحتفلات.

اختبأت في المكتب.

أحكمت إغلاق الباب، كنت أتابع ما يجري في الطابق الرابع.

حالما سمعت صوتا عند باب البناية الرئيس، بدأت أستعدّ للتصوير… في البدء دخلتْ ابنة السيد ذي الوزارة غير السيادية، تحمل بيدها سلّة تبعث حركة مكتومة، وحقيبة محشوة تبدو خفيفة الحمل، ثم أعقبتها حركة ما لعاملات خدمة مطاعم دخلن بأطباق وقدر كبير، ثم خرجن ولم يعدن، بعد ذلك تقاطرت المدعوات تباعا.

ابنة السيد وزير وزارة سيادية، ابنة مدير عام السفر والجنسية، حفيدة رئيس أركان الجيش، لم أكن أعرف الكثير منهن، غير أن ابتسام أخبرتني بوظائف آبائهن، وقالت لي:

قسمًا بالله، إن كنّ سيمارسن الجنس مع بعضهن، سوف أعدم تلك المشاهد، لأنهن خلقن بهذه الصفة؛ لكن إذا كان الأمر غير ذلك، فسيكون المشهد الاحتفالي عند الأمن الوطني.

لم أستهجن قطّ قولها، فحبيبتي لا تناقض نفسها، ولا تسلك سلوكا لاتطبّقه على نفسها، فهناك أمور وأحداث غير الحب والحياة الشخصية، يمكن أن نراقبها ونتدخل فيها من غير أن نشعر بالندم وتأنيب الضمير.

ومثلما توقعت، لم يكن تصرفهن بدافع مَثلي.

وقتها أكبرتُ حبيبتي ابتسام التي تقدّر خلقة الله، نحن أحرار في أن نحب، والحب شيء مقدس عندها، لم تنتهكني أو تفرّط بي، فلمَ أفرط بها؟

أراها تغامر بكل شيء من أجلي، ولو كنّا في مجتمع أوروبي لأعلنتْ انتماءها لي؛

كان عدد المحتفلات ثمانية من بنات الطبقة الراقية، التي تتحكم باقتصاد البلد وجيشه، وكان من بين المدعوات شابّة شقراء في الثامنة عشرة من عمرها، تتكلم لهجة غير لهجتنا، وقد عرفت أنها ابنة السيد رئيس غرفة التجارة الذي قضيت ليالٍ في شقته وأنا سجينة… ابنته من زوجته الأجنبية.

آخر من قدِم كانت الميساجست الآسيوية، ويبدو أن نرجس بنت السيد ذي الوزارة غير السيادية، أدارت كل شيء بإحكام، بدءًا من أولى القادمات، وانتهاء بآخراهنّ، وهي الميساجست، لأكتشف بعد ذلك أنّ الوضع الترتيبي جاء لغرض روحاني.

نعم هناك سمو من نوع آخر.

سمو بطريقة أخرى؛ لكنه يتعارض مع مجتمعنا ولا بدّ من أن تطّلع عليه ابتسام.

وبدخول “ميري” أغلق الباب الرئيس وبدأت مراسم الاحتفال.

لفّتْ “نرجس” في الشقة، وأطلّت من النوافذ، ثمّ أغلقت الستائر لئلا يلمح أحد في الخارج، أو يسمع بعضا من الاحتفالية المهيبة، كنّ يضحكن ويلعبن، وتخرج كل واحدة من حقيبتها قناعًا غريبًا؛ تعدّدت الأقنعة، واختلفت أشكالها، قالت “نرجس”:

أنتِ تعنين الرياح، وأنتِ تحملين اسم الماء، أنتِ الشمس، أنتِ الوحوش، وأنا الصدى، منحت نفسها والأخريات أسماء، احفظن أسماءكن سترافقكن إلى الأبد؛ وفي المستقبل عندما نحتفل ستخاطب كل منا الأخرى باسمها الطبيعي، والتفتت إلى”ميري” الميساجست وقالت:

أنتِ ممثلة ربنّا الشيطان.

صاحَ ما في السلة… فعرفتُ أنه ديك أُحضر لغاية ما، فربّتت “نرجس” على السلة وصاحت:

لا تتعجّل ستكون فينا!

مسكتْ “ميري” من يدها وأجلستها عارية على كرسي وسط الصالة:

ـ أنتِ من الهند؟

ـ نعم.

ـ جئتِ من تناسخ الأرواح؟

ـ ماذا؟

صاحت الريح حفيدة رئيس الأركان: reincarnation

فقالت بلكنة محببة وابتسامة: نعم

ـ والسحر… أنتِ من عالم السحر.

ـ نعم.

ـ لذلك اخترناكِ لتكوني ممثلة لسيدي ومولاي صاحب الجلالة الذي لم يسجد لأحد قط، ممثلة لسيدنا الشيطان، ومرّرت يدها على صدرها: جلّ اسمك يا من رفضت أن تسجد لغير الله، وإن كان أبانا الذي هو من التراب.

الوجه الأرنب قرعت طبلًا ثلاث مرات، فوقفن في صف واحد وبيد كل واحدة كوب، وتلت وجه النمر بيان الجماعة بلحن متتال ذي نغمة حادة:

ما دمتِ قد جئتِ من الهند بلد السحر وتناسخ الأرواح، فإننا جعلناكِ ممثلة لسيدنا ومولانا الأبدي الأزلي الشيطان.

فأومئت الميساجست برأسها، ومسكتْ الديك من رقبته: الآن نذبحه لنشرب دمه.

بجرأة صارخة حزّت رقبة الديك، فتساقط دمه في الوعاء البلاستيكي العريض… وحملته وجه النمر وهو يركل برجليه إلى المطبخ، وسرعان ما رجعت وهي تحمل إناءً زجاجيًا مملوءا بالماء سكبته على الدم، وانضمّت إلى آخر الصف؟

قالت الميساجست: تقدمن؛ وَضعن الأكواب على الأرض، وتجرّدن مما يرتدينه باستثناء الأقنعة، ظهرن عاريات تماما.

راحت العاملة الميساجست تغمس فرشاة بالدم وتمررها على سرّة كل من يأتي دورها، ثم تضع قليلا من الدم في الكوب فتشربه صاحبتهُ بلّذة متناهية.

حتى انتهين من آخر كأس؛ وآخر من شربت هي الميساجست التي اختاروها لتكون ممثلة الإله الشيطان، وقبل أن تخيّم أية لحظة هدوء، طلبن منها أن تغني باللغة الهندية، فأخرجت ذات وجه النمر قناعا وقالت:

هذه أخواتي في الشيطان، كلمات الأغنية، أخرجن أوراقكّن واقرأنها بصوتٍ عال، وستغنيها لنا بصوتها ونحن نعزف، فرتلنّ:

أين تمضين يا روحي بعد أن تفارقي جسدي.

سيجعلك الإله الشيطان.

سيدي ذلك الذي في الأعلى وفضَّل أن يكون في الأسفل.

معنا وقريبًا منّا.

سيجعلك في وردة أو بقرة أو وحش ضار.

أي شيء كان.

لكن لا تخافي، لن يجعلك تتعذبين طويلًا في مكان واحد.

بدأن ينقرن بالدّف والطبل، والميساجست الهندية تغنّي بصوتٍ شجي، وهنّ خاشعات تكاد الدموع تنهمر من عيونهن.

وكنت أراقب حركتهن بفيض من الدهشة والاهتمام.

أنصت لخشوعهنّ.

أتساءل وعيناي لا تفارقان الشاشة: أهو تنظيم جديد أم ديانة جديدة؟

كيف استوردنها وبأية طريقة وصلت إليهن؟

دهشة تلبستني منذ بداية الاحتفال حتى نهايته…

تُرى ما سبب إقدامهن على ممارسة هذه القبائح بطقوس ومعتقدات غريبة رغم أنهن بنات ذوات؟

هل هو الترف الزائد؟ أم الفراغ العاطفي؟ أم الوصول لدرجة مبالغة من القناعة بأن الرب يجب ألا يظلم مخلوقا مهما كانت إساءته؟

ورجعتُ لنفسي أحدّثها: وأنتِ ما تفسيركِ للقبائح التي تمارسينها مع سيدة مثلكِ؟

لكنهنّ يمارسن معصية وشركا… بينما أنا أمارس حقّي في الحب دون خوف.

لا تختلفين عنهن بشيء، ولا تختلفين عن أخريات يبعن أجسادهن وقلوبهن مقابل المال، أو اللائي يقنعن أنفسهن بالشرف بعلاقات مشبوهة تحت مبدأ التضحية من أجل الغير، جميعكن بنات هوى وعتمة وضلال.

بل جميعنا ضحايا سلطة ذكورية عفنة وقوانين قاسية ومنغلقة.

تبريرات هشّة لسلوكيات مقيتة، ما أتعسكّن من نساء.

معظم الأحيان أقنع نفسي أنني لستُ على خطأ.

انتبهت من حديثي العقيم هذا مع نفسي، على صوت “نرجس” وهي تعلن انتهاء حفلة الليلة.

انتهت حفلتهن في وقت متأخر من الليل، وعندما غادرن بقيتُ أتربص ساعة حتى تأكدتُ من مغادرتهن تمامًا، ثم خرجتُ من المبنى.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. كل الشكر والاعتزاز والتقدير لاهتمامكم بالأقلام الأدبية والشخصيات الثقافية والفكر الحرّ.
    شكرًا للنشر وكل التوفيق لهذا الصرح الثقافي الجميل
    احترامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *