المرأة حين تصير فراشة أو شبحاً

(ثقافات)

المرأة حين تصير فراشة أو شبحاً

مصطفى عبادة

وأمَّا هذه فألم لا يمكن التعبير عنه، الذكرى الغائمة، الاسم تنساه حين تحاول تذكره، وتدخل معركة في ثوانٍ مع عقلك وكل حواسك، الاسم، المعنى الذي يراوغ اللسان، أن تقابل حبك القديم فجأة فتنسى الكلام، المرأة حين تتحوّل إلى مجرد روح هائمة، لا يمكن تصويرها أو تصّورها في جسد من الأجساد، المرأة حين تصير فراشة، أو ذاتك وأنت طفل تجرى خلف أبيك في مغرب بعيد، دافئ وحنون، تتعلق بأذيال ثوبه، وكأنه ذاهب إلى الجنة، لا تريد أن تتركه، أو تترك شعورك بالأمان المسترخي معه، ثم تخرج عليكما الكلاب فجأة.

في المرة الأولى التي سمعت فيها نجاة: خفت، وشعرت بالحزن الساحق، لم أعرف من أين يأتي، قالت البنت التي أسمعتني الأغنية: لأ. واسمع دي. وحين علا الصوت: “يا حبيبي مين أنا، أنا مين؟ واللا أنت مين، واللا إحنا مين يا حبيبي، دا إحنا روح بتحب روح، للحب يا روح الروح”.

غاص القلب في الحزن والفقد والحسرة، اهتاج الصعيدي الذي لم يعرف الغناء يوماً، أو المرأة، وفاضت الدموع. ارتعبت البنت وتأسفت:

والله ما اقصد.. طب أنا عملت إيه زعلك كده.. أنا آسفة والله أنا “آسفة”، وبكت هي الأخرى لبكائي، تركتها في منتصف الطريق، وسرت وحيداً إلى جوار سور حديقة الحيوان بالجيزة، من ناحية شارع مراد، غير عابئ بأوراق الشجر تسقط فوق رأسي، أو “زرق” الطيور من فوق الشجر.

في اللقاء التالي قالت البنت: لا تفسير لموقفك بالأمس سوى ما غنته نجاة بالضبط:

“وفى وسط الطريق ووقفنا وسلمنا وودعنا يا قلبي ورجعنا الطريق وحدينا ودموعنا ف عنينا يا قلبي”،.بدأ اللحن حاداً، جملة قصيرة، ثم يهدأ، ثم يصخب جداً، وتتداخل الآلات، سمعتها حتى آخرها صامتاً، ووصلنا النهاية من قبل النهاية… يا عيني علينا يا قلبي”.. وتجددت مشاعر الأسى.. تذكرت أمي وصمتها الطويل، زميلة الثانوي الجميلة التي آثرتني على الجميع، واقتتل من أجلها الجميع، وأدخلتني غرفتها، الوحيد الذي سمحت له بذلك، الوحيد الذي أَمِنت له، الوحيد الذي لم يكن ذئباً، أو يحمل بوادر ذئب، وكنت إلى جواره فوق “الكنبة” كحمامة مذعورة، شاكية ” قلة أدب الولاد”، في مدرسة “فرشوط”  الثانوية الحديثة، أمنت له لأنه مؤدب، صموت – كما قالت – يحب الشعر، الآن تذكرت أن “نجاة” كانت تغني في مذياع حجرة البنت: “غالى.. غالى” عرفت بعد ذلك أن التي تغنى نجاة، كيف نسيت هذا الصوت، وهذه الليلة، التي عاداني بسببها الجيل كله، وتركت في نفسي مرارات لا تمحى، وأغرقتني في القراءة عن الطبقات، والحقد الطبقي، ورأس المال، وفائض القيمة.

نجاة: كل الذكريات، وبدايات ظهور الشارب الخفيف تحت الأنف، والسرحان والبكاء دون سبب، المرأة التي تحلم بها وتعرف أنها غير موجودة، إنها فقط مخلوقة للحلم، لكي تكون حلماً تتعاطاه مهما تزوجت، أو صادقت أو رافقت من النساء، مهما كنت مشبعاً أو محروماً، يظل صوتها يذكرك بتلك المرأة الشبح.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *