إطلالة على أعمال أمل دنقل


*رائد وحش
تبدو الذكرى الحادية والثلاثين لوفاة أمل دنقل (1940- 1983) فرصة لاستعادة تجربة هذا الشاعر الذي ترك أثراً عميقاً في الشعرية العربية المعاصرة رغم رحيله المبكر. ولعل الاستعادة الحقيقية قراءة أعماله الشعرية الستة.


البكاء بين يدي زرقاء اليمامة

سمّى دنقل ديوانه الأول باسم القصيدة التي كتبها بعد هزيمة حزيران 1967، وصدر الكتاب عام 1969. “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” قصيدة يسردها متكلم يبدو لنا أنه جندي ممن شهدوا هذه الحرب، لكنّ الشاعر يمنحه صفات إضافية تجعلنا أمام شخصية عنترة بن شداد، العبد المذموم الذي لا يتذكره قومه إلا وقت الشدّة، في محاولة للتعبير عن الشعب العربي الذي أهملته السلطات، وحين حمي الوطيس وأحست بالخطر، راحت تناشده بأن يقاتل.
هذا الـ”عنترة” يدلي بإفادته باكياً أمام “زرقاء اليمامة”، بينما تمثّل هذه الـ”زرقاء” صوت العقل الذي كان يدرك حجم الخطر الصهيوني، لكن أدى التقاعس إلى عدم التحضير للحظة المواجهة الحاسمة فكانت الهزيمة نتيجة طبيعية.
بعدما نشرها أصبحت القصيدة على كل لسان، نظراً إلى جرأتها في نقد السياسات التي قادت إلى الهزيمة. ومن جهة أخرى، كانت علامة فارقة في الأدب الذي سُمي آنذاك بـ”أدب حزيران”، لأنها جعلت منه أدب مقاومة ونقد، مقاومة لكل اعتداء من الخارج، ونقد لكل خطأ من الداخل.
هذا عن القصيدة ذائعة الصيت، لكن ماذا عن قصائد الديوان الأخرى؟ في الواقع، تنهض جميعها في المناخ الوجداني نفسه، المناخ الحزين والكئيب الذي خلفته الهزيمة. في قصيدة “كلمات سبارتكوس الأخيرة”، يتحد الشاعر بقائد ثورة العبيد في روما، ويدعو إلى الثورة ضد الطغيان والعبودية، من أجل أن تبقى للناس كرامة وكبرياء. ورغم قيام القيصر الروماني الأكبر بصلب العبد الثائر، إلا أن ثورته كانت السبب في زرع الشجاعة في العبيد وتحفيزهم للمواجهة، لأن من يقول “لا” ستكتب له الأبدية، أما من يرضى بهوانه وذله فلن يجد مكاناً سوى مكبّ النسيان.
“البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” هي المجموعة الثانية من حيث الكتابة، لكنها الأولى من حيث النشر. وفيها اتّضحت ملامح شعرية دنقل بوصفه شاعر رفض ومنشد عصيان وثّورة.
تعليق على ما حدث
صدرت هذه المجموعة عام 1971، وغالبيّة قصائدها مكتوبة، حسب التواريخ التي ذُيّلت بها، بين عامي 1969 و1970، أي أنها لم تتخلّص بعد من كابوس النّكسة، كما أنّ عنوان المجموعة ليس إلا اختصاراً لعنوان قصيدة اسمها “تعليق على ما حدث في مخيّم الوحدات”، ما يعني أن تأثير مجزرة “أيلول الأسود” سينيخ ثقله أيضاً.
مناخ من الإحباط القومي من خلال متكلم واحد هو الشاعر نفسه. ولعل الحضور الكثيف لهذا المتكلّم، السارد، يمكّننا من رسم صورة واضحة لإنسان تلك الفترة، فنراه شخصاً هامشيّاً، غاضباً، مليئاً بالسخط، عاجزاً تماماً عن الفعل، لكنه يعي حجم الخراب، وبوعيه يعرّي الواقع المهزوم.
القصائد مشاهد يومية للشوارع والمدينة التي تفوح منها رائحة الهزيمة. وعجز السارد عن الفعل يبرر اتحاده بشخصية مفعمة بالقوة والانتصارات مثل شخصية القائد خالد بن الوليد في “الموت في الفراش”. إذا كان ابن الوليد قد تحسّر على طريقة موته في عبارته الشهيرة، فإن فعل التفرج والعجز الراهن هو موت في الفراش أيضاً.
وأبرز ما يميّز “تعليق على ما حدث” يتأتى مما تنطوي عليه القصيدة من فكر وتأمل واقعي “مبني على مستوى من التجربة والتفاعل الذاتي”، وعلى “دمج الفكر السياسي بالمادة اليومية”، وتخفيف “النبرة العاطفية للقصيدة”.
مقتل القمر
خص الشاعر مدينة الإسكندرية بمجموعته الثالثة “مقتل القمر”، ويمكن القول إنها استعادة لذكرياته في المدينة. هذا ما يخبرنا به إهداء المجموعة: “إلى الإسكندرية.. سنوات الصبا”، فقد عاش دنقل فترة من شبابه فيها، وظلّت هذه المدينة حاضرة في شعره على الدوام. لكنّ صورتها التي رسمها في “مقتل القمر” تختلف كثيراً عن صورتها في مجموعاته اللاحقة نظراً إلى التحوّل الجذري الذي سيطرأ على شخصيته وشعره.
لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه المجموعة هي الأولى من حيث الكتابة، لكنها الثالثة من حيث النشر، وربما يعود ذلك إلى أن دنقل الذي تفتحت شعريته في زمن النكسة، لم يجد الوقت مواتياً لنشر قصائده الرومانسية هذه، لذا أجّلها حتى “النصر” في عام 1973، لأن حرب تشرين/أكتوبر جعلته يلتفت إلى شؤونه الفردية في الشعر، فقام بنشر قصائد بداياته. وفي الحقيقة لا يخفى على أحد أن النضج الفني الذي ظهر في “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” و”تعليق على ما حدث” لا يقارن بمستوى هذه المجموعة الحالمة التي لا يزال فيها واقعاً تحت تأثير شعرائه المفضلين، خصوصاً صلاح عبد الصبور في مجموعته “الناس في بلادي”، وأحمد عبد المعطي حجازي في مجموعته “مدينة بلا قلب”.
العهد الآتي
“العهد الآتي” هو العهد المستقبلي، وبالنسبة لدنقل لن يكون هذا العهد إلا عهد الإنسان الحرّ، في عالم عادل يصون القيم والأحلام.
كتب الشاعر قصائد هذا الديوان بعد أن رأى ضحايا حرب تشرين في العام 1973، وانتقال السياسات الساداتية إلى اليمينية، ابتداء من سنة 1972 التي شهدت انتفاضة الطلاب اليساريين والناصريين ضد الظلم الذي تمارسه أجهزة النظام الذي بدأ يحيد عن الخط الوطني. لذا تنطلق القصائد من الاحتجاج على كل ما حدث في مصر بعد رحيل الرئيس عبد الناصر، من دخول في تحالف مع المحور النفطي، وتقوية التيارات الدينية المتطرفة، وازدياد ثروات القلة المتنفذة على حساب الأغلبية التي لا تجد الطعام، وكذلك تزايد سطوة الأمن التي لم تتوقف عن مطاردة المثقفين؛ هذه الأشياء مجتمعةً دفعت الشاعر إلى إدانة العهد القائم، والرغبة في استبداله بعهد آخر، عهد الإنسانية والعدل، مستلهماً في ذلك كلمات السيد المسيح التي وضعها في بداية الكتاب كمفتتح لما يريده: “مملكتي ليست من هذا العالم”.
فكرة كتابة “العهد الآتي” تحيلنا إلى البعد المقدّس للشعر عند “أمير شعراء الرفض”. فإذا كان الكتاب المقدّس يتكوّن من “العهد القديم” و”العهد الجديد”، فإن “العهد الآتي”، المكتوب شعراً، هو عهد الحرية. إنه العهد الدنيويّ مقابل العهد الديني، بمعنى العهد الذي سيصنعه البشر على الأرض متحدّين كل أشكال الاستبداد والهيمنة والاستغلال.
استعار الشاعر مفاتيح الكتاب المقدّس في العناوين: “سفر التكوين”، “سفر الخروج”، “المزامير”.. وفي تقسيم القصائد إلى “إصحاحات”، بالإضافة إلى استحضار اللغة الدينية في الصلوات والأدعية، لكنه لم يستسلم لشكلها المعروف، بل راح يضيف إليها، ويحوّر فيها، بحيث تغدو ملائمة لغاياته. والعملية برمتها تسمى عند أهل الأدب بـ”المعارضة”.. ففي معارضته لنص “سفر التكوين” التوراتي الذي يتحدث عن الخلق معلقاً على كل مرحلة بالآتي: “ورأى الرب أنّ ذلك حسن”، ستتحور العبارة في “سفر التكوين الدنقلي” لتصبح: “ورأى الرب ذلك غير حسن”!!
وفي قصيدة “صلاة” نشاهد اللعبة ذاتها. فالصلاة التي تقول: “أبانا الذي في السماوات”، ستتحوّل إلى “أبانا الذي في المباحث”.. في لغة تهكمية فريدة، تجعل من القوة القمعية الأمنية مطلقة الشرّ.

أقوال جديدة عن حرب البسوس
“لا تصالح” هي أشهر قصائد أمل دنقل على الإطلاق، وقد اكتسبت شهرتها لأنها كُتِبت في تشرين الثاني 1976، أي قبل اتفاقية “كامب ديفيد” التي خرجت مصر بموجبها من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي.
وتاريخ كتابة هذه القصيدة يؤكّد لنا حس النبوءة العالي الذي تمتع به صاحب “أوراق الغرفة 8”. ولكي لا نبالغ في وضع الشاعر بمقام العرافّ، فلننظرْ إليها كمسألة وعي ثاقب وقدرة على الرؤية الواضحة للخارطة السياسية في المنطقة، وأيضاً كتجسيد لإحساس الشعب العربي بخطر هذا النوع من الحكّام. ويمكن هنا أن نستضيء بكلام الشاعر نفسه، كما عبّر عن الأمر في مقابلة صحفية: “الشاعر يستطيع أن يتنبأ، ولكنه ليس تنبؤاً، وإنما هو درجة من الوعي بالواقع الذي يحدث حواليه، بمعنى أن الشاعر يملك من الوعي بالواقع والالتصاق به ما يمكنه من أن يحس باتجاه الأشياء الأحداث، وليس عن طريق العرافة والكهانة كما يريد بعض الشعراء أن يضفوه على أنفسهم”.
قام دنقل باستحضار شخصيات “حرب البسوس” التي قامت بين أبناء العمومة واستمرت أربعين سنة، بسبب مقتل الملك كليب على يد جساس. وكون العنوان يصرّح بأنها “أقوال جديدة”، فهذا يعني بأنّه يسقط أحداث تلك الحرب على أحداث هذا العصر. ويعلق دنقل على مجموعته “حرب البسوس” في مجلة “آفاق عربية” (1981) قائلاً: “حاولت أن أقدم في هذه المجموعة حرب البسوس التي استمرت أربعين عاماً عن طريق رؤيا معاصرة، وقد حاولت أن أجعل من كليب رمزاً للمجد العربي القتيل، أو للأرض العربية السليبة، التي تريد أن تعود إلى الحياة مرة أخرى، ولا نرى سبيلاً لعودتها، أو بالأحرى لإعادتها إلا بالدم، والدم وحده. وهذه المجموعة عبارة عن قصائد مختلفة استحضرت شخصيات الحرب، وجعلت كلاً منها يدلي بشهادة تاريخية حول رؤيتها الخاصة. ومن الطبيعي أن يكون لكل من هذه الشخصيات شهادتها المختلفة عن شهادة الأخرى”.
في هذه المجموعة عاد الشاعر إلى لعبته الأثيرة، لعبة الأقنعة، فاتخذ من شخصيات “حرب البسوس” أقنعة ليتحدّث بألسنتها عن ضرورة الثأر لاسترجاع الحق السليب، والأراضي المغتصبة. وطبعاً قيمة الثأر التي يؤكّد عليها ليست تلك القيمة القبلية القبيحة، وإنما هي قيمة تشمل المقاومة والنهوض والصحوة. وفي كتاب “ثنائية المدينة والثأر في شعر أمل دنقل” يتحدث الناقد عبد الناصر هلال موضحاً أن الثأر ارتبط لدى دنقل بالواقع المعيش من خلال المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فتشكل في اتجاهين: الأول داخلي، والثاني خارجي. ففي الداخل، تأرّق الشاعر بالفروق الطبقية بين فئات الشعب المصري، وعانى من ويلاتها، خصوصاً مع تزايد أعداد الفقراء، فوقف منها موقف الرفض والنفور والتمرد. أما على المستوى الخارجي، فقد ارتبط الثأر بمحاولة استرجاع حق مسلوب وأرض مغتصبة من يد العدو الإسرائيلي.
مؤلف كتاب “ثنائية المدينة والثأر في شعر أمل دنقل” يقدّم تحليلاً ذكياً للقصائد التي تتضمنها هذه المجموعة: “الوصايا العشر” (أو “لا تصالح”)، “أقوال اليمامة”، و”مراثي اليمامة”.. فحيث تأتي قصيدة “الوصايا العشر” متضمنة التحريض على الحرب، حتى يُمحى العار، تأتي “أقوال اليمامة” و”مراثيها” كتعبير عن رغبة الشاعر في تحقيق مبدأ العدالة، ووضع الأمور في نصابها. 


أوراق الغرفة 8
آخر مجموعاته، وقد حملت رقم الغرفة التي نزل فيها في “المعهد القومي للأورام”، حيث راح يخوض صراعاً مريراً مع السرطان.
في هذه الغرفة التي استعر فيها إحساس الشاعر بالنهاية، لا سيما مع استفحال المرض واقتراب الموت، ما كان من مواجهة إلا بالشعر. ولعل القصائد التي كتبها في هذه المرحلة هي من أنقى قصائده وأصفاها، لأنّها ولدت نتيجة صراع من نوع خاص، وبتعبير أحمد عبد المعطي حجازي، “صراع بين متكافئين، الموت والشعر”.
هذا ما حدا بالكتابة، على عتبة المرض والألم والموت والإحساس الفاجع بالنهاية الوشيكة، أن تكون خلاصة حياة كاملة لشخص يشرف على الانطفاء الأخير والكامل.
في هذه القصائد التي جُمِعتْ بعد موته ولم تجد الزوجة والأصدقاء اسماً سوى “أوراق الغرفة 8″، نرى كيف ينتهي مسار التحديّات العسير للحياة والزمن، وكيف يستكين الإنسان إلى قدره. وأكثر ما تتجلّى هذه النقطة في رائعته “الجنوبي” التي كانت آخر ما كتبه الشاعر، حيث يعود فيها إلى طفولته، كما يفعل المبدعون عموماً في نهاياتهم، وكأنّ الطفولة هي حصن الحياة الأخير الذي يمثل الارتباط الوثيق بزمن الحب والصفاء والحرية الحقيقية.
وسوى “الجنوبي”، هناك قصائد المرض، كقصيدة “ضد من؟” التي يقف دنقل حائراً أمام البياض: “كل هذا البيّاض يذكرني بالكفن”؛ وقصيدة “زهور” التي كتب فيها برهافة الشاعر عن الزهور التي يقدمها الزوار للمريض دون أن ينتبهوا إلى أنها عليلةٌ وتجود بأنفاسها الأخيرة، ويركب موته على موتها، في رحلة هذه الكائنات الجميلة التي تبدأ بقطفها وانتزاعها من على عروش جمالها، وتحويلها إلى مجرد شيء للزينة، لتصبح رمزاً لتمني الحياة والصحة للآخرين مع أنها الأحوج إلى هذه الأمنيات.
وهناك قصيدة “السرير” التي ترينا كيف أن السرير لا يستريح لجسد حتى يألفه، كما يفعل الإنسان تماماً، وقصيدة “ديسمبر” التي تتحدث عن شهر الوداع والرحيل، شهر الخريف، لأن الشاعر نفسه بات خريفاً مرادفاً للموت.
ومن قصائد الديوان الجارحة، وهي مكتوبة قبل مرحلة المرض، لكنها لم تنتهِ إلا في هذه المرحلة، قصيدة “الطيور” التي يقارن فيها بين الطيور الجارحة التي لا تغادر علياءها، والطيور الداجنة المستكينة لحبات القمح وسكاكين الذبح. ثم تأتي قصيدة “الخيول” لترثي هذه الكائنات من جهة، بعد أن كانت برية وطليقة، أو مطية للفرسان في الحروب، إلى أن صارت لعبة للرهانات والسباقات. ومن جهة أخرى، هو يرثي الزمن العربي الذي يشبهها في انحداره من قمة المجد إلى حضيض الذل، خاصة وأن الخيول علامة من علامات الحياة العربية.
وفي قصائد “مقابلة خاصة مع ابن نوح”، و”في بكائية لصقر قريش”، و”قالت امرأة في المدينة”، يكتب الشاعر عن جيله، جيل الإحباط والخيبة، لكنه مع ذلك يطلق صرخاته الأخيرة بأنه هو هو، ولن يتخلى عن مبادئه وقيمه مهما نال من هزائم، وأنه مصرٌّ على البقاء في وطنه حتى الموت، لأن محاولات التغيير لا يمكن إلا أن تحدث من الداخل.
_____
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *