كوابيس جزائرية في مدينة الثلج


*محمد موسى


تطل سنوات الفولاذ العشر الجزائرية في باكورة المخرج الكندي الجزائري بشير بن صادق «مونتريال بيضاء»، والذي كان أحد أفلام الدورة الأخيرة من مهرجان روتردام الدولي، إذ تجمع الصدف بين ناجيين من عنف تلك السنوات يعيشان منذ سنوات في مدينة مونتريال الكندية. تجري أحداث الفيلم في ليلة أعياد الميلاد، وتتصاعد عندما يصادف سائق تاكسي جزائري مطربة بلده المفضلة، والتي أشيع أنها قتلت في إرهاب الجماعات المسلحة في سنوات التسعينات الوحشية. لم يكن اختيار ليلة أعياد الميلاد اعتباطاً، فالفيلم يبحث عن ولادة رمزية جديدة لشخصيتيه، تطوي الكابوس الطويل الذي بدأ في البلد الأول، وطاردهما بعد ذلك الى المنفى الكندي الذي لجأ إليه البطلان.
في مونتاج متواز، يبدأ الفيلم التعريف بشخصيتيه الرئيستين: سائق التاكسي المنطوي الذي لا يطيق الجلوس في البيت، ويجهل سبب هروبه الدائم من الحياة العائلية التي تنتظره في بيته، والمطربة السابقة التي ودعت الغناء وبلدها، بعد أن نجت من محاولة اغتيال أثناء إحدى حفلاتها، لتتحول إلى أسطورة صغيرة في ذلك البلد، وأمثولة للعنف الذي طاول كل شيء. تصارع البطلة ظروف حياة صعبة بعد طلاقها، وتخوض صراعات مريرة مع زوجها السابق من أجل حضانة ابنتها الوحيدة، في حين يواصل السائق التجوال بلا مقصد في مدينة اكتست بلون الثلج الأبيض.
عندما يلتقي البطلان في الشارع، تبدأ رحلة الفيلم الطويلة، والتي سيكون ظاهرها البحث عن ابنة البطلة التي أخذها والدها الى جهة مجهولة نكاية بالأُمّ، أما باطنها فكان يترجى الخلاص من آثار ما حدث في تلك السنوات في البلد الأول. يوفر هذا اللقاء الذي يقترب من الاصطدام غير المتوقع، الظروف المثلى لمواجهة حادة مع الماضي. في موازاة المشاهد الليلية للمدينة الغارقة بالثلج والتي كانت تحتفل بالمناسبة الأهم في السنة، يُقدم الفيلم سردية موجزة لم تكن مُحكمة درامياً أو منسجمة مع روح الحنين والأسى الطافحة للفيلم، لقصة حياة البطل في الجزائر، والذي خدم في الجيش الجزائري ودفع بسبب تلك الخدمة ثمناً باهظاً للغاية.
سيمر وقت طويل قبل أن يصل الفيلم الى اللحظات الدرامية الحادة، لكن حتى هذه الأخيرة ستأتي منسجمة بشكل ما مع روح العمل الذي ينسج قوته من التفاصيل الصغيرة والتنقيب في العوالم الداخلية لبطليه. وبالخصوص في تجسيده شخصية المطربة السابقة، التي جاءت متماسكة كثيراً. من أول مشهد تطل فيه البطلة (أداء ممتاز للممثلة رباح آيت أويحيى)، نعرف أن هذه المرأة مازالت تجر أحمالاً ثقيلة من حياتها الماضية الى منفاها الكندي، فهي تواجه أحياناً أسئلة من عابرين في الشارع إذا كانت هي حقاً المطربة الجزائرية نفسها. يعرف المخرج الذي يعيش في كندا هذا النوع من الشخصيات جيداً، أزماتها وهواجسها، وينقل بعضها لفيلمه، كالمشهد المعبر عندما رفضت البطلة الدخول الى مقهى يرتاده جزائريون في المدينة، حيث تَمَكَّن الارتباك والخوف منها تماماً، كاشفاً عن جديّة الجروح التي تركتها حياتها السابقة في روحها.
صُور الكثير من مشاهد الفيلم في سيارة تاكسي البطل، وجاءت رغم صعوبة هذا النوع من المشاهد، مبتكرة وحيوية، وأضافت الكثير إلى المعالجة المتروية لتطور العلاقة الحذرة بين البطلين. كما كانت المشاهد الليلية للمدينة الكندية باهرة الجمال أحياناً، ولتزيد من تظهير الوحدة والانعزال غير المرئي الذي يحكم البطلين. لكن الفيلم وهو يحاول أن يدفع بشخصيات جديدة الى أحداثه، والذين سيستقلون التاكسي أحياناً مع الشخصيتين الرئيستين، يتعثر في أن يجعل تقاطعاتهم مع شخصيتيه الرئيستين تكشف المزيد عنهما أو عن أحوال المدينة وناسها بشكل عام، كالمشهد المرتبك لراكبين من أصول لبنانية، والمشاجرة التي ستقع بينهما وبين البطل.
يفتح الفيلم المفاجئ هذا، الباب لأفلام تُقارب الأحداث والقضايا العربية الراهنة عبر قصص مهاجرين عرب في العالم، من دون أن يعني ذهاب الأفلام إلى مواقع حيوات الشخصيات الأولى، وأن هذه الأفلام قادرة رغم بعدها الجغرافي على تقديم مشهد درامي ونفسي واسع. ففيلم «مونتريال بيضاء» هو عمل ينشغل بالكامل بمفاعيل أحداث وكوارث عربية على شخصيات عادية وعامة، على رغم أنه صور وأنتج بعيداً كثيراً من أمكنة الأحداث التأسيسية. يُمهد المخرج لفيلمه المهموم بالشرق هذا، بمشهد من خارج السياقات الواقعية لقصته، لمجموعة من العازفين الشرقيين يتوسطون إحدى الساحات العامة في المدينة الكندية، وهم يعزفون قطعة موسيقية عربية قديمة، فيما يُشبه الافتتاحية الموسيقية لقصة من حكايات ألف ليلة وليلة. ولسوف تعاود هذه الفرقة الحضور، لتفصل بعزفها بين الانتقالات النفسيّة المفصلية في الفيلم.
_________
*الحياة

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *