زهور أمل دنقل.. عندما يصبح الألم مرادفًا للإبداع

(ثقافات)

زهور أمل دنقل.. عندما يصبح الألم مرادفًا للإبداع

سمية عبدالمنعم

مثلما عاش منتصرًا لمبدأ الرفض الذي كان منطلق فلسفته ومبادئه، واجه أمل دنقل وحش المرض بالمبدأ ذاته، حتى وإن خفت صوت الرفض وانزاح إلى مستويات أخرى أقل ضجة، تناسبت وذاك الضعف الجسدي الذي غزاه، إلا أن قوة التشبث بالشعر كسلاح أمضى في مواجهة الموت، القهر، الرياء، فرضت نفسها وأطلت علينا من بين إصرار قلمه وروحه على أن تتجلى في فن الشعر، حتى اللحظات الأخيرة، حتى وهو يرقد منهكًا في تلك الغرفة “٨”، بالمعهد القومي للأورام، والتي استضافته عامًا ونصف العام قبل أن يغادر دنقل دنيانا، لم يستسلم خلالها لمرض غادر، ويهجر الشعر، رغم شعوره بدنو أجله، بل اختار الشعر رفيقًا أخيرًا في مشوار أثقلته الآلام.

يضرب لنا أمل دنقل عبر خمس قصائد أخيرة، خطها أثناء مرضه على علب الثقاب وهوامش الصحف_وضمها ديوانه الأخير “أوراق الغرفة 8” الذي أصدرته زوجته عبلة الرويني بعد وفاته_ أقوى مثل بأن الإبداع أسمى وأوفى رفيق للمبدع، إذا تخلى عنه الرفاق فلن يفعلها الإبداع، بل يظل ملازمًا لقلمه وروحه حتى الرمق الأخير.

من هنا كانت قصائد ديوانه تنضح شعورًا خفيًّا بدنو الأجل، فما بين اجترار ذكريات الطفولة كأنيس وفيّ لعزلة مرضه، واستدعاء لوجوه رفقاء الحياة، ممن غادروها، كأبيه وأخته، وبعض الأصدقاء، وتذكر هؤلاء البسطاء الذين غادرتهم الحياة وهم يكابدون عناءها، يتجلى الشعور باقتراب الموت، لكنه مع أمل دنقل لم يكن شعور اليائس المنتظر، بل المقاوم الرافض المعترض، مهما أصاب المرض قوة الاعتراض وجعل صوته همسًا، إنه الشعر، وحده القادر على خلق حياة موازية، وأمل موازٍ.

ومن بين تلك القصائد الخمس كانت قصيدته “زهور”، التي افتتح بها تجليه الإبداعي في تلك الغرفة، والتي يبدو عبرها رفض واضح لكل ما هو منافق مرائي، فقد امتلأت غرفته بباقات زهور أرسلها أصحابها نيابة عنهم، ظانين أنهم بذلك قد فعلوا ما بوسعهم تجاهه، إلا أن طبيعة أمل الرافضة والمعترضة على كل ما ليس حقيقيًّا، أبت السكوت، فعبّر خلال قصيدته “زهور”، عما يجيش بصدره، متخذًا من تلك الزهور مرآة لحالته، إذ تتضح من خلالها حالته النفسية جراء مرضه وجراء ردة فعل من حوله.

فنراه يستهل القصيدة بقوله:

وسلال من الورود ألمحها

بين إغفاءة وإفاقة

وعلى كل باقة

اسم حاملها في بطاقة

يبدأ أمل قصيدته بالتلميح لحالته الصحية التي كان عليها، من تدهور، وهو ما يشير إليه تعبيره “بين إغفاءة وإفاقة”، فقد كان لا يكاد يشعر بما حوله حتى تداهمه إغفاءة مفاجئة، وهو الأمر نفسه الذي تؤكده جملة “ألمحها”، إذ ارتكن الشاعر هنا إلى تلك العلاقة الاستبدالية، فجاء استخدامه مفردة “ألمحها” بديلا عن مفردات مماثلة مثل “أراها، أبصرها”، لإيراد معنى بعينه،  فهو لا يستطيع رؤيتها بوضوح، بل يلمحها، رغم قربها ووجودها في ذات الغرفة، كمن يلمح شيئًا على البعد، دليل على وهن نظره.

وهو هنا يحيلنا لذاته التي تتبدى منذ السطر الأول، فاستخدامه ضمير المتكلم المستتر في جملة “ألمحها”، إنما يضعه كمراقب له علاقة وطيدة بما يحدث، بين ثلاثة فواعل يقوم عليها بنيان النص؛ فاعل قصدي وهم المنتكهون ومن اشتروا الزهور، وآخر غير قصدي وهو الزهور، والفاعل المراقب، وهو الشاعر ذاته.

بينما تنم مفردة “سلال”، وهي جمع كثرة على وزن “فِعال” على كثرة تلك الباقات، وكثرة من تخلوا عنه في محنته واكتفوا بتلك الزهور، التي جاءت لا تحمل من مرسلها سوى اسمه الممهور في بطاقة، ونلحظ تنكيره لكلمة “بطاقة”، دليل على تحقير فعل مرسلها.

فيما يفاجئنا أمل بنظرته إلى تلك الورود، فهي لم تقم برسالتها التي أرسلت من أجلها، والتي ترسل الورود عامة للمرضى من أجلها، فلا هي بعثت داخله الأمل ولا أصابته بالسرور ولا هونت عليه آلامه، بل على العكس تماما، فقد استحالت سببًا في تذكيره بالموت والاغتيال ودليل حسرة وخيبة أمل، وهو ما يبدو في قوله:

تتحدث لي الزهرات الجميلة

أن أعينها اتسعت دهشة

لحظة القطف

لحظة القصف

لحظة إعدامها في الخميلة

في تلك السطور يتأكد شعور داخَلنا بلحظة التماهي التي أصابت الشاعر مع الورود، فكلاهما يعاني مداهمة الموت ومحاولة مقاومته، فمثلما أصابها ذهول القطف “القتل”، أصابته خيبة أمل فيمن حوله، وكأنهم بتخليهم عنه قد غدروا به و”قطفوه” من شجرة اعتزازه بهم.

فيما تأتي مفردتا “القصف، إعدام” تأكيدًا لقسوة الغدر، ولعل كلمة “الخميلة” تؤكد ذلك الغدر وتلك المداهمة، التي حرمت الورود من حياتها الطبيعية لتتحول إلى هدية، من المفترض أنها تمنح أملا في الحياة.

وهي مفارقة استطاع الشاعر بفلسفته المعتادة أن يبثنا إياها، ويجبرنا على الوقوف حد معناها.

كما يتأكد لنا ذلك التماهي مع حال الورود، عندما يكرر مفردة “تتحدث”، وكأنها تشكو لها حالها، الذي لا يختلف كثيرا عن حاله، فيقول:

تتحدث لي

أنها سقطت من على عرشها بالبساتين

ثم أفاقت على عرضها في زجاج الدكاكين

أو بين أيدي المنادين

حتى اشترتها اليد المتفضلة العابرة

تتحدث لي

كيف جاءت إليّ

وأحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر

تتمنى لي العمر

وهي تجود بأنفاسها الأخيرة.

السقوط من عرش الحياة إلى هوة المرض والموت، هو أقسى سقوط قد يعانيه مبدع في أوج عطائه الإبداعي وأوج شبابه، وهو ذاته السقوط الذي أصاب زهوره من عرش حياتها بالحدائق، لتتحول إلى سلعة تعرض في واجهات الدكاكين وبين أيدي بائعي الورود في الميادين

ثم ها هي سيقت إلى يد “متفضلة” عابرة، أرسلتها إليه.

وفي استكمال للمفارقة، نرى الورود التي يكتنفها الحزن على ما آلت إليه، رغم حزنها هذا، فهي تتمنى له طول العمر، تفعلها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.

في إشارة إلى جود العطاء ونبل الضحية، التي تتمنى العمر لمن يعاني مثلها الموت، وهي في أشد لحظات الموت حضورًا، وهو نبل المبدع ذاته الذي لازمه طيلة حياته.

فيما يأتي استخدامه لمفردة “السقوط”، دليل العجز والوهن، والمفاجأة، كسقوط الجسد جراء المرض، وهو ما حدث مع الشاعر، فرغم قضائه أربع سنوات كاملة يعاني فيها المرض اللعين، إلا أن تدهور حالته كان مفاجئًا مريرًا.

وجاء لفظا “عرشها_ الملكية”، متسقين مع حياة الأزدهار والألق والإباء التي عاشتها “الورود_ الشاعر” قبل أن يسقطا في أيدي المرض.

وتوحي  “حتى اشترتها اليد المتفضلة العابرة”، بمدى الحسرة والألم الممتزجين بنبرة سخرية لاذعة، والتي يشعر بها الشاعر، تجاه إرسال تلك الورود ومرسلها.

وهو ما تؤكده لفظة “المتفضلة”، والتي لم تحرك ساكنًا تجاه أزمته الصحية واكتفت بإرسال باقة ورود “تفضلا”.

أما مفردة “العابرة” فتبدي أن حتى إرسال تلك الورود لم يكن سوى فعل روتيني آلي، يفعله الغير تجاه غرباء لا يعنونه كثيرًا، فقط هو فعل مظهري لا يكاد يتخطى حدود المظهرية.

أما لفظ “خضر”، فهو كناية عن الشباب، حيث قطفت الزهور في أوجِّه، مثلما يصارع الشاعر الموت في أوج شبابه.

كل باقة

بين إغماءة وإفاقة

تتنفس مثلي بالكاد.. ثانية ثانية

وعلى صدرها حملت راضية

اسم قاتلها في بطاقة

يختتم أمل دنقل قصيدته بفقرة يصل فيها الألم حده، ويتبدى فيها تماهيه مع الورود، فقد صارت مثله تصارع الموت بين الإغماء والإفاقة، تتنفس “مثله” بالكاد، في وصف رغم قسوته إلا أنه يبدو بليغًا مكثفًا، وكأنك ترى مشهدين كليهما واحد، فلا تكاد ترفع عينيك عن إغماءة الورود حتى تواجهك إغماءة الشاعر، ولا تكاد تراقب ضعف تنفسه حتى يجابهك احتضار الورود، التي حملت اسم قاتلها ورحلت بتلك البطاقة إلى عالمها الآخر.

وهنا يتحول التماهي إلى ما يشبه الاتحاد بين الورود والشاعر، نرى ذلك في استخدامه مفردات “مثلي_ إغماءة وإفاقة_ بالكاد”.

بينما توحي مفردة “راضية”، باستسلامها مجبرة لمصيرها، وعدم قدرتها على التمرد، وهو ما قد يؤول إليه من يغتاله المرض اللعين، إلا أن رضا الشاعر هنا ليس استسلامًا لبشر بل استسلام لقدر، لكنه ممزوج بالقدرة على التفلسف والعطاء.

* اللغة:

استخدم الشاعر في قصيدته مفردات سهلة بسيطة، ربما جاءت تعبيرًا عما يعتري ذهنه من ضعف، أو اتساقًا مع الجو العام للقصيدة، والألم النفسي والجسدي الذي يشعر به، والذي لا يتيح رفاهية اختيار مفردات مثقلة، ورغم ذلك فقد أدت كل مفردة مهمتها على أكمل وجه.

وحملت لغته بعدًا وعمقًا وتفلسفًا ومعاني رحبة.

فيما اهتم الشاعر بإيراد صوت “القاف”، في أكثر من موضع “بطاقة_ قطفها_ قصفها- إفاقة- أعناقها- سقطت_ قاتلها” ربما لما يحمله من موسيقى داخلية، وما توحي مفرداته بقسوة الفعل.

*معجم ألفاظ القصيدة:

رغم انتمائها للشعر الذاتي “المدرسة الرومانسية”، واحتوائها على مفردات بسيطة تتوازى وتلك المدرسة،

مثل مفردات الطبيعة بدءًا من العنوان “زهور”، و “الورود_ الخميلة_ الخضر”، إلا أن أمل قد أورد بعض الألفاظ من المعجم السياسي أو معجم المقاومة الذي نهل منه طويلا على طول مشواره الإبداعي، فنلحظ مثلا مفردات مثل:

” القصف_ قاتل_ إعدامها_ عرشها_ الملكية”.

*التفعيلة:

رغم انتماء أمل دنقل لشعر التفعيلة، إلا أننا نلحظ هنا اضطراب استخدامه للتفعيلة، وعدم اعتماده أو حتى تنوعه بين أكثر من تفعيلة، فجاء استخدامه وزن المتدارك، وتفعيلته “فاعلن”، “فعلن”، مضطربًا غير منتظم.

وربما كان سبب ذلك أيضا حالة الشاعر الجسدية والنفسية غير المستقرة.

بينما اختار هنا أن تقوم الموسيقى الداخلية وإيقاع الروي في بعض السطور مقام التفعيلة:

” إغماءة وإفاقة_ لحظة القطف لحظة القصف”

تنوع الروي بين “الهاء، والفاء، والنون، والراء”، إلا أنه قد غلب استخدام روي حرف “الهاء”، ذلك الحرف الحلقي الذي يوحي بصعوبة التنفس، وهو ما يتناسب وذلك الجو المشبع بالألم، والمرض، الغالب على سطور القصيدة.

نهاية فإن شاعرًا مختلفًا مثل أمل دنقل اتخذ من إبداعه سلاحًا وأملًا وخبزًا، رافقه حتى النفس الأخير، لهو شاعر يهبنا في كل سطر معنى جديدًا، يمكننا اكتشافه إذا ما أمعنا النظر والبحث والنقد فيما خلّف من إبداع.

* عن مجلة أدب ونقد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *