محمد طمليه: حيرة في النص والحياة

(ثقافات)

محمد طمليه: حيرة في النص والحياة

أحمد طمليه

ترك محمد بيت العائلة القائم على ضفاف وادي الحدادة بعد العام 1985، لكنه منذ ذلك التاريخ لم يغب عن العائلة لحظة واحدة. وهذا ليس قولا عاطفيا، بل تعبير عن إشكالية عاشها محمد، وهي إشكالية ذات حدين: فلا المتنقل بين شقق عمان المفروشة وغير المفروشة مرتاح، ولا الصدى الصاخب في الروح قابل أن يهدأ، فكان محمد تواقا للتحليق بعيدا عن هنا متجذرا في مكانه دون أن يتزحزح. بمعنى أن محمد الذاهب لكي يستقل لم يستقل، ومحمد الراغب في أن يبقى لم يبق.

هي علاقة غريبة تلك التي تربط محمد بأسرته. علاقة أفضل من عبر عنها محمد نفسه بنفوره الشديد منها أحيانا، وبتعلقه الأشد بها دائما. علاقة ربما يكون قد فرضها الحال الواحد، والجوع الواحد، واللقمة الواحدة. لكن الأهم من عاش هذه الحال، وهذا الجوع، وهذه اللقمة، وهو محمد، المرهف إلى حد الانكسار، فليس غريبا أن يعجز عن الانسلاخ عن أسرته، وليس مستهجنا أن يعجز عن الانخراط بها. المقصود بالانسلاخ هنا: الاستقلال، هو أن يكون حاله مثل حال جميع الفقراء الذين كبروا ومن ثم تيسرت أحوالهم، وهدأت نفوسهم. والمقصود بالانخراط: أن يهدأ محمد، وأن يكف عن اقتصار زياراته لبيت العائلة على التمشي في أرجاء الغرف، جميع الغرف، ثم الذهاب خلسة دون استئذان، ودون أن يقول: إلى اللقاء ا.

في مجموعته الأولى جولة العرق الصادرة العام 1980، انعكست أجواء الأسرة والحارة والجوع في قصصه، فكتب عن هيفاء الشقيقة الصغرى التي كاد يودي بها انفجار أسطوانة غاز داخل البيت. وكتب عن فقر الدم ، وعن الأقارب الذين هاجروا إلى الخليج أثناء الطفرة النفطية وعادوا بسيارات فارهة وزوجات سمينات. وفي قصته الخيبة التي صدرت في مجموعته الثانية التي تحمل الاسم نفسه العام 1981، يعلن محمد رفضه للجامعة حتى لو أدى ذلك إلى انتكاسة حلم أمه في أن يصبح جامعيا. يقول محمد، أو بطل القصة: ما عليك إلا أن تمزق هذه الدفاتر ثم تهرول باتجاه ورشة للحدادة أو الطوبار، بذلك يمكن أن تكف إنسانيتك عن السيلان، ربما تستطيع أن تمارس كونك إنسانا على النحو الذي تريد، وفي الوقت الذي تريد، وبين أناس أنت منهم وهم لا يختلفون عنك. أما أمك فلا تقلق عليها، فهي احترفت الألم منذ زمن، ولن يختلف الأمر في ما لو ظلت محترفة. إن ضياع أملها فيك هو -في الأساس- جزء من ضياع أملك في نفسك. وتذكر أن لطمة إضافية لن تؤخر أو تقدم قيد أنملة .

بعد شهور قليلة، في العام 1981، يصدر محمد طمليه مجموعته القصصية الثالثة ملاحظات حول قضية أساسية ، ورغم أنه ظل يدور في الأجواء نفسها: الحارة، والفقر، والطفولة، إلا أن معالم الاعتداد بالنفس بدأت تظهر عليه، ولم تعد قضيته أن يكون طالبا جامعيا أم عامل باطون، بل أن يكون كاتب قصة: قاص في الجامعة يكتب عن معاناة الفقراء وهمومهم.

هذا الاعتداد بالنفس يمكن إدراكه من تصفح الأوراق الأولى من الكتاب، إذ يصر محمد على ترويس الصفحة الأولى بكلمة الطبعة الأولى ، وكأن في نيته أن يصدر طبعات من هذه المجموعة القصصية، ثم يكتب بخط عريض: حقوق الطبع والنشر غير محفوظة على الإطلاق ، كأنه يعتقد أن هناك ناشرين سيتهافتون على طباعة نسخ أخرى. وفي الصفحة التي تلي يكتب إهداء صريحا إلى والدته يقول فيه: ثمة امرأة في جبل النزهة، يعرفها التعب جيدا، اسمها أم مروان.. إليها هذه المجموعة الصغيرة دلالة حب كبير . والأهم من ذلك أن محمد، وللمرة الأولى، وبعد مجموعتين قصصيتين منشورتين، يقدم مخطوطه الثالث إلى القاص محمود شقير ليكتب له مقدمة. علينا أن نلاحظ هنا أن مجموعتي محمد الأولتين لم تحملا أي مقدمات، وهذا يشي بما كان يدور في ذهن محمد، أو بما بدأ يساوره، ومفاده أنه يريد أن ينتزع اعترافا صريحا بخصوصيته كقاص. ليس المقصود بكلمة انتزاع ، أن يأخذ حقا ليس حقه، بل هو الاستعجال المقرون بالقلق، القائم على ثقة بالنفس، الدال على معرفة الكاتب مقدار نفسه، أو ما يمكن أن يكون عليه هذا المقدار. وهو الأمر نفسه الذي استوقف شقير، فوجدناه في مقدمته يحكي لنا القصة من أولها.

يقول شقير: قبل سنوات ثلاث، أقيمت في رابطة الكتاب الأردنيين ندوة لقاص شاب من الجامعة الأردنية، جاء ومن حوله عدد من طلاب الجامعة وطالباتها. وهناك في مقر الرابطة، قرأ قصته الأولى في ما أعتقد، فلم تعجب القصة أحدا، رغم الحماسة التي تبدت على صاحبها، ورغم الكلمات الجارحة التي وردت في القصة، وكأنما تريد أن تخدش الأسماع لتؤكد أن ثمة خلف هذا السطح الساكن للواقع المعاش، تكمن مفارقات ومآس لا بد أن يتناولها الأديب، ولا بد أن يعكسها الفن في وعي الناس. ولأن حصيلة هذه الندوة لم تكن مشجعة، فقد غاب هذا الشاب طويلا، واعتقدت أنه عزف عن الكتابة بعد أن خابت محاولته الأولى، ولم يجد من يتعاطف معها ولو بكلمة دافئة. بعد سنتين من تلك الواقعة، عاد محمد طمليه وفي يده مجموعته القصصية الأولى (الخيبة)،واكتشفت أن خيبته الأولى لم تقتل فيه نوازع الإبداع، ولم تقلل من حماسته لمعايشة الواقع، ولاكتناه جوانبه الخفية المتحركة التي تملأ نفس الكاتب المتعطش إلى الحياة وإلى الكتابة. وبعد أشهر قليلة نشر محمد مجموعته القصصية الثانية (جولة العرق). لم تعرف الصحف المحلية شيئا من إنتاجه القصصي حتى ذلك الوقت. ويبدو أنه آثر نشر إنتاجه القصصي مطبوعا في الكتب مباشرة، لسبب يتعلق بحادثة الإحباط الأولى، أو لعله على العكس من ذلك، يعود إلى رغبة في التحدي وإلى الخروج على الطوق المألوف .

يتابع شقير، أن طمليه استلفت أنظار الدارسين ومتذوقي الأدب منذ صدور مجموعته الأولى، وازدادت القناعة بقدراته الغنية لدى صدور مجموعته الثانية. وها هو ذا الآن يطرح علينا مجموعته الثالثة، التي يؤكد فيها من جديد على صوته الخاص، وعلى تملكه لأدواته الفنية، التي تجعله وبحق في موقع متقدم من حركة الكتابة القصصية الشابة في الأردن .

محمد طمليه أراد أن يسمع هذا الاعتراف الصريح من قاص يكن له الاحترام. وأكاد أتخيل محمد متبسما وهو يقرأ عبارة محمود شقير التي يختم بها مقدمته: تحية إلى القاص محمد طمليه .

غير أن الذي حدث بعد ذلك يدل على أن ما يدور في رأس محمد مختلف، فكلمة الطبعة الأولى التي افتتحت بها مجموعة ملاحظات حول قضية أساسية تجاهلها محمد. ليس هذا فحسب، بل انه تنصل من مجموعاته القصصية الثلاث، وتبنى مجموعته الرابعة المتحمسون الأوغاد العام 1984 بوصفها مجموعته الأولى، وهي بحق المجموعة الأولى بالمقاييس كافة، ومن جميع النواحي، ولا يبالغ المرء إن قال إنها نقلت محمد من طامح لأن يكون في موقع متقدم، إلى قاص متفرد بلغته وأسلوبه. ورغم ما تضمنته المجموعة من رؤى إبداعية وجدانية، تناقش الهم الوجودي وتغوص به مبشرة بقاص قادر أن يحلق بعيدا، إلا أنها جاءت مثقلة بالقلق، وهو قلق مقلق لأنه لا يمس مضامين القصص فقط، بل يطال محمد نفسه، أي أنك لا تستطيع إلا أن تقلق على محمد عندما تقرأ مجموعته المتحمسون الأوغاد .

لعل هذا هو جوهر الفكرة التي التقطها سالم النحاس، حيث كتب مقدمة لهذه المجموعة بعنوان الراحة على فراش من قلق ، فبعد أن يهنئ محمد ويعترف أن قصصه عبارة عن قصائد تشعل شيئا ما في الروح، يعرب النحاس عن قلقه على محمد إذ يقول: أفضل ما يمكن أن يقال عن هذه القصص إنها تبحث عن الراحة على فراش من قلق دائم. ولكني أقف محاذرا أمام هذه الروح.. الروح القلقة التي تبحث عن الراحة والسلام. وقلقي نابع من عاملين، الأول: أنني لا أفصل بين الكاتب وإنتاجه، وأكاد لا أجد في صرخة بطل قصة (الضجيج) وهو ينادي: (أحمااااد) سوى الامتلاء الوجداني بأنه لن يجده ولن يرد عليه أحد. وهذا ما يحسه المتلقي. والثاني: إنني أشم في هذه الصرخة ما لا أحبه لمحمد، فلكأنه يقولك إنني كتبت ما لدي ولم يعد ثمة ما يقال، وها هي الخاتمة: صرخة في قلب الشارع لا يرد عليها أحد .

غير أن النحاس يعود ويخاطب محمد بالقول: القصص تدل على أنك تعرف ما تريد أن تقول وتقوله بصورة واضحة. فإن لم تكن قد وجدت الراحة والسلام في فراش قلقك، فقد وجدت الراحة والسلام في التعبير عن هذه الحالة. وهذا هو الشيء الوحيد الذي قد أرضى به ليطمئنني على أن الفن سيكون خلاصك الأول والأخير. وخلاصك مم؟ ربما من القلق.. وربما كنت تعرف أن هذا مستحيل، لأنه من دون هذه المادة النادرة نقع في شبكات متعددة مثل الشبكات الخبيثة التي تقع بها شخصيات القصص نفسها جميعها دون استثناء. ستتحول إلى الآلية في الحياة… وعندئذ نفقد الوهج الذي لا ينطفئ في الروح. مع الحرص البالغ بالطبع على التفريق دوما بين القلق المبدع الخلاق والقلق المدمر الذي تقف قصصك على الحافة فيه، وربما بدفعه واحدة بسيطة تضيع في اليم وتسحب معك القارئ ليرى على الأقل، إن لم يكن مهيئا أصلا، صورة ارتطام جسدك في المحيط. إن أهم ما أراه في العمل هو أن نضع نصب أعيننا هدفا يرمي إلى استفزاز المتلقي واستثارة قلقه بحيث يؤلف هذا مدخلا للإطلال على الحياة برؤية أخرى مستشرفة، وليست متسائلة، في لحظة من لحظات الاشتعال في الروح والاستنارة… الاستنارة بواسطة الفن. وإنني لأعتقد حتى الآن أن قدمك لم تزل، فحاذر، لأن مثل هذا الأمر لا عثرات فيه، فالهلاك يأتي فورا إثر العثرة الأولى، على قاعدة إن من يسقط مرة واحدة يسقط إلى الأبد حتى في الفن، دون التدقيق في الوقت الحاضر بما هو صحيح من أن الفن طبقي، ولكن ما أريده هو أن تتمسك بوهج الروح، وعندئذ سيتحول إلى وهج في الروح الجماعية، أعني سيتحول واضحا في ما بعد، مع أنه الآن موجود، ولكنه مخبأ خلف أبعد السطور .

هذا ما كتبه النحاس في حينه، مما يجعل السؤال المطروح، الآن، بعد ما يقرب ربع قرن على كتابة هذه المقدمة: هل كان قلق النحاس في محله، وهل وجد محمد راحته على فراش من قلق؟. لقد كان قلق النحاس في مكانه تماما، غير أن محمد لم يجد راحته على فراش من قلق، لنقل إنه تقلب على ذلك الفراش طوال ما قيض له من عمر، لكنه لم يجد راحته عليه أبدا. لقد كان محمد يقترض من البنوك من أجل أن يبذخ في الصرف، ويوزع نقودا على أهل الحارة، فأي فراش هذا، وأية راحة؟.

ظل محمد يبحث عن الصيغة ، أو موطئ قلم كما كان يطيب له أن يقول، كي يعبر عن نفسه إبداعيا، ربما لم يجد ذلك في القصة ولا حتى في الرواية، وربما وجد ضالته في النص المكثف الذي تفرد به لاحقا وصدرت مقتطفات منه في كتابي “يحدث لي دون سائر الناس” و  إليها بطبيعة الحال” .

هذا النص هو مشروع محمد، فقد قالها في أكثر من مناسبة: أنني أكتب نصا مفتوحا . المدهش أن محمد كان يعي تماما تطور التجربة لديه، بل إنه كان يقصد كل تحول به أو منعطف، بدءا بانقلابه على مجموعاته القصصية الأولى، مرورا بتجربته في المتحمسون الأوغاد ، وصولا إلى نصه المتفرد الفريد.

في شهادة قدمها محمد في ملتقى القصة القصيرة الذي عقد في عمان العام 1993، يقول: الآن فقط تذكرت أنني كاتب قصة: نعم، إنه اعتراف، صريح وواضح، بأنني لم أكتب، منذ أكثر من خمس سنوات، شيئا في هذا المجال. فيما انشغلت، طوال تلك الفترة، بالصحافة والفوضى والعلاقات العابرة التي انتهت فور صحونا من غيبوبة الكحول.. ولا أنسى، في هذا السياق، طاقم الأمراض التي أصبت بها، بدءا بالبواسير، وانتهاء بالتهاب الأسنان الذي أعفاني، اليوم فقط، من انتفاخ الخد الأيمن .

ويتابع: لكن مهلا.. هل يعتقد أحدكم أن المنغصات آنفة الذكر، إذا سلمنا بأنها منغصات فعلا، هي الأسباب الحقيقية التي أعاقتني عن الكتابة؟ اسمعوا، إذن، ما يلي: أزعم أنني ضحية النقد الساذج – النقد الذي استقبلني بحفاوة بالغة، حين كتبت شيئا تافها عن الواقع الاجتماعي المعاش: لقد كنت، آنذاك، شيوعيا… وكان يهمني، بحكم انتمائي وثقافتي، إبراز المفارقات الطبقية، حتى وإن كان أسلوب المعالجة سلميا: كان السادة النقاد، في تلك الفترة، مفتونين بهذا الهراء. وهذا ما يبرر باعتقادي، الاستقبال الإيجابي الذي حظيت به ترهاتي الأولى. ولكني كبرت مثلما يفعل الأوغاد جميعا. وأتيح لي، بحكم العلاقات المحببة التي نجمت عن فصلي من الجامعة، أتيح لي أن اقرأ الكثير من الكتب التي يخشاها الشيوعيون، وأعني بذلك أعمال بيكيت ويونسكو وأداموف وغيرهم من السفلة، مما غذى الانحطاط في نفسي، ودفعني لكتابة مجموعتي (المتحمسون الأوغاد) التي قيل عنها، فور صدورها، إنها مجموعة عابثة، خبيثة. وقيل عني، يا للخساسة، إنني أرعن وملعون. ليس في نيتي أن أندب، ولا أن اشق الثوب تعبيرا عن قهر وكمد. ولكن الآراء التي قيلت في قصصي، كثير منها إيجابي، جعلتني أدوس على الفرامل، وأقف في محاولة للبحث عن موطئ قلم، أين أنا؟ وما الذي يجب أن أكتبه؟ وما هو موقفي، بعد خروجي من الحزب، وانفتاحي على ثقافات مختلفة، وما يحدث في العالم؟ علي أن أفكر بهذه الأسئلة، وصدقا أني لم أجد الإجابة، وربما لن أجدها أبدا. وأنا لست نادما على كل حال .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *