أحفاد اللاجئين الفلسطينيين وكتابة حكايتهم
عادل الأسطة
قرأت في الأشهر الأخيرة ثلاثة أعمال أدبية لثلاثة من أبناء معارفي. صادقت اثنين من الآباء، في طفولتي، في مخيم عسكر وتعرفت إلى ثالث لاحقا ولم ألتق بالأبناء. الأعمال الأدبية هي «خلل طفيف في السفرجل» وهو ديوان شعر صدر في ٢٠٢٢ للأسير أحمد العارضة و«رنين القيد» وهو مجموعة نصوص صدرت في ٢٠٢٢ للأسير عنان الشلبي، و«مدرسة الفروسية» وهي رواية صدرت في ٢٠١٣ لزينب جلال الأصفر. أحمد ولد في المخيم ثم استقر في نابلس وعنان ولد أيضا في المخيم ولا أعرف مكان ولادة زينب التي استقرت مع والدها في السعودية.
عندما انتهيت من القراءة لاحظت اختلافا واضحا في التوجهات ليس مرده الاختلاف الجندري؛ ذكر وأنثى، وإنما البيئة الثقافية والاجتماعية التي نشأ فيها الكتاب، ما ذكرني بنظرية (هيوبوليت تين) التي تأتي على تأثير الموروث والمشاهد والمعيش – أي البيئة والعصر والعرق – في العمل الأدبي. عرقيا، الكتاب الثلاثة فلسطينيون، واجتماعيا وثقافيا، ينتمون إلى بيئات مختلفة: المخيم في الأرض المحتلة والمدينة في السعودية، والثقافة الوطنية تحت الاحتلال الإسرائيلي والثقافة الإسلامية في السعودية، ومن الطبيعي أن تختلف الكتابة والرؤى والتوجهات في نصوصهم.
في العام ١٩٩٣، عقد في جامعة بيرزيت مؤتمر عن التطبيع، وطلب مني القائم عليه المرحوم عبد الستار قاسم أن أشارك بورقة عن التعددية السياسية في أدب الأرض المحتلة، فأنجزتها متتبعا فيها تأثير الفصيلية في نصوص الكتاب. هل انعكست ثقافة الفصيل الذي ينتمي إليه الكاتب في نصه؟
وفي السنوات الأخيرة وأنا أدرس الأدب الفلسطيني، أخذ الطلاب يسألونني عن سبب اختياري أدباء يساريين واستبعادي الأدباء الإسلاميين، ما جعلني أمعن النظر في انتماءات الكتاب الذين أدرسهم. تأملت في السؤال، فأنا أكاديمي يجب أن أراعي المعيار الأدبي في الاختيار.
قبل ١٩٤٨، لم تكن الفصيلية متجذرة أدبيا في أدبنا حتى لو اختلفت رؤى الكتاب ومنطلقاتهم، وظل الأمر كذلك حتى بداية ٧٠ القرن ٢٠. كان الأدباء يعدون على الأصابع ثم تكاثروا وصار لكل فصيل أدباؤه. الاتجاه الإسلامي في أدبنا صار يقوى أكثر وأكثر في القرن ٢١ من خلال مؤسسة فلسطين للثقافة وبيت المقدس للأدب. هنا برزت أسماء أدبية تنطلق من رؤى إسلامية تتبناها بصراحة في نصوصها وبعض هذه الأسماء أصدر ما لا يقل عن عشرين كتابا.
أعود إلى الأسماء الثلاثة.
أصدر أحمد ديوانين بدا تأثره فيهما بمحمود درويش ومظفر النواب واضحا، ويبدو أنه قرأ الشاعرين كثيرا، وهو انتمى، كما عرفت، إلى فصيل يساري، ما جعل الوطن يحضر في أشعاره، وأصدر عنان كتابه مستوحيا تجربته في العمل الفدائي وأسره وحياته في السجن ومعاناة أهله.
زينب الأصفر هي ابنة فلسطيني ولد في المخيم لأسرة هاجرت من يافا في ١٩٤٨، وقد ترعرع فيه ودرس في مدارسه ثم تابع تعليمه في القاهرة وعمل في الأردن لسنوات قبل أن يستقر في السعودية لثلاثة عقود وهناك أنجب أطفاله ومنهم زينب التي نشأت في بلد إسلامي محافظ وفي أسرة تشرب ربها الثقافة الدينية أكثر وأكثر. لم تقم زينب في فلسطين ولكني عرفت من مقدمة روايتها أنها زارت القدس وتعرفت إلى الأديب عبد الرحمن عباد من خلال خالتها إحسان عطية، وقد انعكست ثقافتها بوضوح في روايتها، فروح الرواية إسلامية وعظية وحضور فلسطين فيها حضور يلمح ولا يشير. لقد آثرت أن تخلق عالما افتراضيا كما فعل عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا في روايتهما المشتركة «عالم بلا خرائط» حين اختلقا عمورية وكما فعل غيرهما من الكتاب، وكان جل مرماها من وراء روايتها مراعاة القيم والمبادئ العربية الإسلامية.
ليست البيئة الثقافية والاجتماعية هي ما أثر في نتاج زينب وحسب بل أفلام الكرتون ومسلسلات الأنمي اليابانية، ولعل الرواية بالدرجة الأولى موجهة لقارئ غير إسلامي لبث الأفكار الإسلامية من خلالها، تشبها باليابان التي قدمت ثقافتها إلى العالم عبر المسلسلات المذكورة. إن إحدى شخصيات الرواية معجبة إعجابا كبيرا بروائي ياباني اسمه (لورابار كولي) «آمل أن أتمكن من مراسلته… لعل الله أن يجعلني سبب هداية في طريقه» و»يا رب أعز لورابار كولي بالإسلام وأعز الإسلام به، واهده لطريق الحق المستقيم». لقد قرأت روايته «الطريق إلى الشمس»، ولا أعرف إن كانت قرأت رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، ولنلاحظ اختلاف القراءات وانعكاسها في النصوص.
وإذا كان أحمد وعنان انتميا إلى العمل الفدائي وتحديا المحتل ودفعا الثمن وما زالا، فإن في رواية زينب ما ينتقد السلطة في البلد الوهمي ليس أكثر، علما بأن القارئ يمكن أن يكتشف الدلالة الرمزية بسهولة.
في كتابي «الفلسطيني في الرواية العربية» توقفت أمام رواية السعودية زينب حفني «سيقان ملتوية» التي لفت نظري فيها ما كتبته عن الجيل الفلسطيني المولود في المنفى وعلاقته بفلسطين.
هل سيأتي يوم يكتب فيه أحفاد اللاجئين عن عالمهم الذي يعيشون فيه بعيدا عن فلسطين فتغيب فلسطين عن نصوصهم؟
يجب أن نتأمل الظاهرة ونناقشها!
_ عن الأيام الفلسطينية