سميرة عوض *
ما إن تلج جاليري «جاكاراندا امدجز» في جبل عمّان، حتى يفاجئك صوت الشاعر (الراحل) محمود درويش، بمقاطع جُمعت من قراءاته الشعرية.. وحين تدخل الجاليري، تطالعك لوحات عدة صيغت بطرق مختلفة للعبارة الشهيرة –التي أضحت أيقونة- والمأخوذة من قصيدة درويش التي تحمل العنوان نفسه: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».
تحاصرك قصائد درويش المشغولة بمحبة صافية وتقدير عال في لوحات فنية مبتكرة، كتحية تقدمها النحاتة والفنانة منى السعودي وابنتها المصممة ضياء البطل، –ربما عنا جميعا- للشاعر محمود درويش، في معرض مشترك في «جاكاراندا امدجز».
يأتي هذا المعرض تكريما لذكرى درويش وتزامنا مع يوم الأرض الفلسطيني الذي يُحتفل به يوم 30 آذار من كل عام، ويتواصل الاحتفال به في نيسان. ويبدو جليا في أعمال الفنانتين أن شعر درويش كان مصدر إلهام للرسومات والفن التخطيطي، كما تُظهر هذه الأعمال بعدا جديدا لشعر درويش.
المتأمل لأعمال ضياء البطل، يلاحظ اهتمامها باستعمال عناصر من أعمال منى السعودي في بناء التشكيلات. ولقد أثر فيها وألهمها فن الرسم التخطيطي للسعودي واستعمالها للنصوص الشعرية والكتابة في أعمالها، وشكّل ذلك المصدرَ الذي أدخلته في تصميمها للأثاث والتشكيلات المكانية.
كما حضرت عبارة أثيرية من تراث درويش، شكلت أيقونة شعرية يرددها الملايين: «أنا من هناك. ولي ذكرياتٌ»، من قصيدته التي تحمل عنوان «أنا من هناك». وهناك مقاطع من قصيدة «تعاليم حورية»، ومن قصيدة «الأرض»: «في شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدمويّة».
كما حضرت وبشكل مكثف في أعمال السعودي، مقاطع منتقاة –بتصرف- من قصيدة «نشيد إلى الأخضر»، منها:
«إنّك الأخضر.
لا يشبهك الزيتون،
لا يمشي إليك الظلّ،
لا تتّسع لرايات صباحك..
إنّك الأخضر…
الأخضر أنت الأخضر الطالع من معركة الألوان
والغابات ريش في جناحك… يا أخضر !
لا يقترب البحر كثيرا من سؤالي… أيّها الأخضر…
لا يبتعد البحر كثيرا عن سؤال… إنّك الأخضر…
والأخضر لا يعطي سوى الأخضر».
يتوقف المرء عند المقاطع الشعرية الممتزجة في لوحات السعودي والبطل، ليكتشف أنها متماثلة في كثير منها، إذ توضح الفنانة البطل مدى تأثرها بأشعار درويش، ومدى تأثرها بتلك القصائد التي أحبتها أمها منذ وعت عليها. لوحة واحدة للبطل، جاءت مختلفة عن سياق المعرض، وهي تلك التي ضمنتها الحروف الأبجدية العربية بأسلوب الطباعة الحريرية، فيظهر الحرف العربي بشكله المجرد الكبير ليرتبط مع إحدى مفردات ثورات الربيع العربي: «ب: بوعزيزي»، «ح: حرية».. إلخ.
لماذ لماذا هذا المعرض/ التحية لدرويش الآن، بعيد سنوات على رحيله؟
تقول السعودي: «الشاعر لا يموت، الشعر يظل فينا.. وأنا أحب دائما أن أستخدم عبارة الشاعر سان جو بيرس: (الشاعر يبقى دائما بيننا.. والشاعر يبقى دائما معنا)».
وعن حكاية هذه اللوحات، تستذكر السعودي، وهي شاعرة أيضا أصدرت مجموعات شعرية عدة: «قال لي درويش ذات يوم: أنت تعدّين ألبوماً لأدونيس!، فأردت أن أفاجئ درويش، فاخترت مقاطع شعرية من بين تلك التي أحبها، وأردت أن أستخدم حجم الشعر بشكل أكبر مما في ألبوم أدونيس.. وكنت أنوي أن أقدم له المجموعة كمفاجأة في عيد ميلاده في آذار 2009، وفوجئت برحيله، توقفت لسنوات، وفي 2012 قررت أن أكمل هذه المجموعة وأقمت أول معرض لها في في بيروت.
وتوضح السعودي أن الألبوم يتكون من سبع لوحات، بحجم (70100X سم)، تم الاشتغال عليه بين العامين 1976-1980، ثم أدخلت عليها مقاطع من قصائد درويش منها «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق»، و «نشيد إلى الأخضر» وقصيدة «الأرض» التي كتبها درويش خصيصاً ليوم الأرض الفلسطيني.
تقول السعودي: «أحب الأرقام المفردة، خصوصا الرقمان واحد وسبعة.. يحضر شهر آذار بشكل كبير في المعرض، ففي 13 منه وُلد الشاعر محمود درويش، وفي 30 منه يعيش العالم يوم الأرض، ولهذا اليوم كتب خصيصا درويش قصيدة (الأرض)».
وتزيد: «كل هذا إضافة إلى مفهوم الأرض المشترك بيننا.. إيمانننا أرضي، وفي أشعاره تمر فكرة الأرض كثيرا، بل تسكننا روحانيات الأرض».
وتكشف السعودي: «لو كان درويش ما يزال على قيد الحياة، لكنت قد فعلت شيئاً آخر بروح أخرى.. ما أحلم به في المستقبل، إنجاز عمل نحتي على ضريح درويش، ولعله الحلم الذي يصير حقيقة»..
تشعر السعودي بالحزن لأن درويش الذي عاش حياته بحيوية كبيرة، متطلعا إلى ثورات من نوع ما، رحل قبل أن يرى ما يجري، وتستحضر قصيدته «الأخضر»، في ظروف الحرب الأهلية في لبنان:
«يا أيّها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها
احرثوا جسدي!».
كانت صداقة منى السعودي بالشاعر الفلسطيني محمود درويش بدأت في مطلع السبعينيات. ولقد تجاوبت منى مع شعره وتأثرت به هو القائل: «أنا شاعر لي رؤية خاصة للحقيقة».
* شاعرة وصحفية من الأردن
( الرأي الثقافي)