أتذكر، ماذا أتذكر؟

أتذكر، ماذا أتذكر؟

هامبورغ يونيو-حزيران 1986

حسونة المصباحي

بداية الصيف …حرارة شديدة في مدينة الشمال الألماني…

بناتها الشقراوات الفارعات القامة تخفّفن من ثياب الشتاء الثقيلة، عارضات مفاتنهن

على ضفاف نهر “الألب”…

في قصر فخم من طراز معماري حديث انعقد المؤتمر العالمي ل”نادي القلم” بحضور مشاهير الكتاب والشعراء والمفكرين من جميع أنحاء العالم…

غونتر غراس ألقى كلمة الافتتاح بلغته الأم، والجميع احتضنوه في ختامها…

أولهم الأمريكية سوزان سونتاغ التي وهبتها خصلة الشعر البيضاء على جبهتها العريضة فتنة أميرة من عصور الامبراطوريات المنقرضة…

وأنا كنت أرغب في حوار مع الإيطالي ألبرتو مورافيا…

حين جاءني جوابه بالموافقة تركت كأس البيرة الذي طلبته قبل حين، وهرعت إلى غرفته في الفندق… وجدته بشوشا، ونشطا، و”جنتنمالا” أنيقا في حركاته، وفي ملبسه، مرتديا بدلة زرقاء، واضعا على القميص الأبيض ربطة عنق حمراء…

شدّ على يدي بحرارة، وقال لي :” لقد طلب مني صحافيون كثيرون اجراء حوار معي، إلاّ أنني رفضت ولم أقبل إلاّ فتاة ألمانية لأنها من هامبورغ ..وأنت لأنك عربي …وأنا أحب العرب رغم مشاكلهم الكثيرة” (ضحك عاليا)…

في حواري معه ، تحدثنا حول مسائل كثيرة تتصل بحياته، وبمواقفه السياسيّة، وبرواياته، وبرحلاته عبر العالم. وبكلّ حبّ تحدث عن البلدان العربيّة التي زارها…وكم كان سعيدا عندما عاين أن كتبه تباع على الأرصفة في البعض من المدن العربية مثل دمشق، والدار البيضاء، والبصرة، وبيروت…ومرة أخرى ضحك عاليا :” لكني لم أقبض ليرة واحدة من تلك الترجمات رغم أن العرب أثرياء كما يُشاع عندنا”…

قلت له :”ما يزال أهالي أصيلة يتذكرونك لما حضرت مهرجانهم ” فابتسم مبتهجا ورد قائلا: “آه… أتذكر تلك المدينة الصغيرة الجميلة على المحبط الأطلسي… وكم كنت سعيدا بحضور مهرجانها…وكم كانوا بسطاء أهاليها… كل حدث جديد حتى لو كان صغيرا يبهجهم فيحلقون في السماء …وكنت قد زرت المغرب قبل ذلك مع صديقي الراحل بازوليني لتصوير فيلم “أوديب الملك”…أنا أحب المغرب كثيرا، وأعتبره من أجمل البلدان التي زرتها…أحببت مراكش، وقرى صغيرة على سفوح جبال جرداء…وأحببت أيضا طنجة، وفاس”…

عن المناضل والمثقف الفلسطيني الذي اغتاله جهاز “الموساد” الإسرائيلي في السادس عشر من شهر نوفمبر-تشرين الأول 1972، في روما ، قال ألبرتو مورافيا:” كان وائل مثقفا من طراز رفيع… واتقانه للغتنا ساعده أن يكون حاضرا في المشهد الثقافي والفكري والسياسي في بلادنا. كما أنه وثّقَ علاقاته مع كبار المثقفين والكتاب وكنت أنا من بينهم… كان رجل حوار…واغتياله فجيعة كبيرة بالنسبة لي”…

أثناء حديثنا عن الشيخوخة، ومتاعبها، قال لي:” ”أنا لا أشعر بأنني عجوز. فعندما يقوم الانسان بعمل مهمّ، ومفيد لا يمكن أن يشعر البتة بوطأة الشيخوخة. هناك الشباب، وهناك الموت. أما الشيخوخة فلا وجود لها الاّ لدى الذين يضعفون أمامها”. صمت قليلا، ثم أضاف ضاحكا :” عندما يسألني الناس عن سني، أقول لهم أنا رجل بأعوام كثيرة”.

عن ا الجانب الوجودي في رواياته قال مورافيا: ” كنت وجوديّا منذ البداية وخاصة عندما كتبت روايتي الأولى: ”اللامبالون”. وأعتقد أن دستويفسكي هو أول روائي وجودي في العالم. فقد كانت القضية الأساسية التي اهتمّ بها الروائيون في القرن التاسع عشر مثل تولستوي، وبالزاك، وديكنز هي علاقة الفرد بالمجتمع. أمّا دستويفسكي فقد طرح في روايته الشهيرة “الجريمة والعقاب” قضيّة علاقة الفرد بذاته. وأنا اهتممت في جميع أعمالي بالذات، وبأوجاعها، وبصراعها مع نفسها. لهذا أرى أنني وجودي قبل سارتر وكامو”.

أضاف مورافيا قائلا بإنّ حياته “عادية مثل جميع الناس، لكنها فوضوية أيضا”. والعنصر الوحيد الدائم والمتواصل فيها هو الكتابة. لذا هو يشعر دائما بأن “الأدب هو حياته”. وهو يعتقد أن الشخصيات الكبيرة التي تصنع التاريخ عادة ما تسبّب للناس والمجتمعات خيبات مرّة خصوصا بعد أن يتمّ التعرف عليها مباشرة. وكذلك المشاهير من الأدباء. ومر ة التقى بالشاعر الكبير تي.آس.اليوت الذي كان يكنّ له إعجابا كبيرا. وقد انتهى لقاؤه به بخيبة شديدة إذ أنه وجده شخصا “باردا، يكاد يكون فاقدا لأي عاطفة انسانية”. وأضاف مورافيا قائلا : ”التعرف على الشعراء عادة ما يترك في النفس خيبة مرة. أوضّح ذلك بسرعة: عندما يكتب الشاعر قصيدته لا يكون وحيدا بل يكون برفقة شيطان الشعر. وحالما ينتهي من كتابة قصيدته يجد نفسه وحيدا. والشخص الوحيد عادة ما يكون بائسا وثقيلا. وكان اوجينو مونتالي شاعرا كبيرا. بل باستطاعتي أن أقول بإنه أكبر شاعر ايطالي في النصف الأول من القرن العشرين. غير أنه كان شخصا عاديا للغاية. وكان يبدو شبيها بموظف مصرفي. وأعتقد أنه كان يحرص على أن يبدو كذلك !”

في نهاية الحوار، قال لي موارافيا إنه يعشق النساء، ولا يرى للحياة معنى من دونهن… غير أن لا يجري وراءهن، ولا يلاحقهن. وأما الجمال فهو بالنسبة اليه واحد من اهمّ عناصر الحياة “، إلاّ أنه يعتقد أنه -أي الجمال-يكمن في أشياء، وفي كائنات كثيرة يعتبرها البعض “قبيحة وبشعة”.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *