جلال برجس *
( ثقافات )
عندما أغلقتُ باب سيارتي ورائي، كانت آثار الصقيع، الذي بدا قاسيا في ذلك الصباح، ما تزال باقية على زجاجها، فبقيتُ لدقائق أتأمل وجه الزجاج وقد استحال إلى لوحة بيضاء، تتقاطع فيها الخطوط، والوجوه، والأجساد، موحية بمزاج سوريالي ضارب في المعنى. فالطبيعة يد رسام أولى، تمارس هوايتها بلا خوف، أو تردد.
راح محرك السيارة، وأنا أجهزها للانطلاق، يئن متأثرا بموجة الصقيع التي عصفت بالقرية. أرخيت رأسي على مسند الكرسي وأخذتني سنة من التفكير:
“ما الذي يحدث لك يا خالد؟ إنه الجنون بعينه أن تذهب إلى معتقل أمضيت فيه عشرين عاما، ليس ثمنا لموقفك السياسي؛ بل بتهمة، لم تقترفها، ستبقى تقلب بصرك بين الوجوه باحثا عن أي دليل يشير إلى من ألصقها بك. ما إن غابت “سعاد” ذلك الغياب الخاطف المفاجىء؛ حتى رحت تتحسس شكل سجن جديد يشرع أبوابه في صدرك. كأن كل تلك الكلمات، والتأوهات، والوعود، وأنين الجسد في سرير الحب، أمست مجرد مشهد في فيلم تحولت شاشة السينما إلى سواد مخيف، بعد انتهائه. حنين جارف لمعتقل ستذهب إليه مدفوعا بشغف غريب ومرَضيّ، بات يلح عليك منذ أن وجدت نفسك عاجزا عن فهم ما يجري حولك. حتى أن صديقك الدكتور ويلسون الذي راقت له عوالم الشرق فأقام في عَمان، لم ينجح بطرده منك رغم شرحه المستفيض لأسبابه، وطرق التخلص منه، وأنت ممدد على سرير يشبه كرسي اعتراف بكل ما يحدث في داخلك، وتسرد له ما حدث عبر عشرين عاما صارت أثارها كآثار شوك حوليّ في قدم سقطت فجأة بحقل ملغم بالحشائش الشوكية الضارة”.
تلاشت لوحة الصقيع البيضاء، وتراجع أنين محرك السيارة، فانطلقت في الطريق التي تشق القرية إلى نصفين متساويين، في صباح ارتفعت فيه أدخنة المدافئ، كأنها أياد تضرع إلى الله، قاصدا الطريق الصحراوية الممتدة كلسان كبير يهزأ بالكائنات.
ثلاث ساعات من مسير تحولت حياتي عبره إلى مشاهد تتوالى أمام عيني مشهدا، مشهدا، لأجدني في نهاية الطريق قبالة معتقل، جاثم على صدر الرمال ببدنه الحجري الأصفر، بأسلاكه الشائكة الصدئة، بأسواره العالية كالصرخات، وبصوت الرياح وهي تحوم حوله كنادبات استمران النواح.
أطفأت محرك السيارة، وأشرعت باب الذاكرة على مصراعيه لأغرق بكل ما حدث منذ الليلة التي اعتقلتُ بها، ليلة كان عليّ أن أؤمن فيها بالإشارات، والنذر وهي تخرج لي حتى من الهواء. انتهاء بذلك الصباح الذي غادرتُ به المعتقل وأنا أتبين عبر نافذة العربة العسكرية، نواح ذئب بقي كحكايات الأمهات قبيل النوم في المعتقل، ينحدر إلى مسامعي برتمه الموسيقي الموحش قادما من ليل الصحراء، إلى أن تحل سطوة الإغفاء حاملة معها الكوابيس، والهلوسات، والنوم المتقطع.
بدت لي الصحراء وهي تحاصر المعتقل، قد اتسعت أكثر من ذي قبل، فاغرورق البصر ببدن المسافات وهي تركض للبعيد ثم تلتحم بالأفق. فجأة ثارت عاصفة في المكان، جلبت معها ذرات الرمل الدقيقة، وبقايا الحشائش اليابسة، ومزق أوراق مصفرة ذابلة. إنها مزاجية الصحراء التي مثلما تمنحك المساحة الهادئة في صباحاتها، ولياليها الصيفية؛ تمنحك غضبها دونما مقدمات. ما هي إلا لحظات، وكأن المساء قد حلّ؛ حتى طفقت على المكان عتمة حمراء، وراحت الرياح تعوي وهي تعزف على وتر موغل بالوحشة.
أغلقت نوافذ السيارة وأرحت بدني على الكرسي مستسلما لإحساس سادني غريب من التلذذ بالوحشة. من مخبأ الذكريات كان عواء الذئب يجيء متقاطعا مع عواء الرياح، في مقطوعة صارت خلفية لمشاهد تطل من عتمة الذاكرة، وقطرات ساخنة تتساقط في مكان خفي في دواخلي. وصوت الدكتور ويلسون يأتيني محرضا على الرحيل:
“لا تستسلم لهذا الإحساس. إنه إحساس زائف وخطير. خطورته في أن يسيطر عليك الحنين للمعتقل. وكأنك ترفع الراية البيضاء أمام خصمك السجن، الذي اكتشفت أنك تحمله معك. عليك أن تهزمه يا خالد”
نقرات يد جندي كان يغطي وجهه برداء صوفي اتقاء للبرد، والعاصفة الرملية، على زجاج السيارة أيقظتني من استغراق موحش، لطالما استغربته:
– هل تريد شيئا، هذه منطقة عسكرية لا يسمح لك بالاقتراب منها؟
لم يكن من السهل أن أقول له إنني جئت إلى هذا المكان على جناحيّ حنين عجيب، شدني للمعتقل. لكنني رحت أتذرع بالتيه:
– لا. كل ما هناك أنني تهت، لأجدني هنا، فتوقفت لأستريح منتظرا تراجع العاصفة فأعود للدرب الصحيحة.
قبل أن أغلق نافذة السيارة اتقاء لرمال بدأت تتدفق للداخل، وأتهيأ للانطلاق، سألت الجندي:
– أما من أحد في هذا المعتقل. فأنا لا أرى حرّاسا ينتشرون حوله؟
– لا. تحول هذا المعتقل إلى مخفر، في هذه الصحراء التي تخلو حتى من المتخاصمين.
شكرته بعد أن دلني على طريق العودة، ثم انطلقت وأنا أقاسي مشاعرَ غرائبية.
من مرآة السيارة كان المعتقل يتلاشى في جنون العاصفة شيئا فشيئا. وأنا أسلك الطريق التي كان علي أن أبدد عبرها ثلاث ساعات من مسير متواصل لأصل القرية، كنت أعي جيدا أنني لم أكن يوما بحاجة لسعاد، كما كنت أحتاجها في ذلك اليوم الذي استشاطت به الرمال تصفع كل شيء، فتخلق شعورا مليئا بالوحشة. كنت أتبين وجهها عبر عواصف حزن تجتاحني، كوجه طفل يلعب (الاستغماية). يطل مرة، ويغيب مرات خلال طريق بدت كيدٍ تسحب حبلاً طويلاً لا ينتهي من جوفي.
كنت أحتاجها، كحاجة يد في طقس بارد لجيب تخلد فيه. فلم تكن في حياتي مجرد امرأة تمرّ مرورا عابرا، أبقى بعده أقتات على ذكريات بدت قصيرة الأجل منذ البدء. بل أغلقتُ عليها جفنيّ القلب كحياة أبدية، لا يمكنني التنازل عنها بسهولة كما يفعل الرجل الشرقي حين تدير امرأة ظهر قلبها له، مقابل حبه الجارف.
***
ما إن وصلت البيت عائدا من مرمى حنين سادي للمعتقل، حتى وقفت تحت صنبور الماء في الحمام، لا لأغتسل من تراكم الرمال التي تسللت إلى كل أنحاء جسدي، بل لأتخلص من ذلك الألم الخاطف الذي كان يزداد صحوا بي كلما توغلت فيما حدث بيننا.
خرجت من الحمام لأرى جدتي تتجاوز باب المطبخ، تتوكأ بيمينها على عصاها، وتحمل بيسراها صينية، استقر عليها إبريق شاي، وكأسان. قالت بصوت متعب:
– تعال يا خويلد اشرب شاي.
أخذت الصينية من يدها، ودخلنا غرفة المعيشة. أرخت عصاها واستعانت بيديها وراحت على مهل تهبط فوق فرشة صوفية، إلى أن جلست متعبة في مكانها وهي تهلل، وتبسمل.
جلست قريبا منها ثم سكبت الشاي ورحت أنفخ فيه، ثم أشربه. التفت إليها، فغادرت شرودها بي وقالت:
– وين كنت اليوم؟
– رحت أزور صاحب.
من كيس بجانبها تناولت غليونها الذي تمتد من حجره عصا دفلى طويلة، وراحت تملأه بتبغ (الهيشي) :
– ما ظني أنك كنت عند صاحب يا خويلد. إنت مالك خوي غير رداد.
بولاعتها التي تعمل بالكاز، أشعلت النار بالتبغ، ثم أخذت نفسا عميقا، وتبعته بآخر فارتخت:
– انت رحت عسجنك يا خويلد؟
– وكيف عرفتِ؟
بمسمار مثبت بحجر الغليون عبر سلسلة معدنية قصيرة، نكشت التبغ وأشعلته مرة أخرى:
– سمعتك تسولف مبارح وانت نايم، مرة تنادي على سعاد، ومرة تنادي على خوياك بالسجن.
ارتشفت من كأس الشاي، ثم وضعت يدها على رأسي:
– يا جديدتي أنا دايمن أسمعك وانت نايم تقول منهو اللي اتهمني هالتهمة وراحن عشرين سنة من عمري.
يا خويلد لازم تنسى. في شغلات بحياتنا لزوم ما ندري بيها. موتها أحسن يا جديدتي.
بقيت جدتي تتحدث إلي دون أن أنطق بكلمة واحدة، إلى أن قررت الذهاب إلى غرفتي:
– أنا رايح أنام. تصبحي على خير يا جدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ستصدر قريباً عن الأهلية للنشر والتوزيع في عمان