دمشق الشام التي ملأت مناماتي

(ثقافات)

دمشق الشام التي ملأت مناماتي
زليخة أبو ريشة

منذ 2010 لم تطأ قدمي أرض دمشق، ولكن مناماتي مليئة بها. ولطالما دمجتها بعمان وبيروت، وعدت إليها عشرات المرات، وجُلتُ في شوارعها، وركبت باصاتها، وزرت بعض أقاربي في نواحيها وضواحيها. ولطالما رجعت إلى بيتنا في حي البحصة الذي أزيل عن بكرة أبيه، لتحل محله بنايات حديثة متوسطة المستوى. ولكني في المنام جددت ديكورات البيت الخشبية بنقوش جميلة، و(أرض ديار) سماوية مكشوفة، فيها (بحرة) يقرقر ماؤها المنساب.

بالأمس تمتعت بأجمل مناماتي على الإطلاق، حيث كنت في دمشق كأروع ما تكون عليه المدن الكبرى ذات الماضي العريق، وذات الميادين الشاسعة المزدانة بتماثيل تنتصب على قواعد شاهقة، وشوارع عريضة على جوانبها محلات فخمة محتشدة بمصنوعات سورية من حلويات وأنسجة وأثاث ومصوغات.

لا أستطيع وصف المتعة التي عاينتها في هذا الحلم، حيث كنت أطير فوق المدينة بارتفاع يسير، وأتنقل من حيٍّ إلى آخر بقوة دفعٍ ذاتية كما الطير. وكان أروع ما شاهدته في هذه المدينة التي شهدتُ فيها طفولتي ومطلع فتوّتي، ولقيت فيها أول حرف وأول كتاب وأوّل مدرسة وأول حبّ للغتي وللشعر وأول نشيد وأول حضرة صوفية.. كان أروعَ ما صاغته أشواقي لدمشق في َمنامي أمس نهر بردى. لقد تحول النهر الذي شاهدته في طفولتي، في أحسن أحواله، متدفقاً من وادي بردى مروراً بعين الفيجة وعين الخضرة ودمر والربوة وساحة الأمويين ثم تحت جسر فيكتوريا ثم تحت ساحة المرجة.. ثم شاهدته شاحباً ناشفاً في توالي السنين، لقد تحول في منامي إلى نهر خرافي، يتضاءل أمامه نهر النيل بجلال منظره وقدره. نهر عظيم وله فروع وشطآن متعرجة تقوم عليها أحياء ودكاكين وشوارع ، وجسور للمشاة. ولم أكن أحتاج أن أمشي على قدمي، بل أطير طيراناً دون سائر الخلق. وكنت أقف أحياناً لأسأل بعض المشاة عن وجهتي، وهي ساحة المرجة. وكنت فيما يبدو بعيدةً عنها، وفي أثناء توجهي نحوها، كنت أرى دمشق التي بناها خيالي مع أشواقي، كأنني أشاهد فيلماً وثائقياً. يا إلهي! ما هذا الجمال؟ ما هذه الفخامة؟ ما هذه الميادين والساحات والدواوير؟ كنت احس أن كل زاوية في هذه المدينة كأنها تحفة من تحف الأرميتاج أو منحوتات اللوفر.

وقد التقيت في الأثناء بأختي الصغرى هيفاء، فقلت لها: انظري إلى بردى واتساعه وعظمته الآن؛ فأنا لم أره في الماضي بهذا الجلال وهذا والاتساع وهذا الماء. ومرت في خاطري، وأنا أكلم أختي، صورة بردى وأنا أطل عليه من فوق جسر فيكتوريا وخلفي فندق سميراميس، وهو ممتلىء كعهده القديم. ثم حملت أختي وطرت بها إلى الضفة الأخرى.

أفقت وقد بلل الماء روحي وعيوني. وقلت لنفسي كما أقول الآن على ملأ: يا ليته الخير! ويا ليت سورية تنهض نهوضاً عظيماً، وتُعمَّر، ويرتوي ظمأها الذي طال

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *