سيرة القرية في دلتا مصر : مراجعة لكتاب: نحت الفاس

(ثقافات)

سيرة القرية في دلتا مصر : مراجعة لكتاب: نحت الفاس

للأستاذ الدكتور/ محمد احمد عبد الرازق غنيم[1]

د/ رشا الفوال

على افتراض أن النيل هبة الخالق للمصريين، فعندما نتحدث عن سيرة القرية المصرية، يرد إلى أذهاننا معانقة النيل للأرض، في القراءة الحالية لكتاب: نحت الفاس: دراسة اثنوجرافية للقرية المصرية، للعالم الجليل“محمد احمد غنيم”، الصادر عام 2020م، عن سلسلة: دراسات في الفنون الشعبية  نجد أنه قام بدور النساج الذي جمع خيوط الفلاحين، مدعمًا مادته الاثنوجرافية بتقارير مجموعة من الباحثين الاخباريين، ليدرس التاريخ الثقافي للزراعة في دلتا مصر، منطلقًا من اهتمامه بالأنثروبولوجيا الزراعية، التي تهتم في المقام الأول بدراسة الظروف المعيشية المادية للشعوب الزراعية، والتي تُعد شرطًا مهمًا لدراسة الحياة الثقافية والاقتصادية أيضًا،  ذلك أن الفلاح الذي تم تسليط الأضواء عليه، هو ساكن الريف_الذي يعرف في اللغة بأنه الأرض القريبة من الماء_ لذا يعتمد بشكل رئيسي على“الفاس”_ تلك الأداة التي تستخدم في عزيق الأرض وتنظيف حظيرة المواشي وتقليب الأرض، وتنظيفها من الحشائش، وتسوية الحدود، وفحت الخطوط_ ليحول نمط حياته من الاستهلاك إلى الانتاج، ومن عدم الاستقرار إلى بناء الحضارة، لا غرابة في ذلك، فالزراعة هى التي أحدثت ذلك التطور من عصر الصيد إلى عصر بناء الحضارة المصرية القديمة، والفلاح المصري العامل تحت وهج الشمس صيفًا، ولفح البرد شتاًء، يقلب ثرى الأرض، ثم يغرس بذوره، ويتعهدها بالرعاية والري والتسميد، ليحصد خيراتها، قام بالزراعة منذ القدم، ليشكل جوهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والتاريخية.

الفصل الأول: الأرض(قداسة الحياة)

“القمح زى الدهب بينادي شرشرتك

وزراعة القطن مستنية منقرتك

ياعازق الأرض مين غيرك هايرويها

يازارع الغلة يامنبت تقاويها”

لا غرابة في أن يستهل عالمنا الجليل الفصل الأول في الكتاب، بأبيات شعرية للشاعر الكبير“صلاح جاهين”، فهو قبل كل المناصب والمراكز العلمية، انسان مصري بروح فنان، يرى في البساطة حياة، يُقدس الفن، ويرى مصر دائمًا في عيون المبدع، يتساوى في ذلك لديه الشاعر بالعالم بالفلاح

يدور هذا الفصل، عن المحاصيل الزراعية، والأدوات التي أبدعها الفلاح المصري لزراعة الأرض مثل: المحرات، والقلابة، والفأس، والشقرف لتقليب التربة، والزحافة، واللواطة، والبتانة، والكريك لتسوية الأرض، والبدالة، والطنبور، والشادوف، والساقية للري، والشرشرة، والمحشة، والمنقرة، والنورج، والمنجل، لدرس المحصول وحصاده، واللوح، والغرابيل، لتذرية المحصول، والصماعة لتخزين المحصول، زراعة الأرض هنا تُعد من أهم مقومات البنية الثقافية للمجتمع المصري على امتداده

 فزراعة القمح غالبًا تتم بعد محصول الذرة، القمح الذي سجل قمة فريدة عام 1975م، حيث حقق علامة المليوني طن، بعد أن سجل خلال السيتينيات حوالي من 1،3: 1،5 ملين طن، وخلال الخمسينيات كان انتاج القمح يدر غالبًا حوالي 1،3: 1،4 مليون طن، أما محصول الأرز فتتم زراعته بطريقتين في دلتا مصر، الأولى تسمى الأرز”البدار”، والثانية هى طريقة”المشتل”، وبعد أربعة أشهر من”البدار” أو ثلاثة ونصف من”الشتل” يتم ضم الأرز بواسطة الشرشرة، ثم يترك بعد الضم على وضعه، حتى تضربه الشمس، بعدها يتم تربيطه إلى حزم يطلق على هذة العملية”تأتيت الرز”.

الفصل الثاني: المسكن الريفي ومنقولاته(جماليات المكان)

الباني طالع والفاحت نازل

على افتراض أن الاجتماع الانساني وفقًا لابن خلدون لايمكن فهمه إلا من خلال (التحقق في المكان(Realisation in Space فإن المسكن الريفي ومنقولاته يعد نتاج اجتماعي ثقافي، هنا تتضح أهمية وادي النيل في نشأة القرى المستقرة حول النهر، في هذا الفصل نتعرف على الأنماط المعمارية لمساكن الفلاحين، فهناك: نمط على يد واحدة، حيث تحتوي الدار على غرفة مندرة واحدة، لها شباك أو أكثر، ونمط على يدين، وفيه تحتوي الدار في طابقها الأرضي على مندرتين احداهما جهة اليمين، والأخرى جهة اليسار، وباب الدار في المنتصف، وفي الطابق العلوي توجد المقاعد التي تبرز على مستوى الواجهة، ونمط الدار أم معبرة، وهى عبارة عن دارين يفصل بينهما معبرة منفذة من الأخشاب في الغالب، وهناك الدوار الذي يتميز بكبر حجمة ويكون له أكثر من مدخل، وحديقة، ومضيفة، واذا كان الفلاح المصري اعتمد قديمًا على طمي النيل في صناعة الطوب، فهو الآن يعتمد على حرق هذا الطوب فيما يسمى بـــ”القمينة”، ليصبح طوبًا أحمر، هناك أيضًا عدة أنواع من الطوب مثل طوب الطفلة الذي تأتي مواده من الجبل، والطوب الأسمنتي، والطوب الأفرنجي الذي يعتمد في صناعته على الزلط الصغير، والرمل، والأسمنت، والطوب الحراري المكون من طفلة خليط برملة صفراء، ويعتبر من أجود أنواع الطوب.

الفصل الثالث: الطعام(أهالي القرية والمساندة الاجتماعية)

على افتراض أن(المساندة الاجتماعية) تتضمن الدعم النفسي، والمساندة المادية والسلوكية، والتفاعل الحميم، فمن أهم الملامح الاجتماعية الدالة على التكاتف والمساندة الاجتماعية،_التي يكشفها هذا الفصل_ مجاملة أهالي القرية بعضهم البعض في حالات الوفاة، بتقديم الطعام للأغراب الذين يحضرون لتقديم واجب العزاء، وفي الأفراح والسبوع أيضًا، وحرصهم على ارسال المواسم للبنت المتزوجة.

يتضمن هذا الفصل سرد أنواع الخضروات التي تؤكل طازجة، والخضروات التي تؤكل مطهية، ذلك أن إجادة طهي الطعام لها دلالتها المؤكدة على مهارة المرأة المصرية في القرية، فهناك الفطير المشلتت(فطير الذرة)، وفطيرة السكر، وفطير الأبوري، والرقاق، وفطيرة العجوة، أيضًا صناعة الألبان يشيع الاقبال عليها في قرى دلتا مصر، والتي يحصل منها الفلاح على القشدة، والزبدة، والسمن البلدي، واللبن الرائب، والجبنة(الأريش، والطازة، والقديمة: المِش).

بالنسبة إلى المشروبات، يعد الشاى هو المشروب الرئيسي للفلاحين في القرية المصرية، يليه الحلبة، والينسون، والحليب، أما قمر الدين فيتم تناوله في شهر رمضان الكريم، والقهوة في المياتم، والمُغات بعد الولادة، والشربات يتم تناوله في الأعياد والأفراح، يتضمن هذا الفصل أيضًا أكلات المناسبات، فأهالي القرية في دلتا مصر يتناولون السردين، والفسيخ، والخص، والفول الاخضر، والبصل الاخضر، في شم النسيم، واللحوم والفتة والكحك والبسكويت في الأعياد، والملبس والشوكولاته في السبوع، واللوبيا في المياتم، وعلى الفلاح أن يذبح خروفًا أو عجلًا في الختان(الطهور)، ويحرص أهالي القرية على تناول حلاوة المولد في ذكرى المولد النبوي الشريف، والبط والرقاق في ليلة النصف من شعبان، والمناسبات الدينية، ومن الفصل الرابع: السوق ولاتجار في المواد الغذائية

“حمارتك العارجة تغنيك عن سؤال اللئيم”

على افتراض أن الأسواق محصلة للتطور الاجتماعي المتدرج، فالأسواق نقاط مركزية هامة في حياة الفلاح الاقتصادية، لذا اهتم الأنثروبولوجيين بدراسة اقتصاديات المجتمعات التقليدية، فللأسواق دورها في عملية التبادل التي ترتبط بعمليات أخرى تشتمل على الأسعار وكيفية تحديدها، والأجور، والأرباح، ومصادر الانتاج التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدخل القومي، الفصل الرابع يحدثنا عن الكيفية التي يذهب بها الفلاح إلى أسواق البلاد المجاورة، وعن السلع الموجودة في كل سوق، حيث سوق الأحد في بلقاس، وسوق المواشي في السنبلاوين يوم السبت، وسوق الجمعة في المحلة والمنصورة، وهناك سوق شربين العمومي، وسوق دكرنس والمنزلة كل اربعاء، أيضًا نعرف أنواع التجار في الأسواق، والعلاقات بينهم، ونظام البيع والشراء، والأسعار، والأمن في السوق، وفض المنازعات، والوظائف المختلفة داخل السوق مثل: دهان الأحذية، وتصليح الغرابيل والمناخل، ولحام الشباشب البلاستيك، وتصليح البواجير، وسن السكاكين.

[1] الأستاذ الدكتور محمد احمد غنيم، أستاذ  علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا بكلية الآداب، جامعة المنصورة، رئيس قطاع الخدمات الاجتماعية بوزارة التعليم العالي، حاصل على جائزة الدولة التقديرية فرع العلوم الاجتماعية عام 2018م،  وحاصل على جائزة جامعة المنصورة التشجيعية في العلوم الانسانية عام 1995، مؤسس المركز الحضاري لعلوم الانسان والتراث الشعبي بجامعة المنصورة، عضو الاتحاد الدولي للأنثربولوجيا، من أهم مؤلفاته:العرب الرحل في مصر دراسة أنثروبولوجية لبعض جماعات البدو في محافظتي الدقهلية ودمياط – ط1,عام 1997م , ط2 عام2001،  العادات والتقاليد في دلتا مصر – دورة الحياة لدي الفرد منذ الميلاد حتى الزواج عام 2005، سوق الخواجات بمدينة المنصورة  – دراسة في الانثروبولوجيا الاقتصادية عام 2006.، جماعات الغناء والطرب بشارع صيام بمدينة المنصورة- دارسة أنثروبولوجية بمدينة المنصورة عام 2006، الطب الشعبي – الممارسات الشعبية في دلتا مصر – دراسة أنثروبولوجية في قري محافظة الدقهلية عام 2007، حكايات الصيادين فى عزبة البرج بدمياط – دراسة أنثروبولوجية عام 2011، الأغنية الشعبية والثقافة المصرية ،عن المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية عام 2013 .

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *