لوحات مجزّأة

(ثقافات)

لوحات مجزّأة
ـ قصة قصيرة ـ   

أحمد غانم عبدالجليل   

وصل القطار محطته الأخيرة، استغرب خلوه من الركاب كما لو كان في غفوة، وحده الباقي على ذات الجلسة الصامتة بلا حراك، يمسح وجهه ذهول متعثر الإجابة على سؤال موظف التذاكر عن سبب عدم مغادرته العربة كالأخرين، لم يفهم من كلماته شيئًا، كلمات مضطربة تدل على ركاكة لغته، تشوبها مفردات متقطعة من لغة أخرى لا يعلم عنها سوى أنها لغة أغلب المهاجرين، أخذ التذكرة من بين يدي الراكب شبه المخدَر، كان ذلك أغلب ظن الموظف المستعين بالصبر للخلاص من الموقف الغريب الذي يؤخره عن الالتحاق بزملائه لارتشاف قدح بيرة يخفف عنه عناء يومه، أمسكه من ذراعه كالمقبوض عليه، انقاد الرجل أشيب الشعر إليه في استسلام وكل أمله عودته إلى شقته التي غادرها باكرًا لركوب قطار لم يعد يتذكر سبب اختيار خط سيره دون سواه.
من التذكرة عرف الموظف من أي محطة ركب، سأله إن كان يحمل نقودًا، مشيرًا بحركة من أصابعه ليفهمه ما يطلب منه ليشتري له تذكره العودة، أو يسلمه لإدارة المحطة ويعفي نفسه من المسؤولية، أخرج العجوز المتلفت يمينًا ويسارا، كطفل دون العاشرة، حاقظة نقوده بلا مبالاة من جيب معطفه، عندها تبين للموظف من الهوية الشخصية إنه حاصل على الجنسية، انزلقت نظراته عنها سريعًا إلى رزمة من النقود أخذ منها أكثر من ثلاثة أضعاف التذكرة التي اشتراها له قبل أن يركبه القطار العائد إلى مدينته وليتدبر أمره هناك بعيدًا عنه، حياه ممتنًا بابتسامة مستكينة للتيه، بعض ضياعه الذي وجد نفسه فيه منذ مدة لا تنجده ذاكرته أغلب الأحيان بتحديدها، إن كانت أشهرًا أم سنوات.
خرج من المحطة بخطاه المترنحة، لم يعرف أي اتجاه يسلك للوهلة الأولى، إلا أن الطريق إلى الحي الذي يقيم فيه، وغير البعيد، ومض في رأسه فجأة، أكد له مفتاح الباب الخارجي، بعد تجربة أكثر من واحد في علاقة مفاتيحه، أنه لم يخطئ العمارة التي يسكن، بقية دربه للوصول إلى باب شقته كان أكثر سطوعًا لديه، عند باب شقته تفاجأ بفتح باب الشقة المقابلة، خرجت ريم بعد أن طال وقوفها في الشرفة بانتظار رجوعه من حيث لا تعرف والظلام يشتت ما تبقى من ضوء النهار، استدار نحو هروعها إليه وسؤالها: أين كنت يا عم زكي إلى الآن؟ أفزعتني ولم أعرف ماذا أفعل، وأنت نسيت هاتفك كالعادة.
تعذرت عليه الإجابة، تاهت عنه الكلمات التي يتوجب عليه الرد بها، كما حصل مع عامل التذاكر ويحدث معه في الآونة الأخيرة على نحو متنامٍ، كمن يبحث عن معانِ الكلمات رغم بساطتها، فلا تصدر عنه في النهاية سوى لجلجة غامضة، وكأن الثمالة تتعتع نطقه فيستسلم إلى صمت محير في فهم ما كان يعتزم قوله.
التقطت علاقة المفاتيح الساقطة من يده دون انتباه منه، فتحت له باب الشقة، انتظرته يدخل لتدخل وراءه، لكنه باغتها بإخراج المفتاح من خرم الباب بسرعة ثم صفقه في وجهها، انتفض الدمع في مقلتيها كنثار ذكريات قصيرة الأمد تخبو في ذهنه فتستحيل عدما، ظلت على ذات جمود وقفتها أمام ذلك الباب حتى نبهها صوت إيصاده من الداخل كأنه يتعمد ألا تستخدم نسخة المفتاح التي تمكنها من دخول قوقعته في أي وقت، قبل أن تنصرف باتجاه شقتها يصل أذنيها صوت فيلم كوميدي وقهقهة عالية تسبق استسلامه لنومٍ تقلقله سلسلة من أحلام أقرب إلى تهافت صور عتيقة باهتة الألوان ومثلَّمة الأطراف، أغلبها تغيب عن وعيه عند اليقظة ولا يبقى منها سوى جذوات تدحرجها الرياح نحو هاوية الخمود.
يرى الدكتور الذي لا يذهب لمراجعته إلا بإلحاح من ريم أن تلك الأحلام علامة.جيدة بالنسبة لمن في حالته لأنها بمثابة تدوين ما رسخ في وعيه عن عقوده الماضية على الأغلب، وفي بلده تحديدًا، ولو بصورة غير منتظمة، ما بين تفديم وتأخير، محو وإضافة، مثل كاتب يدور في فلك نص لا يرسو على مسستقر، المهم إنها تكبح جماح تصدع الذاكرة إلى هوة الهشيم، ريم وحدها تبقى مصغية، تتابع كلام وتحليلات الدكتور النفسية، بينما ينصرف تركيزه المشتت عن لغة لم يتقنها جيدًا، وحتى إن فعل ستبقى أكثر استعصاءّ علبه من كلمات لغته الأصلية التي صارت تغيب عنه فجأه، كأنها فواصل يقف عندها إجهاد عقله، يتركه ينظر إلى الرجل الجالس خلف مكتبه بمعطفه الأبيض وربطة عنقه زاهية الألوان دومًا باستخفاف ساخر من هراءٍ ربما هو نفسه لا يفقهه، يكرر مثله لكل مريض بعد مراجعة بعض ما حفظ من الكتب الجلدية السميكة المرصوصة في مكتبة من خشب الزان الصقيل خلفه، يبدأ بالتعبير عن زهقه منه ومن وضعه أمامهما بإطلاق تنهيدة إثر أخرى تزداد حدة كلما طال سأم الجلسة، تمهيدًا لحركات مباغتة وغريبة تخبرهما بعدم قدرته على التحكم بأعصابه أكثر، فيلبي الدكتور مطلبه، رغم معرفته بافتعاله تلك التصرفات أو مبالغته بحدتها في بعض الأحيان من أجل الخروج وتنشق الهواء الحر في طريق عودتهما، حيث يبدأ جسده بالتخلص من سموم تشنج عضلاته رويدًا رويدا.

يكاد لا يشعر بجسده، وكأن روحه أصبحت عارية، تتأرجح ما بين علوٍ وانخفاض رغم نبض الحياة الذي يدب في أوصالها، في الظاهر يبدو أنه مغيّب عن الوعي، لكنه ينصت إلى ذبذبة كل ما يدور حوله من حركة وكلام متداخل في طنينٍ حاد ومستمر، عرف بعد ذلك من أصدقاء الكافيتيريا الذين سارعوا بنقله إلى المستشفى أنه قد أصيب بجلطة دماغية خفيفة لم يدركوا مدى ما ستتركه من أثر على المتبقي من حياته.
لم يتفاجأ، في أحيانٍ كثيرة كان يتوجس حدوث مثل هذا الأمر، منذ أعوام، لا بل عقود، وبالتحديد منذ أولى سنوات دخوله المعتقل، كما حدث لكثيرين لم يعرف عن مصير أغلبهم شيئًا، وحتى بعد مغادرته العراق رافقنه ذلك الهاجس هنا، رغم خضوعه للفحوصات الطبية بشكلٍ منتظم يتناسب مع كهولة حطت بثقلها على كاهله عند احتلال بلده حتى أوشك في ذلك اليوم الربيعي أن يدرك نهايته.
(غريب أن تسلبنا شهقة من شهقات الدنيا ما لم تستطع زفرات الموت انتزاعه منا).
جملة تتردد في رأسه كل حين وكأن هناك من يتلوها عليه، لا يتذكر إن كان هو أم شخص آخر قالها، أم أنه سبق وقرأها هنا أو هناك فصارت جملته الخاصة به وحده، تتناسب وحياة ألهبه حماس تدوينها ونشرها في كتاب محتشد بالمعلومات، بل الأسرار أيضًا، عنه وأبناء جيله، لكنه في النهاية لم يكتب سوى عدد من الأوراق بخط مرتجف يكاد لا يقرأ، لملم بعثرتها بضجر في جارور بعد إصابته، إن تذكرها وبحث عنها بما يواتيه من تركيز لا يجدها في أية غرفة، فيجنح إلى يقين قيامه بتمزيقها فعلًا في زوبعة انفعال تنفلت من قبضات السكون ونثر قصاصاتها في الهواء، لا كما يأخذه الظن عادةَ بهلوسة حلم أو هذي خيال يتطوح بلا وعي في أفق اليقظة.
الكثير من الناس يأملون أن ينسوا أحداثًا مريرة طعنت أرواحهم، لكنه الآن طريد النسيان، يتعقبه يومًا تلو الآخر، ساعة إثر أخرى قد تسوقه للخروج إلى أي مكان، يتفاجأ بوجوده فيه بعد ذلك، بلا مبالاة للوقت أو حتى الهيئة التي يبدو عليها، ثم يعود إلى أسره من جديد بعد أن تتشوش في رأسه الدروب المفضية إليه، مثله مثل السائرين نيامًا، ينسى تلك الجولات المجردة من أي معنى، ثم تعود تبزغ نتفًا متفرقة قد تتجمع على مهل مثل لوحات الرسوم الكارتونية التي يعمل الأطفال على التنسيق بين قطعها المتداخلة، تزيده تيهًا واكتئابًا يعزف عن مواجهة دنيا تنهل من عبث الاغتراب غرابتها، حتى جارته الحنون لا تستطيع أن تطمئنه إليها، بل يخالها في بعض الأحيان متطفلة لا تجد ما تفعله سوى مراقبته، رغم احتياجه المتزايد إليها بعد أن أبعدت حدة تقلبه المزاجي أكثر أصحابه عنه، ورغم انشغالها بعملها وتعدد علاقاتها وصداقاتها، وحكايات كثيرة تخبره عنها باستفاضة صريحة، ربما لاطمئنانها إلى ضعف ذاكرته وتلك الصعوبة التي يواجهها في الربط بين ما جرفتها من كبوات متتالية إلى وحدة صعبة الاختراق ما أن توصد باب شقتها ولو في ساعة متأخرة من الليل، قد تفلح في مداراة حزنها بعض الشيء، إلا أن نظرة محدقة تمكنه من التنبه إلى لمعان دمع يراوغ كبت الاحتجاب، يظن إنها أيضًا بحاجة إلى بعض الحبوب التي تحرص على مواعيد تناوله لها، إلى إفاقة من غيبوبة أو غيبوبة من إفاقة استلبت سنواتها المتعدية الأربعين كما يستنزف النسيان ذاكرته، أو… أو ماذا؟ لا، لا… لا يستطيع مواصلة مثل ذلك التفكير المتخبط كتلعثم نطقه أكثر.
الصداع يضج في رأسه، وأزيز الطنين المتواصل يكاد يقذفه خارج الدنيا من جديد، جرعة من الويسكي وحدها كفيلة بهذا الهذيان، يتلفت من حوله ونظراته تتنقل بين أرجاء الشقة:
(لكن أين خبأتُ الزجاجة في آخر مرة عنها، يرعد ثقل لسانه في غضب: أأأ ي ن؟).
أخرجت سيارتها الصغيرة من المرأب وانطلقت مسرعة للبحث عنه مجددًا، تطفر الدموع من عينيها وهي تقبض على المقود بيدين تعتريهما رعشة الخوف عليه والغيظ من ضياعه المستمر، لا يدع أمامها سبيلًا سوى إبلاغ الشرطة عن اختفائه وحالته إن لم تعثر عليه في الشوارع والفروع القريبة، عسى ألا تتراجع هذه المرة أيضًا عن قرارها خشية إيداعه في دار المسنين، مرقت من أمام الحديقة العامة المحاذية للعمارة غير منتبهة إلى جلوسه في غور ظلمتها الشفيفة على إحدى المصاطب في وجوم كما صارت عادته، تغور نظراته في صف من الأشجار العالية والمتراصة أمامه كمجموعة من أناس يعرفهم من زمن بعيد، تُستبدل ومضات ملامحهم بأخرى أمام ناظريه بين وهلة وأخرى، يتذكر بعضًا منهم دون تركيز في تحديد إسم، كيف وأين ومتى التقاهم أول أو آخر مرة، يخشى أن تكون من بينهم امرأة تفردت قسمات وجهها لديه في زمن مضى ولم يعد يعرفها هي الأخرى، كما حصل في رحلة القطار عندما وقع نظره على امرأة لم تنل الغضون من ألق عينيها، أخذ يحدق أحدهما بالآخر، همّ أكثر من مرة أن يقترب منها، لكنه ظل رهين شكوكه المتوجسة من الاقتراب والتكلم مع أي غريب، عندما نزلت في إحدى المحطات كاد يقفز وراءها، لكنه جمد في مكانه، وكأنه شلّ عن الحركة تمامًا، راح يرقبها عبر النافذة حتى عاود القطار سرعته نحو محطة أخرى، يلعن العجز والخوف المصران على صد آخر ما قد يمنحهما القدر من حنو يمكن أن يستمهل رحيله، لا ذاكرته المبعثرة فحسب ما بين الأيام والشهور وربما السنوات متفاوتة المط والانكماش في سوح عمره، لا يفطن إن كانت رؤيتها مقصد رحلته صوب شمال البلاد بعد أن علم إنها تسكن إحدى مدنه، أم لسبب آخر جعله يغذ الخطو نحو المحطة في إصرار وحيوية لم يواتياه منذ أن علق في شباك النسيان.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *