كوابيس المهنة..


*علي عبد العال

يمكنني القول الآن إن أصابعي قد لامست جميع الكتب الموجودة في المكتبة العامة التي حصلت فيها على العمل مؤخراً. فمهمتي الوظيفية الأولى لم تكن تتجاوز بادئ الأمر تعديل وترتيب الكتب التي يستعيرها الناس. وهي شغلة وإن انطوت على أهمية جدية إلا أنها تأتي في الترتيب الأخير في سلم الوظائف التي تحتوي عليها المكتبة، إذا لم تكن أحقرها في نظر الموظفين العتق. والذي كان يواسيني هو شعوري بأنني لم أزل موظفاً جديداً، فضلاً عن كوني أجنبياً مهما مر عليه الوقت فهو يمر بطور من أطوار تعلم اللغة، لغة أهل البلد، أقصد السويدية على وجه التحديد. والأمر المعروف للجميع أن كل لغة هي بمنزلة بحر، فما قيمة مخلوق مثل الإنسان إذا ما وطئ بحراً غريباً؟ بالرغم من ذلك فإن هنالك الكثير من الأشخاص الذين حسدوني بشكل جدي على نيلي هذه الوظيفة البائسة. إذ من بين الخمسين متقدماً عليها وقع الاختيار علي أنا بالذات. لم أكن أعرف بهذه التفاصيل والله يعلم، وكنت حين تقدمت بطلبي لم أعر اهتماماً كبيراً للنتائج، إذ إنني موقن كل اليقين بحظي العاثر، ولكي أجنب نفسي على الدوام الوقوع بالخيبات الجسيمة، والتي غالباً ما تكون خيبات مريرة يصعب على النفس تحملها من دون مشقة، فإنني لم أعتبر أمر الحصول على وظيفة جيدة في دوائر الدولة من الأمور المهمة في الحياة. لذا اشتغلت غير مرة بوظائف هي أدنى من المستوى الذي كنت فيه، ولست محتاجاً للقسم على ذلك لأن صحيفة أعمالي التي سأقابل بها الله هي التي تفصح عن ذلك. لقد عملت قارئاً لمقاييس الماء، متجولاً في جميع مناطق بغداد الجميلة ببيوتها ودكاكينها، بينما كنت طالباً في السنة الأخيرة في كلية الحقوق. وبعد سنوات طويلة تعلمت فيها الكتابة إلى الصحف والمجلات وصرت أنشر المواد الأدبية والسياسية على نحو ما، رضيت أن أعمل مصححاً في إحدى المجلات الأسبوعية. والكل يعرف ماذا تعني وظيفة المصحح في صحافتنا، إنها تأتي في نهاية سلم الوظائف برغم كل ما تنطوي عليه من المسؤولية. فجميع الأخطاء التي يرتكبها الآخرون يتكبد نتائجها المصحح، ولا يقع تقريع رئيس التحرير إلا على رأسه وحده. وبرغم ذلك أيضاً لم أسلم من الحسد كذلك. وعملي الحاضر لا يشبه عملي السابق إلا بشيء واحد هو الترتيب الوظيفي الخالي من الأمجاد برغم أن أشق الأعباء تقع على كاهله. رضيت بهذه الوظيفة لكي أؤمن عيشي، وليس لدي طموح سوى نيل رضا رؤسائي على عملي. لكن مصيبة من يرتضي آمالاً دون مستواه الحقيقي، أنه قد لا يؤمن بالتملق للرؤساء. وأنا مصاب بهذا الداء العضال الذي يهد كل جهودي المضنية في لحظة واحدة. للتملق سحر لا أستطيع أن أفهم كنهه. وعلى العكس مما كنت أتصور أن الإنسان المرموق لا يحب التملق، وجدت أن غالبية رؤساء العمل يحبون التملق ويفضلونه علـى الصمـت الـذي يشبـه الازدراء، بل إن الغالبية مـن الناس تفضل أن يتملقهـم النـاس الآخـرون! 

لذا كنت أكد وأجهد نفسي، ويعلم الله، بصمت وهدوء، بينما لا يجرؤ لساني على قول كلمة مداهنة لرئيسي في العمل. ولمَ أقول هذا، فالمشكلات التي تواجهني في العمل ليست قليلة على أي حال، وأنا أعرف أن بالإمكان مسحها بلساني إذا شئت، لكنني لا أجرؤ على ذلك والحق يقال. نعم، إنني شخص تنقصه الجرأة في مثل هذه الحالات المخادعة، بيد أنني من دون أي شك أحتقر الإنسان المتملق نفاقاً وأحتقر بدرجة أشد الإنسان الذي يتقبل هذا الخداع ويزهو به فخوراً ومختالاً بنفسه، ولك أن تصدق ذلك أو لا تصدقه. على الدوام أحترم رئيسي في العمل كشرط واجب. لكن هذا لا يعني أنني سأحبه بالضرورة. بل على الأغلب سرعان ما أقع في مشاجرات تسببها أوامره غير الصحيحة والمقصود بها إنهاكي وإخضاعي من دون سبب وجيه عدا بيان السلطة والنفوذ اللذين يتمتع بهما المدير من خلال احتقار الموظفين الأدنى مرتبة بالسلم الوظيفي. فكان بالإمكان أن تسمح لي مديرتي بالمشاركة في تشييع جنازة عمي ودفنه من دون أن تعمد إلى اعتبار اليومين إجازة بلا مرتب، لو أني صنعت جسوراً كاذبة من المجاملات السخيفة بيني وبينها في الأيام السابقة. الأمر الذي تسبب بخفض مرتبي الشهري نحو 10 في المئة مسبباً لي متاعب مادية أنا في غنى عنها. أنا أعرف أن صمتي سيؤدي بي إلى أسوأ العواقب، لكن ما ذنبي إذا كنت لا أجيد التملق والمداهنة؟ 
لا أعرف حتى هذه اللحظة لماذا وقع اختيار المديرة علي من دون بقية المتقدمين. وبرغم أني ممتن لها كل الامتنان من صميم قلبي كونها أنقذتني من مأزق البحث المتواصل عن عمل قريب من مهنتي السابقة، إذ كنت أشارف على اليأس من ذلك تماماً، لكني لم أشعر بالارتياح لها منذ اليوم الأول من العمل. والعجيب أنه ليس بمقدور الموظف الذي لا يشعر بالارتياح من رئيسه أن يقول ذلك أمام الملأ. وفي الوقت نفسه لا يستطيع رفض الوظيفة لمجرد هذا السبب الوجيه. وشروط العمل مجحفة على الدوام لمن يحتاج إلى العمل. وأفضل شيء يعمله الإنسان هو ألا يعمل شيئاً. بيد أن الطامة الكبرى أن غالبية الناس ستموت جوعاً إذا لم تكد وتكدح، بينما هناك من لا يعمل شيئاً محدداً وفي الوقت نفسه يكون ثرياً. هكذا هي سنة الحياة، ولا يمكن تغيير هذا الوضع بجرة قلم كما يقال. 
أنا سابع موظف أعمل في المكتبة، وأنا كذلك آخر موظف يتم تعيينه وليس الأخير بطبيعة الحال، فيما إذا تم إنهاء خدماتي. حيث إن القانون ينص على فصل آخر موظف ملتحق بالخدمة في أول فرصة عمل تستدعي الاستغناء عن أي موظف، وباختصار، آخر العاملين هم أول المفصولين. 
ويعمل في المكتبة ست عجائز «»طنطات»»، أقل واحدة منهن عملت ثماني سنين، وأكثر واحدة عملت أربعة وعشرين عاماً. لم أكن أتصور أن العجائز مليئات بكل هذا القدر من الأسرار والألغاز العصية على الفهم. سوف أتجنب ذكر الأسماء لأن ذلك ربما يوقعني بورطة تزيد من مشكلاتي الحياتية المعقدة، وربما أفكر لاحقاً باختراع أسماء وهمية أتفادى بها الإشارة المباشرة إلى أولئك العجائز اللواتي أوقعنني في دوامة من الكوابيس والشكوك والمخاوف ليس لها قرار. ليس قصدي، والله أعلم، أن أسيء إلى أحد، لكني بصدد رواية ما حدث مع الذئبة العجوز التي هي أشرس الطنطات قاطبة. وهنا أستثني واحدة منهن واسمها السري (إيفا) لصغر سنها، إذ لم تتجاوز الأربعين إلا بعام أو عامين. بيد أن تصرفاتها، وإن كانت أكثر عفوية وأقل شراً من الباقيات، إلا أنها ومن دون شعور تقلد الأخريات من العجائز ببعض الأساليب السلوكية الغريبة، كتناولها القهوة منفردة، وكتمها الكلمات الجميلة، وتلك النظرات القلقة التي لا تطمئن للآخر بسهولة. وربما ينطبق عليها المثل الشعبي القائل: «»من عاشر قوماً أربعين يوماً صار مثلهم»». 
السؤال الوحيد الذي أتذكره أكثر من كل الأسئلة الأخرى في أثناء مقابلتي للمديرة أول مرة، والذي باغتني أكثر من المعتاد، وحتى هذه اللحظة لم أدرك المغزى من ورائه، هو حين بادرتني المديرة قائلة: 
-هل أمك على قيد الحياة؟ 
-نعم. 
-وكم عمرها الآن؟ 
-إنها جاوزت الستين على ما أظن. 
أجبت بعد تفكير قصير وارتباك أفكاري التي كانت تركز على الشؤون الوظيفية. وبالطبع لم أجرؤ على سؤالها لماذا تسألني مثل هذا السؤال، وما علاقة أمي بهذه الوظيفة. 
كانت المديرة امرأة تشبه الشياطين شبهاً كبيراً. وبالرغم من كوني لم أر شيطاناً حقيقياً في حياتي، إلا أنني تخيلت الأمر هكذا، كما يتخيل الناس الشياطين عندما تستدعي الظروف. ولكم حاولت منع نفسي، والله شاهد على ما أقول، من أن ألصق هذا الانطباع الأولي عنها من مجرد اللقاء الأول، إلا أنها راحت تكرسه باطراد مع الزمن، ولم تترك لي إلا فرصاً قليلة جداً لا تكاد تذكر لإبعاد هذا التصور عنها. إنها امرأة قصيرة الشعر كثيف جداً لونه رمادي ولا يمكنها السيطرة على تصفيفه بعناية، فيبدو مبعثراً على الدوام. تستقر على أرنبة أنفها نظارات سميكة لا ترى بها الناس وإنما تبحلق عينيها إلى الأعلى لترى من خلف الزجاج وجه محدثها. لها أسنان قوية لكنها أسنان متفارقة، كل واحدة مستقلة عن الآخرى بفارق واضح، وكل أسنانها تكاد تكون عبارة عن أنياب تستقر في فم برز فيه الفك الأسفل قليلاً، فما تكاد تهم بفتح فمها للكلام حتى تظهر جميع محتويات فمها. إنها ذكية جداً من النظرة الأولى. وهي مليئة بالخبث الذي تشي به نظراتها التي لا تستقر في مكان محدد. لا يمكن للإنسان الذي يقابلها إلا أن يهابها، وهي تبذل بعض الجهود الاستثنائية بشتى الطرق والإيحاءات كي لا ينسى محدثها للحظة واحدة أنها رئيسة العمل الأولى في هذه المكتبة الفرعية المنسية بين ركام دوائر البلدية. وهي فضلاً عن ذلك تباشر بتوجيه أوامرها حتى لو لم يتطلب الأمر ذلك. لم أستطع تخمين عمرها بالتحديد، لأنها من الصنف الذي يقاوم الزمن، بيد أن تجاعيد رقبتها تشير إلى أنها بنت الستين. إنها ترتدي على الدوام ثياباً أنيقة، لكنها على الدوام كذلك ذات ألوان كامدة تكرب الروح. اسمها السري (أنيكا). يا ربي اغفر لي وصف مخلوقاتك هكذا. وعلى العموم أنا لا أقول سوى الحقيقة فيما يتعلق بظاهر الأمر، أما دواخل هذه المرأة فهي كهوف سحيقة من الشكوك والمؤامرات والاتهامات والذكاء الشيطاني البارع بتلفيق جميع الأحاجي والخرافات. تلك الدواخل التي لم تمنحني حتى كتابة هذه السطور، ولا نظرة ثقة واحدة. إنها ببساطة، تبحث على الدوام عن أبسط الطرق لإذلالي بكل أدب واحترام. وتفعل ذلك بمهارة لا تضاهى، بحيث يصبح من المحال عليّ شرح ذلك للآخرين. كانت تقول لي وهي تكشر عن أنيابها ضاحكة، تلك الأنياب الكثيرة وهذه الضحكة الكاذبة المفتعلة: «»أنت تتكلم مع زوار المكتبة أحياناً، حاول أن تتجنب ذلك»». لم أكن في الواقع أفعل ذلك كثيراً، ولكن يحدث أحياناً أن يسألني أحد الزوار عن كتاب ما أو عن القسم المخصص لنوع معين من الكتب. ولم أكن أفعل شيئاً يتعدى تقديم الواجب. بيد أنها كانت تظن أن هؤلاء الناس العابرين هم أصدقائي، أو أنهم يقصدون معونتي لأسباب شخصية. هي تقول ذلك بطريقة عجيبة لا تنطوي على أي اتهام. لكن الحقيقة التي يشي بها أسلوبها تجعلني أوشك على القسم بأغلظ الإيمان على كوني لا أعرف هؤلاء الناس لا من قريب ولا من بعيد. وأغدو مثل طفل صغير ارتكب معصية أمام أمه الصارمة. إذ إنني أكاد لا أنسى ولو للحظة واحدة أنها ربتني في العمل. لا يجب الحديث مطولاً عن هذه العجوز التي تسللت إلى أحلامي وحولتها إلى كوابيس مرعبة، فإني أراها تطاردني بين دهاليز المكتبة وقد انتشر الظلام بين الكتب والأروقة، وتقبض عليّ وكأنني متلبس بالجرم المشهود، وتسألني وهي تلهث كذئبة طار صوابها: «»ماذا تفعل في المكتبة؟»» وأصاب بالذعر وأصرخ من الخوف: «»إنني أعمل في المكتبة.. إنني أعمل في المكتبة.. إنني أعمل في المكتبة»». وأستيقظ وأنا أهذي بهذه الكلمات المذعورة التي سرعان ما أتبين عدم خطورتها، إذ إنني أعمل حقاً في المكتبة وأن المديرة لا تسألني أسئلة خبيثة. لكن شكلها الذئبي الشرس يبقى يبيد شعوري بالاطمئنان لأن ما يحدث مجرد كابوس يراود الغريب أينما حل. إنها كوابيس كثيرة، وليس بالإمكان شرح تفاصيلها المملة، لكني ذات يوم، وبجرأة غير متوقعة، استطعت أن أروي مطاردة (أنيكا) لي في الظلام بهذه الطريقة المرعبة، التي تبدو حين يرويها الإنسان وكأنها دعابة وأحلام سخيفة مسلية. لكنني دهشت حين قالت لي إيفا وكأنها تشي بسر خطير: «»إنها كانت تطاردني أيضاً.. ولكنها كانت تسألني عن المفاتيح»». لكم شعرت بالاطمئنان والثقة بالنفس حين أسرت لي إيفا بأحلامها السرية بهذه المخلوقة الشيطانية. ولقد عاهدتها ألاّ أبوح بسرها على الإطلاق. ومنذ تلك اللحظة صرنا نحن الاثنين نضحك على مديرتنا سراً أوقات النهار، ونركض أمامها كأطفال حفاة في أحلامنا السرية تحت الغطاء. 
________
*روائي وقاص عراقي (الصباح الجديد)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *