نصف قرن على صدور “شظايا ورماد”

(ثقافات)

نصف قرن على صدور “شظايا ورماد”

فاطمة المحسن

احتفل أصدقاء نازك الملائكة في القاهرة بمرور نصف قرن على صدور كتابها “شظايا ورماد” 1949، ونازك بقيت تحت رعاية مصر التي احبتها باعتبارها موطن إشعاع للقومية العربية التي تؤمن بها.

وإن كنا نفهم الاحتفال مناسبة لتكريم الشاعرة قبل أن تغادر هذه الدنيا، فهو أيضاً يشير إلى انتباهة جد دالة في ثقافتنا المعاصرة لأن كتاب نازك هذا كان بمثابة بيان الحداثة الأول في الشعر الذي أسمته هي ” الشعر الحر”.

أفكار هذا الكتاب من الجموح والاندفاع والرصانة وقوة المحاجة، ما يجعلها متقدمة على مرحلة أدبية وعمر هو في المحصلة عمر امرأة يقتضي أن تكون في أول دربها نحو الإدراك الأدبي والموازنة الجمالية الدقيقة. كانت الشاعرة آنذاك في العقد الثاني من عمرها وفي مجتمع بغداد الأربعينيات.

عبر مقدمة “شظايا ورماد” ميّزت الملائكة نفسها من خلال نشاط لم يستطع بقية الرواد ممارسته إلى مراحل متأخرة، فكان وعي الشعر الجديد يتلّبس لديها نظاماً من المفاهيم التي تعكس ثقافة أدبية تجنح نحو التأسيس وتقعيد القيم الشعرية قبل تجريبها، ولعل هذا المنحى أحد أهم أسباب انكفاء مشروعها.

في مقدمتها الجريئة تلك كانت تكمن مكونات الولع في البحث عن أقيسة منطقية لمغامرة الشعر الجديد، في حين بقي السياب والبياتي أكبر منافسيها، يتتبعان بوصلة الشعر ذاته لتفضي بهما خارج تنميط الأشكال والصيغ. هذا افتراض من افتراضات كثيرة في الإجابة على سؤالين يخصان نازك الملائكة: الأول حول موقعها في حركة الريادة كشاعرة، والثاني أسباب انطفاء ألقها خلال سنوات قصيرة لا تتجاوز العقد، وانحسار فعاليتها الاجتماعية والثقافية ثم مرضها الذي أدى بهاإلى الغياب والعزلة عن العالم.

هل كان شعر نازك الملائكة ينافس شعر السياب والبياتي والحيدري وهي التي بدأت مرحلة جديدة في فعالية كانت لا تخرج عند المرأة عن بروتوكول الرثاء؟

لا تختلف قصائد الملائكة الأولى من حيث المستوى عن قصائد منافسيها في اللون الجديد، بيد أن انشغالها اللاواعي بالتعبير عن أناها الأنثوية امتص طاقة إبداعها. وعندما نضع هذا الافتراض نستحضر ظروف نازك الشخصية ونوع نتاجها. قصائدها الأولى كانت أقل كِلْفة بالحب بين الرجل والمرأة، في حين أصبح هذا الموضوع لاحقاً يتصّدر اهتماماتها الأمر الذي ساعد على إضعاف نسيج نصها لغة وأفكاراً. وقصائد الحب تلك كانت تشير الى عالمها الوجداني المحدود، والى الأسوار التي تعيش داخلها باعتبارها ابنة عائلة بغدادية عريقة. لندع هذا الأمر جانباً ونناقش مشكلة وعي الشاعرة بذاتها كأنثى، وهذا الوعي عند النساء أهم دواعي الإبداع كما تؤكد تجارب الشعر العالمية، في حين أصبح وبالاً على نازك الملائكة لأنه أزاح طموحها في التنقيب عن تجارب تشكّل عصب المواجهة والرفض بين الشاعر وعالمه. لعل هذا الجانب يحتاجه الشعر الجديد لأنه شعر تَحّوْلٍ في الحساسية جمالياً ووجدانياً. كانت نازك الملائكة لا تقوى على مواجهة الكثير من الأسئلة الوجودية التي تعترض المرأة في معركة الإبداع، ويشكل حسمها أهم حافز في المنافسة بينها وبين أندادها الرجال، على هذا الأساس بقي خيالها الشعري يتنقّل داخل غرفتها المغلقة، وبقيت ثورتها أنثوية مهجّنة بالمحبة المطواعة وليس بالرفض والتحدي. كانت كامرأة تعيش زمناً متخلفاً في حين كان عقلها الوهاج وهي في منتصف عشرينياتها، يطوّح بها بعيداً نحو مغامرة لم تكن تقوى عليها وجدانياً.

وهي حين تنتشي بإطراء النقّاد وهم رجال في العادة، لا تعرف أنها تُستثنى من جنة المساواة أصلاً لأنها تُعامل على أساس التصنيف البيولوجي التقليدي الذي يجعل من المرأة أقل عقلاً وإدراكاً وأكثر تفوقاً في الحس والغريزة. كانت نازك الملائكة أسيرة تلك المعادلة المؤلمة، فهي أنثى محجوبة المشاعر خجولة ولو تطلعت عبر شباكها نحو عوالم الوهم، فهي لا تقوى على مجابهة هذا العالم الرجولي الذي يلاحق حتى رموز شعرها ليفسرها بما يشاء له الخيال. فسّر يوسف الصائغ في كتابه عن الشعر الحديث، على سبيل المثال، الكثير من صور الملائكة على أنها تعبر عن الرغبة المكبوتة، وفي شرحه قصيدتها عن فيضان دجلة “النهر العاشق” وهي واحدة من قصائدها الجميلة التي تستخدم الإبدال بين فعل المحبة والكراهية، فسّرها على أنها افتتان بالقسوة الرجولية لتعويض حاجتها إلى الرجل. لعل هذا الطرح تبسيط من صنع مخيلة تسقط مكبوتها على كتابة المرأة. ومع أن نازك الملائكة كانت تفصح عن مشاعرها على نحو جريء، فهي تصوّر خيباتها في الحب ولهفتها وانتظارها ومواعيدها مع الحبيب، بل تصوّر حتى اجتماعها به. والحق أن تلك الحصارات نجحت نسبياً في أنْ تضاعف عزلة نازك الشخصية وخوفها من المجتمع، غير أنها بقيت فترة متمسكة بما يمنع المرأة الاقتراب من الرجال. الشعر ملعب الرجال الأشداء في العراق، والمرأة التي لا تعرف اللغة والعروض لقصور في عقلها كما يؤكد العرب إلى يومنا، لا تستطيع الاقتراب من هذا الملعب الصعب. فانشغلت الملائكة بعد ديوان واحد أصدرته في البرهنة على قدراتها العروضية والنحوية في كل ما كتبت. وفي مؤلفها “قضايا الشعر المعاصر” قطعت الشوط إلى نهايته في الإعلان عن ثقافة عروضية ونحوية وفهم دقيق وواضح للمصطلح الغربي، في وقت سجّل هذا الكتاب عودتها الدراماتيكية عن كل ما ورد في مقدمتها لـ”شظايا ورماد”.

لنستمع في “شظايا ورماد” إلى تلك النبرة الشابة المفعمة بالعنفوان والتوهج حين تتحدث عن اللا قاعدة باعتبارها القاعدة الذهبية: “ما زلنا نلهث في قصائدها ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة وقرقعة الألفاظ الميتة، وسدى يحاول أفراد منا أن يخالفوا، فأذاك يتصدى لهم ألف غيور على اللغة، وألف حريص على التقاليد الشعرية التي ابتكرها واحد قديم أدرك ما يناسب زمانه”. لعلها تمعن في تجاهل اسم الفراهيدي الذي لوّحت ببحوره في وجه كل شاعر حاول الخروج عن العروض بعد فترة قصيرة لا تحسب في العمر الزمني للمراحل. وكان تتبعها الأخطاء اللغوية والعروضية في كتابها عن شاعرها المفضل على محمود طه، يدلّ على الفوبيا التي أصيبت بها استجابة للجو الثقافي العراقي الذي كان يحفل بالمتنطعين اللغويين. لعل ذلك الازدواج الذي عاشته بين موهبة عقلية وثقافة أدبية متقدمة تدلّ عليها كتاباتها النثرية قياساً إلى نقّاد مرحلتها من العراقيين وليس فقط مجايليها من الشعراء، ورغبة في التعبير عن وجودها الأدبي من خلال الشعر، ربما كان وراء إخفاقها في صياغة هوية أدبية أكثر تطامناً مع طموحها. فهي أبقت “بقرة” الأدب العربي المقدسة، أي الشعر من دون تحطيم، في حين بدت في عشرينياتها تتطلع الى عوالم أكثر رحابة من الشعر ذاته أي التفكير به من خارجه على نحو جديد. وإن شئنا تسجيل تاريخ انطلاقة الموجة الجديدة “الشعر الحرّ ” كفعالية تعي ذاتها معرفياً وتتبع هاجس التغيير عبر تحدي طقوس الشعر الصارمة، فسنجد الأمر عند نازك الملائكة في مقدمة “شظايا ورماد” قبل أي واحد من الشعراء الذين جايلوها. وكل الذين كتبوا قبلها حول مبحث الشعر المنطلق والنثر الشعري والشعر المرسل منذ الريحاني، كانوا يترجمون ما كتب الأدب الغربي من مصطلحات جاهزة لها صلة شكلية بما تعنيه التجربة المرتقبة. ونزعم ان كتابة السياب والبياتي لاحقاً عن بعض المصطلحات الشعرية الغربية بدت على شيء من التبسيط في فهمها، في حين بقيت نازك حذرة في التعامل بنزق مع المصطلح الأدبي الغربي وكانت لا تكتب إلا ما تفهمه بوضوح شديد ومن دون مناورات وألاعيب لغوية. لعلها كانت حذرة في تطبيق هذا الجانب في شعرها الأمر الذي جلب عليها الضرر، لأنها كانت تخاف المغامرة والادعاء وهما يفيدان الشعر في أحيان، وربما كانا مفيدين لها على نحو يؤهلها لتخطي ذاتها المحدودة نحو تجارب خيالية أوسع من عالمها المسوّر. فهي أضاعت كل الفرص في تجريبها الشعري بعد مرور أقل من عقد على بدء مغامرتها، لأنها كانت مقصوصة الجناح توجهها صدق عواطفها. في حين استطاع السياب والبياتي التقدم بثبات نحو احتواء المنجز الذي وضعت هي قبلهما لبناته الأولى، فما أن انتهت الستينات حتى نسيها النقد إلاّ في باب التعريض بأقوالها التي وردت في كتابها “قضايا الشعر المعاصر”.

لن نستطيع التحدث عن ضحايا وجلادين فهو حديث ضعيف الدلالة في مبحث نازك الملائكة، ولكن من المؤكد أن وضعها كامرأة في عراق الأربعينات والخمسينات وتحت رعاية عائلة محافظة، جعل منها شـخصية يتملّكها حنين العودة إلى الأصول، والأهم من كل هذا أن نازك في الأصل كانت تساكن فكرة الحياة غير المتحققة، الوجود المتأرجح بين الحقيقة والخيال، أو بين عالم الموت الذي كانت تتشّوق إليه وتخاف منه، وعالمها الواقعي الذي ما استطاعت إبعاد الأرواح عنه إلاّ في مرحلة خصبها الأدبي المحدودة والتي لم تدم أكثر من خمس سنوات، كانت في ذلك العالم لا تؤمن بالروحانيات كما جاء في يومياتها.

نازك الملائكة أو جامعة الظلال بحسب عنوان احدى مجموعاتها عاشت “يوتيباها الضائعة” ممهدة الدرب نحو مرضها النفسي الذي تغلّب عليها في النهاية بعد معاركة بينها وبينه. وكانت خلال مراحل يقظتها تستأنف نشاطاً لا صلة له بما أسسته ثم تعود إلى رقاد طويل ترحل فيه روحها نحو وهادٍ طالما اشتاقت إليها في الكثير من قصائد التشاؤم التي كتبتها مبكراً.

مرض نازك الملائكة يذكرنا بمرض مي زيادة وعائشة التيمورية وربما فرجينيا وولف وسلفيا بلاث وآن سكستن وسواهن من الكاتبات اللواتي انتهت حياتهن أو أنهينها على نحو تراجيدي. والأخيرات من بين أشهر من كتب بالإنكليزية بين الأديبات، وكنّ أكثر شجاعة من العربيات إذ قضين منتحرات قبل أن يستفحل مرضهن.

عملية الإبداع عند الأنثى تدفع بها إلى مزيد من الجهد الروحي لحفظ الموازنة بين الطموح والإمكانية التي يوفرها المجتمع، والضغوط التي تجابهها أهم مسبب للعلة النفسية التي تصاب بها الأدبية، مع أن بحوث علم النفس تؤكد أن شروط الخلل النفسي تكمن في عملية الإبداع ذاتها، وربما تتضاعف تلك الاحتمالات في النفوس الأنثوية المرهفة. ولو قيض لنازك الملائكة أن تعيش في زمن آخر غير زمنها، لربما استطاعت تجنب تلك المواجهة التي خاضتها بصمت حين مرت بأطياف من الاختبارات الفائضة التي لا تشكّل في النهاية أية قيمة تستحق من أجلها أن ترتد إلى داخلها خوفاً وخشية. وكانت خلالها تفتقد إلى أهم خصلة لكي تبعد عنها شبح الإحساس بالفشل والإحباط وهي العناد والمجابهة، وتسجل في حديثها عن تدهور صحتها تاريخاً بدأ مع شعور بالفشل.

وما تبقّى من الملائكة شعراً ونقداً يشير إلى مرحلة مهمة في تاريخ الأدب العربي، لم تتكرر إلى يومنا. فالشاعرات يصنفن عادة بين الشاعرات، فيما كانت نازك تقف قبل الأوائل وان خذلها الوقت ولكنه كان وقتها، فهي التي اختارته وبدأت به قبل الآخرين.

5/6/1999* تاريخ نشر المقال ونعيد نشره هنا لأهميته

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *