كيف تعيش بعينيّ قط ؟*

(ثقافات)

كيف تعيش بعينيّ قط ؟*

د. غسان إسماعيل عبد الخالق

 الإصدار الأحدث للقاص والروائي عدي مدانات*، الذي تدثّر بعنوان “فن القصة وجهة نظر وتجربة”، يستدعي كلاما يتجاوز الإصدار في حدّ ذاته، ليشمل الإجابة عن سؤال مثل: كيف يمكن للكاتب أن يعيش؟! وإذا كان الفرنسيون قد قالوا قديما: الإنسان هو الأسلوب، فإن عدي مدانات يؤكّد أن هذا الأسلوب يتمثّل في فن القصّة !

 بداية، فإن مجرّد الإقدام على تأليف كتاب مؤدّاه، كيف تكتب قصة؟! في زمن يمور بكتب مثل، كيف تصبح مليونيراً ؟! وكيف تتعلم الانجليزية في عشرة أيام ؟! هو مغامرة كبيرة من منظور قرّاء الزمن السريع، ومن منظور قرّاء القصة بأنواعها، ومن منظور كتّاب القصة أنفسهم. ذلك أن كلّ جهد ينحو لتبجيل الصنعة وتقعيد الاحتراف غدا الآن فعلا ً مضاداّ لذائقة الزمن الراهن الذي يستمتع أبناؤه بالانزلاق الدائم على سطوح الأفكار والعواطف والأشياء والكلمات. وقد امتلك مدانات الجرأة والصبر اللازمين ليهدينا عملاً حِرفيّاً من شأنه أن يرسم عدي مدانات معلّما كبيرا في السرد والحياة.

من منظور مدانات، إذا كانت الكتابة خيارا وجوديّاً مطلقاً، فإنّ القصة تمثّل الأسلوب الأمثل لتجسيد هذا الخيار على صعيد التفكير وعلى صعيد الشعور وعلى صعيد الصياغة. فالقاصّ بوصفه قطّاً مترعا بالفضول، دائم البحث عن التفاصيل، لأن التفاصيل عنده هي المتن الذي يزري بهامش الفكرة المطلقة، ولولا ذلك الشغف بالتفاصيل لما استطاع أن يرسم شخصيّة تلك المرأة البضّة ذات العينين الواسعتين والأنف المستدّق والشفتين المزمومتين والذقن الصغيرة، على سبيل المثال، وعليه فإن الكاتب يستيقظ من نومه بوصفه قاصاً، وينفث دخان سجائره بوصفه قاصاً، ويحتسي قهوته على رصيف المقهى بوصفه قاصاً! إنه ضد الكليّات والمجمل، لأنها تفتقر إلى الإثارة الكافية التي لخصها الإنجليز بقولهم: الشيطان يقبع في التفاصيل!، وأيّ مراقب فضولي أجدرَ برصد شياطين الحكايات من كاتب القصة؟

في شخص مدانات، ثمة كائن آخر سوى القاص، كائن لم يدخّر وسعا لرفد القاص بكلّ ما يحتاج إليه من تفاصيل وخبرات، إنه المحامي الذي أجاد مدانات الاضطلاع بدوره لعقود، وحافظ على تحويل ملاحظاته لحساب القاص أولاً بأول ودون تأخير. وهو المحامي الذي استمع لأدق تفاصيل حكايات الموكلين واختار الجانب الذي يعجبه منها، ودافع عنه في أروقة المحاكم ومكاتب القضاة، وهو المحامي الذي يؤكد أنه دخل أفخم القصور دون أن يساوره أدنى شعور بالضآلة، كما دخل أفقر البيوت دون أن يساوره أدنى شعور بالاستعلاء. لقد ظلّ في القصة وفي المهنة واقعياً اشتراكياً دون هتاف أو صراخ، التفاصيل أفكاره الكبرى ، ولحظات المعاناة أبطاله الكبار.

إذا كان ثمة سيرة ذاتية للقاص، فهل هناك تاريخ شخصي لأفكاره؟! وماذا يفعل القاص كي ينجو من أي انتحال يمكن أن يطال السيرة الذاتية؟ مرة أخرى تتمثّل الإجابة عند مدانات في فن القصة الذي يمكن أن يجمع التاريخين معاً، سيرة الذات وسيرة الأفكار. الاقتصار على سيرة الذات يمكن أن يقود إلى الفردانية المطلقة التي تأباها واقعية مدانات الاشتراكية، والاقتصار على تاريخ الأفكار يمكن أن يقود إلى المثالية المطلقة التي تأباها ماديته التاريخية،  وتتمثّل لذلك بهذين الاقتباسين المثيرين :

  ـــ” بجانب قصر منكو المتميز في جبل عمان، وبمحاذاة الطريق المتجهة صعوداً إلى مدرسة المطران، وبانحدار قليل عن الشارع باتجاه حوض المدينة، وقريبا من مقرّ قيادة الجيش العربي والدوائر الرسمية المهمة آنذاك، ومقابل عدد من منازل عائلات من الأشراف المرتفعة  عن الشارع، كان ثمة بناء رصين من الحجر، تتبعه ساحة رحبة نسبياً، هو بناء مدرسة الجريديني الابتدائية. ألحقني والدي بتلك المدرسة في الصف الأول حال حلول أسرتي في عمان مرة ثانية، قادمة من مدينة السلط. كانت المدرسة لسوء حظي تبعد عن منزلنا بحدود الكيلومترين ! فتعيّن علي أن أسير إليها على قدميّ كل تلك المسافة برفقة عمتي قوية الشكيمة في فصل الشتاء شديد البرودة. كانت المسافة بين منزل العائلة والمدرسة تحمل عناوين الاختلاف والتدرّج في مستوى عيش العائلات التي أمرّ بمحاذاة مساكنها، انطلاقاً من  شارع حيّنا البائس، مروراً  بمنزل مهيب هو منزل كلوب باشا قائد الجيش في ذلك الوقت، ثم انتهاءً بقصر منكو.”

  ـــ”الخيال لا ينبثق من فراغ، فمهما جنح الخيال بالإنسان، ومهما صنع المتخيّل بمخلوقاته الأدبية وركّب وأضاف وأدخلها في عالم غير العالم البشري الذي نعرفه، فسيبقى خياله في نهاية المطاف مستمداً من الواقع الذي نعرفه، وسيبقى أبطاله المتخَيلون على غراره وغرارنا. إنّ مصدر الخيال العجائبي ونبعه في حقيقة أمره هو الواقع نفسه، ولكن المركّب تركيباً متخَيّلاً، على نحو يجعل الصورة المتخيلة والمركبة، حاملة للحالات الإنسانية المطلوبة والمأخوذة من الواقع، الحالات الحاملة للجمال، لصفات بشرية تمثل الحب والخصب والجمال والإقدام, وكلّ الصفات الطيبة، وبالمقابل القبح والشر والكره والحقد والأنانية المفرطة، وكلّ الصفات السيئة.”

الكتابة والحياة وجهان لقدر واحد، وما عليك إلا أن تختار التكتيك الذي يمكن ان يوصلك لهدفك الاستراتيجي. ومن منظور مدانات، فإن فن القصة هو التكتيك الأمثل والفعال الذي يمكن أن يوصلك إلى التمتّع بالحياة. وكلّ هذا يقف في وجه من نعى القصة في الوطن العربي خلال الندوة التي أقامتها جمعية النقاد الأردنيين قبل عام ونصف العام.

  • نشرت هذه المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الراي الأردنية  بتاريخ 26/ 2/ 2010.

  **  للمؤلف عدي مدانات سبع مجموعات قصصية، أربع روايات ونوفيللا ( قصة طويلة) كما هذا الكتاب البحثي.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *