ثلاثيةُ التطرّفِ والإرهابِ عند “دوستويفسكي”

ثلاثيةُ التطرّفِ والإرهابِ عند “دوستويفسكي”

سعود الشَرَفات*

تجلّى الاهتمامُ بظاهرة الإرهاب العالميّ على شكل معالجاتٍ كثيرةٍ بداية من وسائل الإعلام اليوميّة، وليس انتهاء بالدراسات الأكاديمية. لكن، جلّ الاهتمام، ذهب باتجاه الجوانب السياسيّة والتوظيف السياسيّ الرسميّ الذي يمثّل الأطراف الفاعلة من الدول.
على الجانب السياسيّ؛ ورغم التاريخ الطويل لظاهرة الإرهاب بأشكاله المختلفة في مسيرة البشريّة، إلا أن منعطف الاهتمام بهذه الظاهرة الإنسانيّة ظهر بجلاءٍ بعد هجمات 11 أيلول 2001 ضد الأراضي الأمريكيّة لأسبابٍ كثيرة ومعقّدة يتعذر حصرها في هذا المقال. لكن من المتفق عليه بين الباحثين والدارسين للظاهرة أنَّ حصيلة الإنتاج لم تكن نوعيّة، ولا كافية، بل يغلب عليها السطحيّةُ والإسفافُ والتوظيفُ السياسيُّ المباشر ذو الطابع الأمنيّ والعسكريّ.
أمَّا على الجانب الثقافيّ والأدبيّ خاصّةً؛ فإنَّ الحصيلة أكثر فقرًا؛ إذ ما يزال الإنتاج الأدبيّ العالميّ (في الرواية، المسرح، القصة، الشعر، السينما والتلفزيون) يعاني من سيطرة “التابو” والتهميش والتحيّز والسطحيّة في تناول جوانب الظاهرة كافة؛ خاصّة أسبابها ودوافع الإرهابيين ودراسة شخصياتهم في العمق.

د.سعود الشرفات

وقد سبق أن أشرتُ في أكثر من موقع من خلال اهتمامي كمتخصّص في دراسة ظاهرة الإرهاب والعولمة بأنَّ السبب الرئيس في ذلك هو خوفُ السلطات الرسميّة في الدول من “شرعنّة العمل الإرهابي” كوسيلةٍ سياسيّةٍ ثوريّة لتحقيق الأهداف السياسيّة. ولذلك تمَّ بشكلٍ ممنهج ومدروس؛ شيطنة الإرهاب، ونزع صفة الإنسانيّة عنه، والحط من شأن الإرهابيّ ووصفه بأقذع الأوصاف والصفات: مجرم، وحش متعطش للقتل والتدمير، منحط، مريض نفسيًّا، جاهل، متطرف دينيًّا أو قوميًّا، عدمي فوضوي، ومهووس جنسيًّا وغيرها من الصفات السلبيّة.
وهكذا تمَّ بناء آلية ” التابو” أي تحريم حتى فكرة الاقتراب والتعاطي مع الإرهابيّ عن قرب لدراسته على أقل تقدير. مع ضرورة الإشارة إلى أنَّ الدراسة لعقلية الإرهابيّ لا تعني فقط آلية مكافحة الإرهاب المعاصرة القائمة على فكرة الحوار المباشر والمناصحة رغم أهميتها أحيانًا.
لكن تبقى الفكرة التي أرغب بإيصالها من خلال هذا المقال الافتتاحيّ الذي آمل أن تتبعه مقالات أخرى من المهتمين، هي؛ بما أنَّ الأدب والثقافة والفنون تعكس المحتوى الثقافي لأيِّ أمةٍ أو مجتمع، فإنَّه حتمًا يفيد ويساعد في فهم ظاهرة الإرهاب وعقلية الإرهابيين. ومن هنا فإنَّ الأدب العالميّ؛ والعربيّ بشكلٍ خاص، بكلِّ أشكاله، يمثّل اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وسيلةً تنويريّةً مهمّة، ونافذة إفهام بديلة، تمكّن الأدباء والفنانين في المجالات والمستويات كافة من إلقاء المزيد من الضوء على ظاهرة الإرهاب العالميّ المعاصر بهدف فهمها بعمقٍ، لاتقاء شرورها على مجتمعاتنا.

ثلاثيةُ الإرهابِ عند “دوستويفسكي”.
كما سبق أن أشرتُ، فقد تمَّ تناول شخصية الإرهابيّ كنوعٍ من “التابو” في مجمل الإنتاج الأدبيّ خاصّةً الأوروبي، منذ القرن الثامن عشر في الرواية والمسرح والسينما، بدايةً من ثلاثية “فيودور دوستويفسكي” الشهيرة (الجريمة والعقاب،1866م الشياطين، 1873م والأخوة كامازروف،1880م) التي كتبها “فيودور دوستويفسكي”، بعد عودته من المنفى السيبيري، إلى الفرنسي “ألبير كامو” خاصّة مسرحيته (القتلة العادلون)، وليس انتهاءً بروايات الكاتب الأمريكي المعاصر/ “دون ديليلاو”، وسلسلة طويلة من أفلام هوليوود الأمريكيّة. هذا على الجانب الغربيّ الأوروبيّ؛ أمَّا على الجانب العربيّ فأنا لا أزعم أنّي مطّلعٌ على الأدبيات الموجودة؛ ولذلك فلن أعطي حكمًا معياريًّا أو قطعيًّا حول أصالتها وعمقها المعرفيين، وكيف تناولت ظاهرة الإرهاب رغم أهميتها وخطورتها في عالمنا العربيّ.
من بين أهم الأدبيات الثقافيّة التي تبحث في جذور ظاهرة التطرف والإرهاب، توقّف عددٌ من الباحثين والأكاديميين في الغرب على تحليل إنتاج “فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي” (11 نوفمبر 1821 – 9 -شباط /فبراير 1881) وهو روائيٌّ وكاتبُ قصصٍ قصيرة وصحفي وفيلسوف روسي، يُعدُّ اليومَ واحدًا من أشهر الكُتّاب والمؤلفين حول العالم.
المدخل الذي دفعني شخصيًّا للكتابة عن “دوستويفسكي” هو أسطوغرافيّة ظاهرة الإرهاب نفسها وخاصة الإرهاب العالمي المعاصر، وتخصّصي بهذا المجال، وليس التحليل أو النقد الأدبيّ، فأنا لستُ، بأيّ حالٍ، ناقدًا أدبيًّا ولا أدعي ذلك؛ لسببٍ أنَّه في الوقت الذي ليس هناك اتفاق بين الباحثين والدول على تعريف محدّد ومتفق عليه للإرهاب، يتفق المؤرخون بشكل عام على أنَّ الإرهاب المعاصر كنوعٍ من “العنف السياسيّ” تم ابتداعه أو اختراعه على يد الثوريين الروس أو العدمّيين (Nihilists) في منتصف القرن التاسع عشر.
فالإرهابيون الروس أو العدميون كما كان يُطلق عليهم تبنّوا تكنيك عمليات الاغتيال الإرهابيّ المؤسسيّ لأعدائهم في النظام الأوتوقراطيّ (حكم الفرد المطلق) الروسيّ، ومعارضتهم العنيفة للاستبداد القيصريّ والعبوديّة الروسيّة. حتى أصبح هذا الأسلوبُ يُسمّى “الأسلوب الروسيّ”. وأشهر عمليات هذا الأسلوب كان اغتيال القيصر “ألكسندر الثاني” في 1 اذار/ مارس 1881م من قبل منظمة “الإرادة الشعبيّة ” المتطرفة، وبعد وفاة “دوستويفسكي” بشهر تقريبًا. ومن هنا برز أسلوب ما يُسمّى قتل الطغاة على يد الثوريين الروس مثل الإرهابيّ والثوريّ الروسيّ /”سيرجي ستيبانيك كرافشنسكي”، علمًا بأنَّ أول محاولة للإرهاب الثوريّ من قبل “منظمة الإرادة الشعبيّة” كانت على يد الإرهابيّ الثوريّ “ديمتري كاراكوزوف” في 4 آذار – مارس 1866م الذي يُقال بأنَّه استلهم فعله الإرهابي من رواية “نيكولاي تشيرنيشيفسكي ” ماذا يجب أن نفعل” التي نُشرت عام 1863م وقد كان المذكورُ فيلسوفًا، وروائيًّا، وزعيم “الحركة الديمقراطية الثورية” في ستينيات القرن التاسع عشر، وكان له تأثيرٌ على “فلاديمير لينين”. وكان لروايته تأثيرٌ كبيرٌ في أوساط الشباب والراديكاليين والفوضويين في روسيا كما سنلاحظ لاحقًا.
تدّعي “لين باتيك” (Lynn Ellen Patyk) المتخصّصة في تاريخ الإرهاب في روسيا في جامعة “دارتموث” الأمريكيّة في مقال لها بعنوان (ثلاثية الإرهاب لدوستويفسكي) في كتاب (الإرهاب والأدب) الذي نُشر باللغة الإنجليزيّة عام 2018م وقام بتحريره البروفسور “بيتر هيرمان” /جامعة سان دييغو-كاليفورنيا، بأنَّ الإرهاب المعاصر الذي ظهر في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر تشكّل بشكلٍ عميقٍ من خلال الخيال الأدبيّ الروسي. حيث أسهم معظم الكتّاب والنقّاد الروس المشهورين في تذكيته في روح الشعب وعواطفه الانفعالية المفرطة وفي صورة الإرهاب والإرهابيين. وتضيف بأنَّ أوّل من قدّم الإرهابيّ إلى عالم الناطقين بالإنجليزيّة هو الإرهابيّ والثوريّ الروسيّ /”سيرجي ستيبانيك كرافشنسكي” في كتابه الموسوعيّ ” روسيا تحت الأرض “1882م حيث قدّم الإرهابيّ كشخصٍ نبيل، مرعب، مدهش لا يُقاوم، ويتحلى بخصلتين في آن معًا؛ وهما: البطولة والتضحية (الشهادة). وفي الثقافة الروسيّة والتقاليد الأرثوذكسيّة فإنَّ الكلمة المعبرة عن هذه الحالة هي (Podvizhnik) أي الزاهد أو الناسك الذي يضحّي بنفسه من أجل الآخرين، وهي حالة ضاربة في عمق الثقافة والموروث الشعبيّ الروسيّ كما هي في المسيحية الأرثوذكسيّة في روسيا.
لكن هذا الشكل من الإرهابيين (الناسك) الذين صوّرتهم المدرسة الواقعية الوليدة في تلك الفترة في الأدب الروسيّ كان عليه أن يتغيّر مع تطوّر الأحداث والأزمان إلى “شخص أفعال” وليس أقوال ومناظرات فقط، وأن يتحوّل إلى إرهابيّ يشبه الإرهابيين المعاصرين. وكان على الأدب الواقعيّ بكتّابه ومؤلفيه، وعلى رأسهم “دوستويفسكي” أن يجمع كلَّ هذه التفاصيل الاجتماعية ويصوغها على شكل أدب للأجيال اللاحقة، وبالتالي بأن يسهم في هذه الظاهرة.
وبهذا الشأن، تكشف “باتيك” في كتابها الذي نُشر عام 2017م بعنوان “مكتوب بالدم: الإرهاب الثوريّ والثقافة الأدبية الروسيّة”، 1861-1881 عن الشرارة المخبأة في الأدب الروسيّ التي أشعلت الإرهاب عبر التاريخ. وتؤكّد أنَّ “الكتّاب في روسيا – وبالطبع على رأسهم “دوستويفسكي” – خدموا كنقّاد اجتماعيين وسلطات أخلاقية وأصحاب رؤى وأنبياء. وعندما مرّت روسيا بتحوّل مؤلم من مجتمع إقطاعي قائم على عمل الأقنان إلى مجتمع صناعي حديث، تعهد الأدب بتصوير أنواع جديدة من الشخصيات التي تليق بالواقع الجديد؛ “رجال العمل” في كل من الأدب والحياة. وكانت النتيجة الضرورية في نظام سياسيٍّ قمعيّ غير متحوّل إلى حدٍّ كبير هي أن هذا البطل النشط سيبدو بشكل ملحوظ مثل الإرهابي المعاصر”.
يقدّم كتاب “مكتوب بالدم” على حدِّ وصف الناشر تفسيرًا جديدًا بشكل أساسي لظهور الإرهاب الحديث، بحجة أنَّه تشكّل في الخيال الأدبيّ الروسيّ قبل وقتٍ طويلٍ من إطلاق أي طلقة أو انفجار قنبلة. ذلك أنَّه في مارس 1881، فاجأت روسيا العالم عندما اغتالت مجموعةٌ صغيرةٌ من الثوريين الذين يطلقون على أنفسهم “الإرهابيين”، القيصر “ألكسندر الثاني”. ألقى الروس المذعورون باللوم على تأثير الأفكار السياسيّة والاجتماعيّة الأوروبيّة، في حين أنَّ الأوروبيين المصدومين أدركوا شيئًا جديدًا بشكل واضح في استراتيجية العنف السياسيّ التي أصبحت تعرف في جميع أنحاء العالم باسم “الإرهاب” أو “الطريقة الروسيّة”.
تزعم “باتيك” أنَّ النموذج الأوليّ للإرهابيّ كان الكاتب الروسي، الذي تم تفسير كلمته المثيرة للفتنة على أنَّها عملٌ جريء وهجومٌ عنيف على السلطة الاستبدادية. وأنَّ التفاعل والتبادل بين القول والفعل وضعا الأساس السيميائيّ لفعل العنف الرمزيّ في مركز الإرهاب الثوريّ. وبينما توضح كيف عزّزت الثقافة الأدبيّة روح العنف الثوري والإرهاب، صورته وشفقته، فإنَّها تسلّط الضوء على “فيودور دوستويفسكي” و”ثلاثية الإرهاب” ( الجريمة والعقاب (1866)، والشياطين (1873) والأخوة كارامازوف (1880) ) كروايات تسلّط الضوء بشكل فريد على أساليب الإرهاب ومساره.
كان دوستويفسكي مسيحيًّا أرثوذكسيًّا، نشأ في أسرة دينية، محافظًا آمن باستقلاليّة وسيادة الدولة الروسيّة، وكان يدعو الى الإصلاح الاجتماعيّ من خلال إزالة النظام الإقطاعيّ وتقليص الفروقات بين طبقة الفلّاحين والطبقة الغنية، وكان شاهدًا حيًّا على مسرح الأحداث وعلى التداعيات والتغيرات الاجتماعية والسياسيّة التي كانت تتفاعل في روسيا منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومع أنَّ أفكاره كانت مثاليّةً ذات نزعة دينية مسيحية نوعًا ما؛ إلا إنَّه تعرض إلى حكمٍ بالإعدام بتهمة المؤامرة ضد الحكومة من خلال الانتماء لجماعة تُسمّى “رابطة ميخائيل بيتراشيفسكي” وهي جماعةٌ فكريّةٌ كانت تُناقش قضاياها بشكلٍ شبه سرّي. وتضم الرابطةُ مُهندسين وأطباء وكُتّابًا ومعلمين وطُلّابًا ومسؤولين حكوميين وضبّاطًا في الجيش، معظمهم كانوا مُعارضين للاستبداد القيصريّ والعبوديّة الروسيّة. إلا إنَّ الحكم استُبدل في اللحظات الأخيرة من الإعدام إلى السجن بالأعمال الشاقة في “سيبيريا” مدة عشر سنين خلال الفترة 1849-1859م. لقد زوّدته تجربةُ السجن بنظرةٍ ثاقبة حادة على التوترات بين الشخصيّة الفردية وأي كيان أو نظام حاول الحدّ من التعبير عن إرادته الحرة؛ وبالتالي إلى العنف السياسيّ الفردي كظاهرة ناشئة. ولعلّه من هنا يمكن الزعم بأنَّ “دوستويفسكي” كان من أهم الكتاب والفلاسفة الروس الذين نستطيع القول إنَّهم فلسفوا مفهوم الإرهاب المعاصر من خلال أدبهم الراقي والعميق. وهو ما فعله بعبقرية غير مسبوقة من خلال ثلاثية (الجريمة والعقاب، الشياطين، والأخوة كامازروف).
أبدع “دوستويفسكي” في هذه الثلاثية خاصّة جهة التحليل النفسيّ العميق لأبطال الروايات، من خلال استخدام أسلوب “البولفونية” الذي يعني تعدّد الرواة والأصوات في الرواية الواحدة، كُلٌّ منهم بوجهة نظرة الخاصّة، علمًا بأنَّ مصطلح “البولفونية” وضعه اللغوي الروسي “ميخائيل باختين” على أساس تحليلاته لأعمال “دوستويفسكي” قائلاً: “إنَّ استخدام دوستويفسكي لهذا الأسلوب يُعدّ تقدمًا كبيرًا في تطوير الرواية”. ويرتبط التحليل النفسي اليوم بدراسات أسباب الإرهاب كأحد أهم النظريات المفسرة لسلوك الارهابيين ودراستهم. وهذا ما يعطي هذه الثلاثية أهمية خاصة في الأدبيات التي تشتغل على فهم ظاهرة الإرهاب من حقول أخرى، وعدم قصر دراسة الإرهاب على الدراسات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة فقط.
وعلى الرغم من مخاوفه بشأن مسار الحداثة والفردية المتطرفة، رفض “دوستويفسكي” أيَّ قيود منهجية خارجيّة على الحرية باعتبارها منحدرًا زلقًا للاستبداد وإرهاب الدولة المهيمن. وعندما نأسف للشر الذي لا يمكن القضاء عليه والذي يتجلّى في الإرهاب، فإنَّ “دوستويفسكي” سيجعلنا نتذكر أنَّه ليس شرًا لا معنى له، بل هو شرٌ ذو مغزى عميق. وهي مستمدة من الحرية غير المسبوقة للمجتمعات الحديثة، التي تمكّن الأفراد من تحقيق أقصى قدر من الصالح أو أقصى قدر من الضرر. لكن هذه الحرية لم تؤد بعد إلى ظهور وعي بمسؤوليتنا الفردية والجماعيّة عن الألم والمعاناة في العالم، والتي رأى “دوستويفسكي” أنَّها المفتاح لكبح جماح الجرح النازف المتمثل في الإرهاب.
في خاتمة رواية “الجريمة والعقاب”1866م، يعاني بطل “دوستويفسكي” “روديون راسكولنيكوف” صاحب الشخصية العدمّية الذي ارتكب جريمة قتل مزدوجة، من كابوس مرعب: الأفراد والمجتمعات بأكملها مصابون بـ (trichinae) (مرض دودة الخنازير أو الدودة الشعرية، وهي دودة صغيرة مستديرة تُسبِّب مرض الخيطيات وهي من الطفيليات، أي أنَّها تعيش وتتغذّى من الحيوانات الأخرى) مما يجعلهم يقعون فريسة إلى شعور بالاعتداد بالنفس لا يتزعزع، ويؤدي حتمًا إلى عدم الفهم المتبادل والكراهية وحرب الجميع ضد الجميع.
جاء نشر هذه الرواية متزامنًا مع رعبٍ انتشر في المجتمع ومحاولة اغتيال القيصر “ألكسندر الثاني” 1866م. لكن يبقى أن نقول بأنَّ الأمر المهم الذي أراد “دوستويفسكي” إيصاله إلى الجمهور من تلك الرواية هو إعلان إفلاس أفكار العدمية وتبخرها في الهواء وعواقبها الوخيمة. وهذا ما يعني بالتالي إفلاس أفكار المتطرف والإرهابي الذي يرى نفسه متميزًا من حيث أنَّه يرى نفسه صاحب قضية ونظرية قائمة على روح كلية تبرّر تضحية الفرد بنفسه لمصلحة الآخرين، وفكرة خلق الإنسان المميز المختلف الذي يخرق المبادئ الإنسانيّة بحجة تحقيق أهداف عظيمة، والتي تفضي في النهاية من الناحية السياسيّة – الفلسفيّة إلى حرية “الحق في القتل ” لمن يجرؤ ويملك القوة على تنفيذ ذلك، مثل “نابليون” على سبيل المثال الذي اقتدى به البطل “روديون راسكولنيكوف”.
ولكنَّ عبقرية “دوستويفسكي” حالت دون طموحات بطله برفع مستويات القتل إلى مستويات أعلى وأخطر، عندما تدخل محقّق الشرطة والأمن “بتروفش” وأخذ يحاصر المجرم “راسكولنيكوف” وقال له في إحدى المواجهات والحوارات الصاخبة في الرواية: ” لحسن الحظ أَّنك قتلت عجوزًا بسيطة فقط. فلو أنك جئت بنظرية أخرى – يقصد العدمّية-، فلربما قمت بشيء أكثر فظاعة وبشاعة بملايين المرات”. وهنا تبرز واحدة من أهم الدروس التي يمكن أن نتعلمها من هذه الرواية في عمليات مكافحة الإرهاب المعولم، ألا وهي أهمية جهود مكافحة الإرهاب، وأهمية رجل الأمن الذكي والحصيف في مكافحة الإرهاب والإرهابيين، ومحاصرتهم للحيلولة دون تنفيذهم مخططاتهم الإجراميّة.
أمَّا في رواية “الشياطين” أو الأبالسة (Demons)التي نُشرت بعد سنواتٍ من رواية “الجريمة والعقاب” فقد استمر “دوستويفسكي” بمهاجمة المبادئ العدمية ونقدها بمزيدٍ من التوضيح للعواقب الكارثيّة للعدميّة السياسيّة والأخلاقيّة، التي سادت في روسيا في ستينيات القرن التاسع عشر. حيث يأخذنا إلى فضاء أرحب في فهم جذور ظاهرة الإرهاب من حيث أنَّه وسيلةٌ لزعزعة المسلمات ودعائم المجتمع – أي مجتمع- من خلال بطل الرواية هذه المرة “بيوتر فرخوفنسكي” الساعي إلى نشر الفوضى والتخريب والقتل وتحريض العمال على الإضرابات؛ بحجة تحقيق أهداف نبيلة، بدافع أفكارٍ عدمّيةٍ واضحة.
كانت روسيا أواخر عام 1860 تعاني من مستوى غير عادي من الاضطرابات السياسيّة الناجمة عن مجموعات طلابٍ متأثرة بالأفكار الليبراليّة والاشتراكيّة والثوريّة. وفي عام 1869، تصوّر “دوستويفسكي” فكرة كتابة رواية موجهة ضد الراديكاليين. ومن هنا ركّز على المجموعة التي نظمها الراديكالي “سيرغي نيتشاييف”، وخاصّة قتله لرفيقهم السابق “إيفان إيفانوف” في أكاديميّة بتروفسكايا الزراعيّة في موسكو في 25تشرين الثاني -نوفمبر 1869 – لتكون محور الرواية، ويكون بطل الرواية “بيوتر فرخوفنسكي” هو “سيرغي نيتشاييف”.
تركّز الرواية على رفض التغيير الذي يسبب وينتج سفك الدم وإحراق المنازل. وتعد من قبل البعض نبوءة عن سلبيات الثورة البلشفية قبلَ وقوعها، ولهذا يقال إنها مُنعت وصودرت في أيام الحكم الشيوعي.
أعتقدُ أنَّ أهمَّ ما في الرواية من جهة تحليل جذور ظاهرة الإرهاب يتمثّل في ثلاث نقاط؛ الأولى: أنَّ هذه الرواية تمثّل أفكارًا مبكرة النضج في فهم الإرهاب كحقيقة وبناء اجتماعي تمّ فهمه من قبل الضحايا، والشهود، والدولة والمنفذين للعمل الإرهابي على السواء. وأنا أتفق مع “باتيك” بأنَّ ما فعله “بيوتر فرخوفنسكي” ربما لا يكون إرهابًا بالمعنى العملي والاصطلاحي المعاصر، لكن الكيفية التي فُهمت وأُدركت بها هذه الأفعال من قبل المجتمع آنذاك؛ هي الإرهاب المُجسّد. وهنا لعمري تبرز أهمية الأدب كنافذة خلفية تطل على تفاعلات المجتمع وتغيراته التي لا يمكن أن يفهمها ويفكّكها إلا الروائيّ العبقري.
النقطة الثانية: أنَّ مسألة مقاربة الإرهاب كبناء اجتماعي معقّد، تمثّل اليوم أحد أهم ركائز دراسة الإرهاب خاصّة عند منظري المدرسة النقدية في دراسة الإرهاب والتطرف العنيف. وللأسف فإنَّ هذه المدرسة ليس لها وجود في الأردن، أو عالمنا العربي حسب علمّي.
النقطة الثالثة: أنَّ الرواية توضح، وعلى نحو عميق، الترابط والتفاعل بين الكلمات والأفعال الرمزية في عملية خلق حقيقة الإرهاب.
نأتي إلى رواية “الأخوة كارامازوف” التي تم الإشادة بها باعتبارها أحد الإنجازات العظيمة في الأدب العالمي. وتدور أحداثها في روسيا في القرن التاسع عشر، وهي روايةٌ فلسفيّةٌ عاطفية تدخل بعمق في مسائل الله والإرادة الحرة والأخلاق. وتتعامل مع مشاكل الإيمان والشك والعقل في سياق روسيا المحدثة، مع مؤامرة تدور حول موضوع “قتل الأب” المعروفة بالإنجليزية بمفهوم (patricide). وتُعتبر “عقدة أوديب” التي اعتقد بها “سيغموند فرويد” أحد تجليات هذه الظاهرة. ومن هنا نلاحظ بأنَّ “فرويد” كان من أشد المعجبين بالرواية حيث وصفها بأنَّها “أروع رواية كُتبت على الإطلاق”. وفُتن بما اعتبره موضوع” أوديب”. وفي عام 1928 نشر “فرويد” ورقةَ بحثٍ بعنوان “دوستويفسكي وقتل الأب” حقّق فيها في حالة عِصاب “دوستويفسكي” الخاص.
إنَّ أحد الموضوعات الرئيسة للرواية هو عكس المعنى الروحي الحقيقيّ للإيمان المسيحيّ الأرثوذكسيّ، خاصّة بقدر ما يفترض أنَّه قلب الهُوية والتاريخ الوطنيّ للروس، مع الأفكار والقيم المنبثقة عن العقائد الجديدة للإلحاد، والعقلانيّة، والاشتراكيّة، والعدميّة. حيث لم تكن هذه الأفكار والقيم غريبة عن التراث الروحي لروسيا فحسب، بل كانت، في رأي “دوستويفسكي”، تعمل بنشاط على تدميره، وعلاوةً على ذلك أصبحت تحظى بشعبيّة وتأثير متزايدين، خاصّة بين الشباب الروسيّ. ونلاحظ بأنَّ هذا الموضوع يصوّر بوضوح في الروايات الرئيسة السابقة، وخاصّة “الشياطين”.
يرمز الصراع العنيف في الرواية بين الأب “فيودور كارامازوف” وأبنائه الأربعة، الذين يمثّل كلٌّ منهم شخصية مختلفة عن الآخر من حيث الصفات والأفكار ومسألة الإيمان بالله والخير والشر والأخلاق، إلى الصراع العنيف بين حكم القياصرة والشعب الروسي.
وعلى نحوٍ مميز يظهر “الأب فيدور” كشخص عدمّي بالولادة ومصدر للمؤامرات والخلافات والعنف. ومن خلال سوء سلوكه وطباعه وقسوته فقد أعطى لكلِّ واحدٍ من أبنائه السببَ والدافعَ لقتله. فيما يظهر ابنه الثاني “إيفان” الذي لا يؤمن بوجود الله؛ ويقول: “إذا لم يكن هناك إله فكل شيء قانونيّ”، وهي فكرةٌ متكرّرةٌ في الرواية. وفي أحد الحوارات مع أخيه “أليوشا” المؤمن؛ يصرّح “إيفان” أنَّه “يرفض العالم الذي خلقه الله لأنَّه مبنيٌّ على أساس من المعاناة”. ويرى والده مثيرًا للاشمئزاز. وكان يمثّل العنف العقابيّ والإرهاب حسب وصف “باتيك”.
أمَّا الابن الثالث “إليكسي”، فقد وضع “دوستويفسكي” هذه الشخصية كرجل دين وإيمان مسيحي، طارحًا نفسه أمام الشباب الراديكالي الروسي المعاصر، كبديلٍ إيجابيٍّ للنهج الإلحاديّ للعدالة وتحقيق الخير. ويجسّد “أليوشا” التطلعَ نفسَه إلى مجتمعٍ يحكمه الخير والرحمة التي تكرسها المُثل الاشتراكية العليا، ولكنّها ليست منفصلة عن الإيمان بالله، أو عن الإيمان بخلود الروح في الله، أو عن التقليد المسيحي الأرثوذكسي في روسيا. ومن الواضح أنَّ نية “دوستويفسكي” مع شخصية “أليوشا” كان لتصوير الكنيسة على أنّها مؤسسة اجتماعية إيجابيّة في المجتمع تقف في وجه عدم الإيمان والأفكار الراديكاليّة والعدمية والفوضوية وبالتالي العنف والتطرف والإرهاب. وهي فكرة ما زالت تطرح حتى الآن في المجتمعات المعاصرة حيث يتم إبراز دور المسجد، والكنيسة، والمعبد، كملجأ للإفراد والمجتمعات والدول ضد التطرف والعنف والإرهاب.
لا أريد هنا أن أتوسع في التحليل الأدبيّ لشخصيات الرواية، بل أريد أن أركّز فقط على الإشارات المهمة إلى ظاهرة التطرف والإرهاب في تلك الروايات. ومن هنا فأنا أرى أنَّ كلَّ روايات “دوستويفسكي” – خاصّة ثلاثية الإرهاب – كانت بشكلٍ مقصود مرتبطة بالسياق الروسيّ وبالأوضاع السياسيّة في روسيا والصراعات الثوريّة التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وخاصّة مواجهة روسيا مع الحداثة الأوروبيّة واستيعاب ما يُسمّى حركة التنوير الأوروبيّة. ولذلك كان هناك إصرار من “دوستويفسكي” على إظهار أبطال روايته كافة على أنَّهم “نماذج حداثيّة”، وشخصيات عادية، حديثة ونموذجيّة، وليسوا وحوشًا أو مختلّين عقليًّا. وكذلك فإن إرهابي “دوستويفسكي” لا يعادي الآخر؛ بل قد يكون أفضل وأكثر بطولة.
وتدعي “باتيك”؛ وأنا أخالفها الرأي هنا، أن الإرهاب الثوريّ في روسيا تخلّق داخل روسيا، ولم يكن وباءً خارجيًا. بمعنى أنَّه كان وليد البيئة الروسيّة وبالتالي لم يتأثر بالمتغيرات السياسيّة في الخارج، مع أنَّها تتحدث عن تأثير الحداثة الأوروبيّة على روسيا بكثير من التفصيل، ومع أنَّ بعض المحلّلين المحافظين، وكذلك “دوستويفسكي” نفسه كان مقتنعًا أنَّ هناك جذورًا أوروبيّة لهذا الإرهاب. والسبب الأول في هذه الحالة حسب رأيها هو أنَّ نظام الحكم القيصريّ وضع الشعب أمام مأزق السؤال؛ “ماذا يجب علينا أن نفعل؟، وبالتالي جاءت ردة الفعل عنيفة وراديكاليّة. والسبب الثاني أنَّ أبطال روايات “دوستويفسكي” كانوا أرواحًا ممزقة بين الخطوط الوهميّة للحداثة الأوروبيّة، بين الرغبة في الحرية المطلقة، وتحقيق الذات، من جهة، والرغبة في الأخلاق المطلقة التي لا توجد إلا من خلال الله من جهة أخرى؛ وهنا حصل التصادم العنيف.
وأعتقد بأنَّه من المفيد الإشارة هنا إلى القرن الثامن عشر في أوروبا الذي شهد تغيراتٍ واسعةً وعميقةً، بعضها مفاجئ، الأمر الذي خلق صدمة لهذه المجتمعات؛ خاصّة في ظلِّ التطوّر التكنولوجيّ المتسارع وصراع الأفكار والأيديولوجيات الدينية. وفي هذه الأجواء ظهرت -على سبيل المثال – روايات مهمّة مثل رواية “فرانكشتاين” للروائيّة البريطانيّة “ماري شيلي” التي صدرت طبعتها الأولى 1818م، أي قبل أربعة عقود تقريبًا من نشر رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي.
هذه الروايةُ القوطية المرعبة التي تشير إلى خوف الإنسان من التطوّر التكنولوجيّ وفقدان السيطرة على ذاته وطبيعته، وتحوّل ما ينتجه إلى وحش ينقلب على صانعه؛ تماما كالإرهاب المعاصر؛ أكّدت “شيلي” 1831م بوضوح أنَّ هدفها من الرواية كان “إثارة الرعب وردود فعل من الخوف لدى القارئ… رواية تتحدث عن المخاوف الغامضة في طبيعتنا وتوقظ الرعب المثير لجعل القارئ يخاف من النظر حوله، وتخثّر الدم، وتسرّع ضربات القلب، وكلّما كانت ردود الفعل هذه أكثر قوة، كان ذلك أفضل”.
ويمكن القول إنَّ خلق جوّ حقيقي من الرعب مهمة أكثر تحديًا، من مجرد تجميع الأحداث المروّعة. وهذا تمامًا ما يفعله الإرهاب المعولم في المجتمعات المعاصرة بسبب التطور التكنولوجيّ وتطوّر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعيّ.
ومن هنا تقول “باتيك”: ” إذا كانت روايات دوستويفسكي، وخاصة ثلاثيته الإرهابيّة، لا تزال اليوم ذات أهميّة حيويّة، فذلك لأنّه أدرك أنَّ هذه التوترات لم تكن غريبة على روسيا، وأنَّ الذات الحديثة كانت إرهابيّة في جوهرها. إنَّ الذات الحديثة، العازمة على الاستقلال الذاتي وتحقيق الذات، تجهد ضد جميع القيود – الأخلاقيّة والسياسيّة والدينيّة والجماليّة – وتعترف فقط بأنَّها أعلى سلطة سياديّة.”
في الخاتمة؛ أعتقدُ بأنَّ الترجمة المعاصرة لثلاثية الإرهاب، هي أنها تفسّر لنا عن طريق الخيال الأدبيّ السياق العام للأحداث والبيئة والتغيرات التاريخيّة الانتقاليّة، والصراع بين القديم والجديد بين الأفكار الأصليّة الثابتة وتلك الطارئة، وصراع الهُويات المتوحشة التي أدت إلى بروز الأفكار المتطرفة؛ مثل الفوضوية والعدمية، وكيف تطوّرت إلى الأفكار الإرهابيّة المعاصرة. وكيف أنَّ التغيّرات التكنولوجيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة المفاجئة عاملٌ حاسمٌ في نشوء التطرف العنيف والإرهاب. وأنَّ الإرهابَ، خاصّةً الإرهاب العالمي المعاصر، ذو بنية اجتماعيّة عميقة بفعل الأدوار التي أصبحت تضطلع بها سيرورة العولمة خاصّةً من خلال آلياتها التكنولوجيّة. وأنَّ ضروب الأدب والخيال الأدبي كافة في الرواية والقصة والمسرح والشعر والموسيقى والسينما يمكن أن يكون لها دورٌ في تعميق فهمنا لظاهرة الإرهاب المعاصر. ومن المهم حشدها اليوم على صعيد واحد لفهم هذه الظاهرة كمصدرٍ مهمٍ لتتبع جينولوجي الظاهرة. في الوقت نفسه أعتقدُ أنَّنا معنيون في العالم العربي اليوم بالاهتمام بهذا الجانب والتركيز عليه من قبل الباحثين والنقّاد من مختلف حقول المعرفة، لسدِّ النقص الذي تعاني منه المكتبةُ العربيّةُ في هذا المجال.

  • عن مجلة أفكار

*(عضو رابطة الكتاب الأردنيين. ومدير مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب /عمان -الأردن)

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *