(ثقافات)
منازلة الحياة*
فيصل الزعبي
( 1 )
لم يتخلَ عني المجاز.. طوال عمري ..
كان الرفيق الجمالي الوحيد في هذا الكون الواقعي .. الهش
..
ولدت في مدينة تشبه القرية، وعشت طفولتي في قرية تشبه المدينة،
القرى الأولى وقبل انفجار بعضها كانت مدينة .. القرى هي نواة المدن الحديثة ..
درست في موسكو وكان الروس يطلقون عليها القرية الكبيرة
..
ما القرية وما المدينة سوى أن تتنفس أكسجيناً برياً بين أشجار السرو الآبدة
في طفولتي كنت أهرب فجراً نحو كتف نهر اليرموك، أصيغ حكايات شفوية بصوت عالٍ لا يسمعني سوى فراشات تعلقت بسياجٍ شوكي قرب كتفي، تعلمتُ في هذه اللعبة أن يكون لي صوتاً ونفساً ووحياً بين صمتين ..
صمتي الذي كان يغريه خرير الماء البعيد ، الشيء الذي لا يفارقني حقاً رائحة النعناع البري الذي يعبق في وادي قريتي، تتعلق رائحته بملابسي فيكشفني والدي أين كنت …
القرية هي سؤالٌ، كان يؤرقني دائماً نحو الفقر والتاريخ، وربما نحو العزلة التي كنت أعتقد أنها تدريباً ذهنياً على الحكمة .. ..
للفاقة وللحاجة أسئلة غريبة وكان الحدث التالي: كتبت مقترحاً ذهنياً بسيطاً بلغة طالب بسيط، كان على شكل نقاط لتذليل الفقر وتوزيع الثروة، لم تكن الثروة في خاطري حينها سوى توزيع الطعام، كتبت تلك الهواجس الفوضوية على دفتر الإنجليزي، كان الدفتر كثير الفراغات
وقع بالصدفة بيد معلم درس الإنجليزي، كان معلماً دائم الإرتباك وتحمّر وتنتفخ وجنتاه لأي سؤال، قرأ الأستاذ المكتوب في الدفتر، وكنت حينها في صف الثاني إعدادي / الثامن ..، راقبته وأنا أشحد منه لحظة إعجاب، لكن الأستاذ ارتجف واحمّرت وجنتاه، وندف عرقاً من جبينه المحروق وقال : إلحق بي للإدارة بعد ربع ساعة، وخرج في منتصف الحصة .
عند المدير وقفت لا أعرف القصة والأسئلة ولماذا طلبني، ثلاثة معلمين، يتأملون الكتابة ويتهامسون مع المدير وأنا مصلوب جنب الباب والمكنسة،
وكان السؤال الصاعق
– منذ متى تتصل بالشيوعيين ومن كتب لك هذه الأفكار ؟
ربما أدركت المعنى القليل للأفكار، لكن ثمة كلمة لم أفهمها ومن هؤلاء الذي اتصل بهم، للوهلة الأولى حسبتُ أن ذلك اتهاماً لي بأنني أتصل بقوة خفية كالجن مثلاً ، شيوعيين ؟!.. ما علاقة ذلك المبهم بما كتبت ؟، فقط هاجس انتابني عندما نمت بلا عشاء في تلك الليلة، لم أنم بل خرجت من بيتي وناجيت الله .. وسألته سؤالاً سرمدياً .. لماذا أيها الرب تنسى الفقراء ولماذا الأطفال تتركهم ينامون جوعى ؟
هل كان قصدهم أن الله شيوعي، هذا الذي اتصلت به تلك الليلة قبل أن أضع هواجسي على دفتر الإنجليزي .. الدفتر الفارغ المملوء بقطرات الزيت الرديء ..
القرية والسؤال والفقر ساقوني للمعتقل وعمري 16 سنة .. وتم الحكم علي 10 سنوات
ومن ذلك السؤال المبهم بدأتُ رحلة البحث عن الشيوعية
لم يتركني السجن والعسس والقاضي السريع أن ابقى في قريتي، أبحث عن الأسئلة وأخرج في الفجر أناجي الله على كتف نهر اليرموك شمالي الأردن منتصف سوريا التاريخية ..
في القرية تآلفت مع الفكرة الصورة، وفي القرية رسمت على الصخور وعلى لحاء الشجر رسائل الحب .. في القرية كانت رئتي الوحيدة دائمة الشبع والحرية والتنفس الواسع المديد .
وفي القرية ومنها ذهبت إلى موسكو لدراسة السينما ..
سألت والدي يوماً لماذا أسم قريتي – خرجا – .. كان جوابه سريعاً ممشوقاً ومرتجفاً عليّ .. اسمها خرجا لأنها دائماً خارجة عن القانون الذي سنه الرومان تارة والعثمانيون والانجليز والسلطة الحالية تارة أخرى ..
وكان هاجسي يقول : سأخرج عن كل مألوف وعن طحن الماء والهواء وأبقى بلا مكان وبلا هوية وبلا أجوبة معلبة .
القرية يمكن أن أشاهدها مجرد تسلّق شجرة السرو شمال بيتي، أجلس على جدعها فأرى حدودها وأهلها وتصبح صورة نابضة.. صورة وفي داخلها حركة أناس متعبين، صورة وألوان ، صورة تتغير بالتفاتة بسيطة، صورة فيها أصوات متعددة تختلط بأصوات الحيوانات مع أصوات الناس والعصافير والأشجار .. صورة علمتني السينما منذ الوهلة الأولى والخوف الأول والحب البسيط ..
* صدرت ضمن كتابات مبدعين عرب في كتاب عن الابداع والقرية ..دار عائدون
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
في الحياة لغز ماتشَتين ألتان*/ترجمة صفوان الشلبيلابدَّ أن لغزاً ما يكمن في حياتنا.هناك لغـزٌ في انتظار الفتيات الصغيرات…
أيتها الحياة*محمد شاكر( ثقافات )ماذا يَبـْقى في يَدي ، مِنك ِوفي شِباك القلبعلى مَشارف ِ غاب…
الاستاذ والسيناريست والمخرج والإنسان والجميل فيصل الزعبي أرجو الله أن يمنعه في الصحة والعافية .
التقيته مرة واحدة وأتابع ما ينشر على حسابه لاتعلم منه شيئ ولو يسير عن جمال السينما الذي يرسمه في خياله وينقله عبر أعماله الرائعة وكلماته العذبة والكاميرا .
فيصل لا يصفق لأي مسؤول أو فنان إلا بعد أن يتذوق الجمال ويشعر به.