“باب الحيرة” أم غواية الكشـف ؟

(ثقافات)

باب الحيرة أم غواية الكشف؟

حضور صوفي طاغ .. ولغة شعرية عالية .. واستدراج اللامحدود من الأسئلة

د. آمنة النصيري

في روايته الأولى (باب الحيرة)(*) يقدم الكاتب الأردني (يحيى القيسي) نصاً سردياً يتحايث فيه الصوفي بالمعرفي من خلال رحلة الشاب (قيس) إلى تونس لغرض بحثي يعتمد على دراسة بعض المخطوطات القديمة التي تزخر بها مكتبات المدينة العريقة (تونس).. وفي أثناء عملية البحث تقع يد الشاب على المخطوط الذي يتحول إلى محور أساسي لكل أحداث الرواية.

في مطلع هذا العمل يشرع الكاتب في سرد تأملات للبطل تنم عن قلقه وحيرته تجاه المخطوط في ذاك الكتاب الذي عثر عليه دونما قصد مسبق.. إلا أن إشارات لاحقة تدل على قدرية أحاطت بهذا الأمر، ولأن البطل هو السارد، فإنه يتحرك بالقارئ داخل أحداث وسياقات متنوعة لا تحكمها تراتبية الأحداث،وإنما حالات وتبدلات متعلقة بالراوي – البطل.. الذي يتحرر من علائق الواقع والمنطق فيقوم هو بدوره بسرد مواقف وتداعيات كثيرة، يمكن أن تُقرأ كلاً على حدة، لكنها في محصلتها تنتظم في نسق يصِلها ببعضها، فمن توصيفه حالة التيه التي يعانيها في مستهل الرواية “فقد أوشكت على شفا الهلاك، من قوة الأسرار.. وضعف البدن وتشتت النفس.. ومالي طاقةٌ غير البوح عبر خط هذه الأوراق حتى أتخفف من ثقل الأحمال عسى يأتي يوم بعد مفارقتي لهذه الحال فيقرأها أحدٌ ما، فيضيف إليها أو ينقص كما يشاء.. ويستعيد معها روحي الهائمة التي تشظت فيما خططت من الحروف” يتجه إلى تبرير فعل الكتابة.. وبالتالي تبرير هذا البوح والاندياحات بصورتها التي جاءت عليها.

(قيس) الشخصية المحورية في الرواية، ذلك الباحث المستغرق في أسئلة وجودية ذات صلة بشغفه بموضوعات المخطوطات التي يأمل أن تعينه على فهم أسرار الوجود، ينتمي إلى جيل عايش الهزائم والانتكاسات السياسية العربية ورأى كيف تحولت الحكومات الوطنية إلى منظومات قمعية كما عايش فترات سقوط وتراجع الجيوش العربية.. أمام إسرائيل التي اجتاحت فلسطين ثم تجاوزتها لتشمل هيمنتها أجزاء أخرى من الأراضي العربية..

وهو يصف كيف كان يتابع بعيني الطفل من سهول (حوران) عملية توسع العدو في الضفة المقابلة، وعلى الحدود وفي المقابل حركة النزوح الفلسطينية نحو أمكنة مختلفة.. يحاول أن يوضح كم كان مفجعاً وغريباً هذا التبدل في مصير المنطقة فالبلاد كانت تتسرب من بين الأصابع مثل قطرات الماء حسب تعبيره.

هكذا هو البطل في هذا النص.. شاهد على إخفاقات أمته وانكساراتها، كذا نجده في أكثر من موقف يُعيد النظر في عموم قناعاته الماضية التي تكونت بتأثير من الفكر القومي وأيديالوجيا اليسار.. لكنه في شكه تجاه معتقداته الفكرية وتحوله عن تلك المرجعيات لا يتلمس قناعات جديدة من المنظومات المعاصرة.. ذلك لأنه لم يعد معنياً بالخارج الراهن، بقدر انشغاله بذاته القلقة، التي فقدت الثقة بكل الطروحات والنظريات التي فشلت في توقع مسارات حركة التاريخ، مثلما فشلت في إنقاذ العالم من الانهيارات السياسية الكبرى.

هذا يفسر الارتباك الداخلي الذي يعصف بروحه ويدفعه إلى بحث في حقيقة الكون والأشياء، وإمكانات التجلي والانكشاف بهدف أن يجد ذاته في كل هذا. وما إن يعثر على مخطوطه النادر بما يحتويه من موضوعات متشابكة.. حتى نكتشف أن سر انشداده إليه يكمن في روحه المسكونه بهاجسب التساؤلات الميتافيزيقية، وبفكرة الحقيقة في مستوياتها المجردة، إذ أن الاصطدام بحقائق الواقع القاسية قد ولّد رغبة في التوصل إلى معرفة أجلّ عبر حدس الرؤية، والمكابدة في سبيل أن تتقد المخيلة بنور معرفي فوق واقعي، فموضوع بحث البطل يمثل تعبيراً عن نزوع صوفي عقائدي، يتسق مع ذاته المهجوسة بلغز الذات والوجود فثمة وجهان لرحلة البحث هذه.. لكنهما ليسا نقيضان حيث أن المعرفي المتمثل في نصوص المخطوطة هو في الوقت ذاته شديد الاتساق مع النوايا الداخلية – الذاتية، بغض النظر عن أي أغراض أخرى للبطل – الباحث أو الدارس.

كما أن قيام الباحث برحلته الدراسية هنا فيه مقاربة لمفهوم الرحلة الصوفية التي تمثل تجربة الروح وانتقالاتها (المجازية) بحثاً عن فيوض نور الحق، ولهذا لقب كل من شرع في هذه التجربة بالسالك.

أما الكتاب الذي أُسْتُدرِجَ إليه الباحث والمتمثل في مخطوط قديم، فإن كاتب الرواية يحيطه بالغموض والسحرية.. حتى استغلق الأمر علينا، تماماً مثلما حدث مع السارد.. فهذا الأخير يكشف حيرته تجاه اسم المخطوط وصاحبه عندما يذكر أنه لم يعرف له اسماً قط “فمرة قرأت على غلافه اسم (الزمردة في الزندقة) ومرة …. وخيل إلي أيضاً أنه.. ولوجه الحقيقة لست متأكداً من شيء في كل ماذ كرت، فقد ظهر لي أنه خلطة عجيبة أنجزها نساخ ماهر… ولكني حفظت اسم ذلك الرجل المنسوب إليه تأليفه أكثر من غيره وهو (أحمد بن إسحاق الراوندي) ثم في أجزاء مختلفة من الرواية يورد مقاطع كاملة مجتزأة من نصوص قديمة ،معظمها مختارة من كتابات ومقولات الصوفية.

بيد أن توظيف هذه المقتطفات لم يكن فيه إقحام فج أو تذاكي من قبل الراوي – بطل الرواية، بحيث تشكل المقاطع المنتقاة ثقلاً على السياق.. فقد اشتبكت المقولات المستعارة مع لغة ومقاطع الكاتب نفسه.. حتى أصبحت من نسيج العمل.. هذا لأن (يحيى القيسي) جعل بطله يتمثل في كل تأملاته مفردات صوفية واسترسل بذات اللغة في توصيف شتى المواقف والتبدلات التي تمر به أو تتراءى له.

من جهة أخرى أوجد الكاتب مبررات متعددة لانثيال تلك الصفحات المستعارة، فثمة باحث مفتون بالمخطوط.. يلاحق صفحاته،وفي كل قراءة يحيلنا إلى كشف جديد يكون قد هيأنا لانتظاره، هكذا تروي النصوص التي يجتزأها بعض فضولنا ويصير وجودها ضرورة في سياق الرواية.

وبالنسبة للكاتب لابد أن هذا التضايف بما يشكله من إثراء للعمل هو أيضاً يكثف من الدلالات ويوسع مساحات الرؤى ويكرس المعاني والإشارات المتضمنة في الرواية.

ومن بين السمات التي تميزت بها الرواية شكل التناوب المستمر بين المادي والمجرد.. فما أن يمر موقف ذي علاقة بالمحسوس وبالحياة في اعتياديتها، حتى تحدث انتقالة إلى مستوى تأملي.. أو استغراق صوفي.. حالة التبادل هذه تقوض البناء التقليدي في فن الرواية، وتفتح للمتلقي أفقاً جديداً يتجاوز فضاءات التوقع.. هذا ينسحب أيضاً على علاقته بالمرأة التي لم تكن خارجة عن إطار تجربته الصوفية .. فهي كما يسردها تبدأ من تفاصيل واقعية لكنها تتحول إلى ابعد من ارتباط عاطفي بين شاب وفتاة معاصرين.. فصديقته الأولى (هاديا) التي عرفها في تونس تبدو في توصيفه فتاة شبيهة بكثير من الفتيات العربيات المثقفات اللواتي يعشن وضعاً مُركباً داخل مجتمعاتهن التقليدية.. إذ يصعب عليهن التملص من قوانين تلك المجتمعات ، فيبقين شكلياً ضمن السياق التقليدي، وفي ذات الوقت يمتلكن فكراً ورؤى يمنحهن حالة من الاستقلال الداخلي والغربة الإراديةعن الخارج.. هكذا كانت صورة (سعيدة) مألوفة، إلا أن اعترافات (قيس) حول طبيعة (الحب) الذي جمعهما وتعبيره عن الحالة العاطفية التي مر بها جعل التجربة شكلاً من الاستغراق الصوفي.

وفي علاقته العاطفية الثانية،وظهور حبيبة أخرى هي (هاديا) التي صادفها في ذات الرحلة يتضح أكثر كيف تتصاعد العلاقة من المستوى الحسي إلى مقامات الروح وتستحيل مواقف الحب بينهما إلى طقوس صوفية صرفة بل ويكون وجود (هاديا) جزء من تجربته الميتافيزيقية، حتى أن وجودها يذكر باستعارات – صوفية سابقة حولت المرأة إلى رمز أساسي في تجربة الصوفي، ولعل في وصف (قيس) للفتاة إشارة واضحة إلى ترميز صورتها، إنها أكثر من مجرد وجود واقعي- فعلي، فهي الشابة العصرية طالبة الجامعة.. لكنها كما يصف سليلة الأولياء،وهي كيان مُتبدل فتارةً يراها ويلتقيها مثل وجود بشري عادي.. وتارةً تتمثل له أو تخترق الحُجُب .. حتى أنها في نهاية التجربة هي من يقوده إلى مقامات وأبواب المعرفة بمسمياتها المتعددة..

إن توصيفه لها يزيد من غموض صورتها.. وكلما حدثنا عنها تباعد وجودها.. فتصبح أقرب إلى كائن متخيل يتوسل به في (نوباته) الروحية ومكابداته على عتبات الكشف..

مع نهاية تجربته وفي نوبة جذب صوفية أو ربما انخطاف تتراءى له أبواب المعرفة والعلم وهي تسعة وتسعين باباً يلجها واحداً واحداً.. لكنه في داخل الباب المائة يفقد كل ما علمه وينسى كل شيء رآه..وها هو يقول:

فهتف بي صوت:

أمرٌ كان محبتي لك

وأمر يكون تراني

وأمر لا يكون لا تعرفني معرفة أبداً

 

وتنتهي الرواية باعتراف البطل:

ولكن أي غفران

يُرتجى لي بعد كل ما رأيتُ وعرفت

وضللت ونسيت ..!!!

هكذا كان الباب المائة هو (باب الحيرة) .. الذي أوقفنا عنده الكاتب في حالة من الدهشة.

ورحلة البطل في هذه السردية هي رحلة قديمة، لأنها ذات المحاولة الدائمة للكشف عن سر الوجود.. بيد أنها تبقى موضوعاً مشروعاً للكتابة وقابلة في كل مرة لطرح ورؤية جديدين وهذا ما نجح فيه (يحيى القيسي).. فقدم صياغة روائية معاصرة تتعدى السردية النمطية نحو المشروع الفلسفي الفكري الثري في محتواه المعرفي إلى جانب كونه عملاً فنياً.

2007

* فنانة وناقدة تشكيلية يمنية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *