كوابيس الوطن البعيد

(ثقافات)

كوابيس الوطن البعيد

قصة قصيرة

د. موسى الحالول

انقطعت الكوابيسُ التي أرى فيها نفسي متسللاً إلى بلادي كاللص منذ أن كتبتُ قصةً قبل نحو ستة أشهرٍ عن تلك المنامات. وكنت أتساءل منذ ذلك الحين إن كان للكتابة أثرٌ تطهيريٌّ نفسيٌّ في إبعاد تلك الكوابيس عن مناماتي. لكنها عاودتني هذا اليوم بعد أن غفوتُ ساعةَ الضحى، وبالنمط ذاته تقريبًا الذي تعتادني به عادةً: فجأةً أجد نفسي متسللاً إلى أرض الوطن، لا أعرف كيف هبطتُ إليها ولا كيف سأخرج منها، بل جُلُّ ما يشغلني هو كيف دخلتُ البلاد من غير أن أُعْتَقَل وكيف سأخرج منها من غير أن أُعْتَقَل أيضًا بتهمة العودة متسللًا إلى البلاد من غير سببٍ وجيهٍ أو ضرورةٍ وطنيةٍ.

وجدتُ نفسي في هذا المنام مديرًا ظهري لبيتي في قريتنا وأتجه إلى الحويجة، وهي قطعةُ أرضٍ لنا على ضفة الفرات الشمالية. هذه المرة كنت أتساءل: كيف وصلتُ إلى قريتي من غير كفيلٍ كُرديٍّ (بحسب القوانين التي فرضتها قوات سوريا الديمقراطية [قَسَد] على المواطنين العرب دون غيرهم). وقبل وصولي إلى طريق الإسفلت الذي يفصل القرى عن حقول القطن، رأيت أختي الكبرى في بيتها القديم الذي صار لابنة عمي في الواقع منذ أن انتقلت أختي إلى جوارنا منذ عقود. نظرتُ إليها فلم تعرفني. لم أتأثر بذلك، مع أنها في الواقع صارت لي أمًا ثانيةً منذ أن ماتت أمي ولم أستطع حضورَ جنازتها – بل لم أعلم بوفاتها إلا بعد ثلاثةِ أيامٍ بسبب انقطاع الاتصالات في تلك الأيام.

قطعتُ طريقَ الإسفلت باتجاه قطعةِ أرضٍ زراعيةٍ أخرى لنا نسميها الحاوي، وهي أقربُ إلى بيوت القرية من أرض الحويجة. وما إن مشيتُ عدةَ أمتار حتى هبَّ إليَّ من أحدِ الحقولِ زميلٌ سابقٌ قديمٌ – تزاملنا أنا وهو في المرحلتين الابتدائية والإعدادية – وسلَّم عليَّ بحرارةٍ. كانت معه امرأةٌ لم أعرفها. تساءلت في نفسي: ما الذي أتى به من قريته إلى حقول قريتنا؟ هل ترك وظيفته الحكومية ليعمل فلاحًا في حقولنا أم اشترى أرضَ مَنْ هاجَر منها؟ قابلتُ حرارةَ ترحيبه ببرودٍ، بل نهرتُه وقلتُ له: “أرجوك، أنا متسللٌ إلى هذه البلاد [لم أقل إلى بلادي]، فلا تفضحني!” ارتسم على مُحيّاهُ مزيجٌ من الخيبة والتفهُّم، فعادَ ينبش الأرضَ، لكن بحقدٍ وانكسارٍ هذه المرة. مضيتُ في طريقي إلى أرض الحاوي، وقررتُ أن أتلثَّم كيلا يعرفني الفضوليون من السَّابِلة.

وجدتُ أن ملامحَ الأرضِ لم تعد كما عهدتُها من قبل، ولا حتى المزروعات هي المزروعات التي كنت أعرفها وأعتني بها يومَ كنت أشارك أهلي في أعمال الزراعة. وبعد أن تجاوزتُ أرضَنا في الحاوي، انعطفتُ يمينًا، ثم يسارًا لأسلك الدربَ المعتادَ إلى الحويجة. كان الزَّلُّ كما عهدته منذ عقودٍ في المستنقع الراكد على يمين الساقية التي نمشي على ظهرها، وكان نقيقُ الضفادعِ كما عهدتُه أيضًا: ما زال يشكل سِمفونيةَ نهارِنا المعهودِ مثل أغنيةٍ وطنيةٍ مشروخةٍ باليةٍ.

لكن فجأةً، صار الطريقُ على ظهرِ الساقيةِ مرصوفًا بالإسمنت، وتحوَّل إلى ممشى له جداران إسمنتيان فيهما فتحاتُ تهويةٍ واسعةٌ كثيرةٌ وفوقهما سقفٌ إسمنتيٌّ يقي المشاةَ من لهيب الهاجرة. في منتصف هذا الممشى لمحتُ أخي سيِّد قادمًا في الاتجاه المعاكس مع أحد أبنائه الذي لم أعرف مَنْ هو. نزعتُ لثامي لعلَّه يعرفني، وتعمدَّتُ أن أُحَدِّق فيه على نحوٍ استفزازي لألفت انتباهه، لكنه ظل يمضي في طريقه، ولم يعرفني، بل لم يكترث لتحديقي فيه. شعرتُ بألمٍ يعتصر أحشائي – الألم ذاته الذي شعرتُ به قبل ستِّ سنواتٍ في الواقع حين مرَّ ابنُه الآخر ومعه ابنُ أخي ناجي أمام مطار دالَمان في ولاية مُغْلة التركية، ولم يعرفاني.

لم أعد أشعر بالرغبة في مواصلة طريقي إلى أرض الحويجة. بل شعرتُ، وأنا ما زلت في المنام، برغبة الكتابة: أن أحوِّل مجرياتِ منامي هذا إلى مادة قصصية. كأنَّ ما رأيتُ في منامي حتى تلك اللحظة فيه من تسلسل الأحداث والوضوح ما يكفي لقصة متكاملة الأركان، وإن اختلط فيها الواقعُ باللامعقول. لكنْ أمامي الآن معضلةُ كيف أنجو من هذه البلاد وأعود إلى مَنْفاي المريح. لكن أيَّ طريقٍ سأسلُك عائدًا إلى ذلك الملجأ المُشْتَهى؟ عن طريق تركيا؟ ألن يسألوني ماذا كنت أفعل في أراضي قَسَد؟ شعرتُ بحيرةٍ كبرى. يا ربِّ، إليكَ، لا إلى سِواكَ، الُملْتَجأ! وأنا في هذا الكَرْبِ الشديدِ، شعرتُ بمثانتي تتململ تحت وطأةِ حمولتِها. استيقظتُ وتوجهتُ فورًا إلى ذلك الملجأ القريب الذي تُقضى فيه حاجةُ المكروبِ المستيقظِ من كوابيسِ الوطنِ البعيدِ.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *