إشكاليّة المثقف والسلطة في رواية (العرّافة ذات المنقار الأسود)

(ثقافات)

إشكاليّة المثقف والسلطة في رواية (العرّافة ذات المنقار الأسود) للروائي (محمد إقبال حرب)

 

  • محمد فتحي المقداد

 

لذّة الأدب عندما يغوص في أعماق الحياة البشريّة، ومعالجة عتمة الزوايا الخافية المُخفِيَة، والمساحات الأعمال الروائيّة تتّسع للنّشاطات الإنسانيّة المختلفة، الشخصية باعتقاداتها، ودياناتها، وعاداتها، وتقاليدها، ودقائق شؤون اشتغالاتها الإيجابيّة والسلبيّة، والمؤثّرات النفسيّة والاجتماعيّة الداخليّة والخارجيّة.

وبين يديّ، وفي رحاب رواية «العرّافة ذات المِنقار الأسوَد»، ذات المنحى الرمزيّ بإيحاءات ودلالات جليّة بمؤشّراتها، ذات الأبعاد والأهداف الظّاهرة والخفيّة، وفي هذا المنحى الذي اتّخذته بمسارات انتقلت للحالة الموازية للواقع البشريّ عُمومًا، وتطبيق كل لوازم ومستلزمات الإنسان، لتطبيقها على المجتمعات الحيوانيّة، ابتداء من التجمّع بكانتونات مُتخيلةّ، ورسم خرائط الخوف، والتسلّط، وغريزة القطيع، والقمع، والقتل، والموت، وجماهير المُصفّقين والردّاحين، والمنافقين، الأقوياء والضّعفاء.

منذ القديم لجأ الأدباء والكتّاب للترميز بنصوصهم السردية، وهو ما يُعبَّر عنه بالتكنية، على رأي من قال: «الكلام للعمّة – الحماة أمّ الزوج-، لتفهم الكنّة» أو العكس الكلام للكَنّة حتّى تفهم العمّة. وهذا ما قرأناه في كتاب «كليلة ودمنة»، الذي ترجمه «عبدالله بن المقفع» عن اللُغة الفارسيّة إلى العربيّة، ويُقال أنّ «ابن المقفع» هو من ألّفه، كتبه الحكيم الهندي «بَيْدَبا» قد ألّفه لملك الهند «دَبْشليم».

وقد استخدم المؤلّف الحيوانات والطيور كشخصيّات رئيسة فيه، وهي ترمز في الأساس إلى شخصيّات بشريّة،  من خلال القصص على لسان الحيوانات، وعالجت مجموعة من المواضيع السّاخنة، كالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، المُوشّاة  بالحِكمة والموعظة.

أمّا الروائيّ«محمد إقبال حرب»، ومن خلال روايته «العرّافة ذات المِنقار الأسوَد»؛ فقد عاد بنا إلى إشكاليَّة المثقّف والسّلطة، القضيّة القديمة المُتجدّدة، ومحاولة السّلطة الاستحواذ على المُثقّف؛ ليكون لسان حالها، يُزيّن عوراتها، ويُسوّق ظلمها، وإمّا أن يرفض كلّ أساليب الاستمالة والتدجين، ليكون في الصفّ المُغاير للسّلطة يقول كلمة الحقّ، ولا يخشى في الله لومة لائم، وقضية خلق القرآن أيّام الخليفة العبّاسيّ «المأمون»، الذي حبس وجلد الإمام «أحمد بن حنبل» لوقوفه الصّامد في وجه السّلطان وعلمائه وجوقته.

وما أشبه اليوم بالأمس، وما وليس ببعيد ما حدث لعالم الاجتماع العربي «إدوارد سعيد» المثقّف المنفيّ، والذي حورب داخل الولايات المتّحدة من اللُّوبيَّات الصُهيونيّة،  كفلسطينيٍّ مازل قائمًا على تُخوم روح وطنه المُغتَصب عندما دافع عن القضيّة الفلسطينيّة، والتي شبّهها «بالأمّ الثّكلى التي لا بواكي لها مثل بقية الأمّهات».

ولو تتبّعنا إشكاليَّة المُثقّف والسّلطة، سيطول ويطول الحديث، ونكتفي بالمثاليّن السّابقين المختلفين بحيثيّاتهما، ونتحوّل إلى عمل أدبيٍّ مُهمٍّ، تمثّل برواية «العرّافة ذات المِنقار الأسوَد»، لِتُحيلنا إلى موضوع جديد، بمحاولة أنسنة طيور الدّجاج، وتحريكها وفق سرديّة روائيّة مقنعة تمثّلت زمانًا ومكانًا غير مألوفين لتأليف الحكايا، وأسطرتها على درب قصص «كليلة ودمنة»، وبرغبة تقريبها للواقع المليء بالخوف الملموس بين ثنايا التعابير، وفي مآلات فهم القارئ، وتنشيط هرمون الأدرينالين عنده.

الخوف مزروع في دواخل البشر عمومًا، والكاتب والأديب هو أيضًا فرد من البشر في حيّز مجتمعه المصغّر. التساؤل الذي يستوجب التوقّف عنده. هل خوف الأدباء والكتّاب مُبرّر. وهل خوفهم أو تخوّفهم بدرجة باقي أفراد المجتمع؟.

ولكنّ حساسيّة الكاتب تجاه الخطر الكامن أو القادم، إنّما هو مُؤشّر يستحقّ أخذ عيّنته على محمل الجدّ وعدم الاستهانة بها. الأمر الذي يجعل القارئ لرواية «العرّافة ذات المِنقار الأسوَد»؛ يستشعر ويتلمّس مخاوف راويها، «محمد إقبال حرب». الذي كشف عن الأصابع الخفية للحكومات العميقة، ومن ورائها حكومات الظلّ التي تتحكّم بمصائر البشريّة، بإثارة الحروب والقتل والدّمار، من هنا يمكن تفهّم فكرة الترميز بالإشارات الواضحة والخفية لهذه القضيّة، والمخاوف والهواجس والصّراعات المُعتَمِلة في ذهن الكاتب.  وقد استطاع «د. علي حرب» تحسّس هذه المّقطة. بقوله: «ورَفَعَ الستائِر الحاجِبة للحقائِق، وغاصَ حتى آخِر الأعمَاق في الاستِقراء والتَّقميش وسَبر بَواطِن الأجندات الغامِضة، بهَدَف إحدَاث الرجّة في العُقول المستَسلِمة، وطَرف العُيون المسدِلة جفونَها بأمان».

وبمجمل الرّواية فإنّ تجليّات فكرتها توزّعت على  مسارات وفق تراتُبات السّرديّة الروائيّة، استغرقت جهدًا عظيمًا، واستنزفت خيال الكاتب بالمزاوجة بين الواقع والخيال، ممّا يُنبئ عن مِخيال ثريٍّ يتمتّع به «محمد إقبال حرب»، وعلى ما وصف أيضًا. د. حرب للرواية: «بين بداية الهمس وآخره، ترقد حكاية “بني تراب” بكل ما فيها من حب وحسد وغيْرة وعنصريّة، وما يرافقها من صراعات وخيانات ودسائس ومُؤامرات وترويع وإرهاب، لتحقيق الأطماع الشّيْطانيّة التي تُراود الماديّين السّفلة للقبض على رقاب الدّنيا بمن وما فيها».

وتعدّ الرّواية إضافة جديدة في مسار الأدب الرمزيّ الهادف لإيصال رسالة ذات فوائد إذا انتُبه لفحواها، حالمة لأحلام وآمال ومخاوف كبيرة ظاهره وباطنه، عالجها الكاتب بأسلوب السّرد بلسان البطل الموازي، وبالانتقالات تارة أخرى للحواريّة بين أبطال روايته بمحاكاة مقنعة؛  جعلت من تعدديّة الأصوات سِمةً بارزة.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *