الروائي الفلسطيني فجر يعقوب: أؤمن تماماً أن في داخل كل منا شمعة، ولا أؤمن بفكرة الضوء في آخر النفق اطلاقاً

(ثقافات)

 

الحائز على جائزة ” كتارا” للرواية العربية عن روايته (ساعات الكسل- يوميات اللجوء)

الروائي الفلسطيني فجر يعقوب:

أؤمن تماماً أن في داخل كل منا شمعة، ولا أؤمن بفكرة الضوء في آخر النفق اطلاقاً

 

أجرى اللقاء: وحيد تاجا

حاز الروائي والمخرج السينمائي الفلسطيني فجر يعقوب على جائزة كتارا للرواية العربية 2021 عن روايته (ساعات الكسل- يوميات اللجوء).. والتي تتحدث عن رحلة الموت التي قطعها على ظهر قارب مطاطي أو ” البلم” من بحر إيجة في تركيا باتجاه أرخبيلات اليونان..

وفي لقائنا معه” قال: “كانت فرصة كبيرة لي أن أنزل في جزيرة “ساموس” اليونانية، مسقط رأس عالم الرياضيات والفيلسوف الإغريقي فيثاغورس الذي اصطدم مبكرا جدا بالدكتاتور بوليكراتس (حاكم الجزيرة)، فاعتقل، وعذب، وجرب الهجرة إلى أرض مصر وبلاد الهند. مشيرا إلى ان ركوب “البلم”، ذكره بالأسطورة الرومانية التي تقول إن على الموتى أن يعبروا نهر ستايكس بقوارب خاصة بهم، وعليهم أن يتزودوا بالمال من أجل دفع الأجرة للمشرفين على القوارب، وحتى يسمح الكلب المتوحش سريبيروس للموتى، بالوصول إلى قاضي الموت. كما مرت بمخيلته الأسطورة الإغريقية التي حيكت من حول إله البحر فوسيدون الذي يغضب على الإنسان الأرضي أوديسيوس، فيحكم عليه بالفناء المائي وبقائه محكوماً بالماء إلى الأبد.

ويذكر انت فجر يعقوب سينمائي وروائي فلسطيني ولد في مخيم اليرموك سنة 1963 لأبوين فلسطينيين من طيرة حيفا، هاجر الى السويد عام 2015 حيث يقيم حاليا. له مجموعة من الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة التي حصلت على جوائز في مهرجانات عدة ، كما له أكثر من عشرين كتاب بين الترجمة والتأليف حول شؤون النقد السينمائي.

 أصدر أربع مجموعات شعرية.: (النوم في شرفة الجنرال)، (أسباب مريم العالية)، (حين تخلو صورتها من المرآة) و(بياض سهل) التي كتبت بالموبايل أثناء رحلته في زوارق الموت بين تركيا واليونان وصولاً إلى السويد.

أصدر في الرواية: (نقض وضوء الثعلب)، (شامة على رقبة الطائر)، (نوتة الظلام)، و(ساعات الكسل.. يوميات اللجوء) التي حصلت على جائزة كتارا للرواية العربية 2021.

أسس المنصة الثقافية الالكترونية (دفاتر غوتنبرغ) التي يديرها ويحررها حالياً من السويد  www.gutenbergnotes.com

حول رحلته ورواياته كان هذا اللقاء الشيق معه.

*ـ ما الذي شدَّك بداية إلى السينما.. ومن ثم الرواية.. وكيف انعكس كل منها على الآخر؟

كل الأخيلة الصديقة والعدوة التي مررت بها في حياتي، ظلت معي، وتأبى أن تفارقني، وحتى أنتزع منها اعترافاً بأنها قد مستني في أعماقي، رأيت أن أبحث عنها عبر الصورة والسرد. أريد أن أبحث عنها لنكتشف معاً حجم الأكاذيب التي تعايشنا معها في مجتمعات القسوة والنكران. ما يشدني إلى السينما هو حجم وخطورة هذه الأخيلة التي تجيء مراراً على شاكلة أحلام، وستظل معنا حتى من بعد أن نندثر مع وعود أكيدة بأنها ستلتصق بغيرنا في نفس هذه المجتمعات، ولكنها ستأخذ أشكالاً مختلفة مما عرفناه عنها. سرد الرواية مسألة مختلفة. حين نعجز أحياناً لأسباب خارجة عن إرادتنا من تحويل هذه الأخيلة إلى فيلم سينمائي، تصبح الرواية أمراً لا مفر منه. الرواية وعاء أدبي لكل صورة خارجة من مرمى أحلامنا، سواء انكسرت، أو جرى تقطيعها، بإعلانات حياتية كثيرة، على سبيل المثال: العنف المجتمعي. مقاهي البلاد الباردة. أكاذيب الاندماج. سلطة الإعانات الاجتماعية في بلدان اللجوء. أحلام القطط. أفلام الرعب. آخر قضايا التمييز العرقي. آخر الاحتلالات الكولونيالية. شبق السلطة الخ.

* ـ كان متوقعا أن تتحول مجموعتك الشعرية (بياض سهل)، التي كتبت بالموبايل أثناء رحلتك في زوارق الموت بين تركيا واليونان، إلى فيلم وثائقي أو روائي قصير، أكثر من تحوله إلى رواية (ساعات الكسل- يوميات اللجوء)، فما الذي حدث؟

ربَّ ضارة نافعة. بالرغم من القهر النفسي الذي عانيته وتحكم بي بسبب عدم تمكني من تصوير فيلم وثائقي عن رحلتي، إلا أنني اكتشفت مع مرور الوقت أن الكتابة لا تقل شأناً عن الكاميرا، وخاصة أن عشرات الأفلام والريبورتاجات الوثائقية رافقت اللاجئين في بحر إيجه والمتوسط، ولم تبقِ شيئاً لم تكتشفه. حتى أنها لم تبقِ ستراً لحرمة الموت، وحرية تحلل الجسد الإنساني في مياه البحار المالحة بالطريقة التي يختارها الهارب من بطش سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. كان خياراً صعباً أن أبقي على ذلك الخيط الذي يفصلني عن الصورة في أعماق نفسي، لأنني أرى أن اللجوء قضية إنسانية رفيعة لا ينبغي أن تتحول -مع الوقت- إلى صور بورنوغرافية معكوسة عن الحروب والظلم الذي يدفع بالإنسان إلى الهرب. أقول ذلك ليس مواساة، فأنا قد شفيت تماماً من أعراض هذا القهر النفسي الذي لازمني أربع سنوات تقريباً، إلى حين اكتشفت طريقي إلى مغاور الذات الانسانية في هذه اللحظات الفاصلة وكتبت عنها.

* ـ عنوان الرواية يشي بكتابة تسجيلية واقعية وأقرب إلى التقريرية. ولكن الرواية تفاجئك بالمساحة التي يسيطر فيها الخيال والأسطورة؟

لا أنتمي إلى طائفة الكتاب الذين يسألون عن مدى الالتزام بالواقع والأحداث أثناء الكتابة. مهمتي تنحصر هنا بأن أحدث تلك الفقاعات المدوية في نفس القارئ حين يُقبل بالطبع طوعياً على قراءة ما أكتب، وأنا أقرّب له حكايات مستلهمة من واقع “غامض” لا أمل بالشفاء من أمراضه، إلا بمنحه فرصة أخيرة لأن يتقلب في “المخيال” الفردي على جانبيه، لأنني أؤمن تماماً بسلطة الخيال على العقل الإنساني، وهو أرحب من أن تحده ممنوعات أو حدود، وبخاصة أننا نعيش في بقاع جغرافية لا ينقصها “خيال” في إدارة وتصريف شؤونها اليومية لدرجة أحياناً تفوق الخيال نفسه. قد يكون خيالاً مريضاً، وواجب الكتابة أن “تفلتره” من الشوائب. بالطبع هناك أسئلة كثيرة غير ذلك في حياتنا لم نجب على واحد منها، فلنترك للخيال إمكانية التوغل في أعماق الإنسان، والإجابة عن كل ما هو مسكوت عنه. الخيال يبلسم الكثير من جراحنا إن شئت.

* ـ هناك إيغال في الفلسفة والترميز، وخصوصاً موضوع اللهب داخل الإنسان وضوء الشمعة المصاحب للشخصية على مدار الأحداث؟ ماذا تقول عن هذه الشمعة؟

أؤمن تماماً أن في داخل كل منا شمعة، فأنا لا أؤمن بفكرة الضوء في آخر النفق إطلاقاً. قد تبدو فكرة لمَّاعة، ولكنها كاذبة ومزيفة، ولا ينبغي التركيز عليها مع كل حديث عن أمل نافق، وما أكثر الآمال التي نفقت في بلداننا. هذه الشمعة قد نكتشفها متأخرين، ولكنها ستظل ترشدنا إلى كل ما هو عميق وإنساني بداخلنا.

* ـ هل كان التفكير بفيثاغورث والأسطورة الإغريقية. وحكاية إله البحر فوسيدون الذي يغضب على الإنسان الأرضي أوديسيوس، فيحكم عليه بالفناء المائي وبقائه محكوماً بالماء إلى الأبد. هل كان هذا لحظياً في ” البلم”؟ أم أن الفكرة جاءت لاحقاً أثناء كتابة الرواية بعد سنوات؟ ولماذا. ومتى نلجأ إلى الأسطورة؟

لا يمكن أن تطأ بأقدامك أرض الأساطير، وتعيشها ولو لفترة قصيرة، دون أن تكتب عنها أو تعيشها، حتى لو لم تكن تنوي كتابة ملحمة. أنا شخصياً لم أطق فيثاغورث نهائياً في سنوات الدراسة الأولى، وهو سبب لي عقدة لم أشف منها إلا حديثاً، ولقد اكتشفته أثناء النزول في جزيرة ساموس، مسقط رأسه، وشاهدت تمثالاً له، فيما لم يحظ الديكتاتور بوليكراتس حاكم الجزيرة المطلق في ذلك الوقت بتمثال مثله، بالرغم من أنه اضطهد فيثاغورث في زمنه، واعتقله، وعذّبه، واضطر عالم الرياضيات والفيلسوف للجوء إلى بر مصر، وبلاد الهند.

كما أن ركوب القارب المطاطي أو “البلم”، كان لابد أن يذكّرني بالأسطورة الرومانية التي تقول إن على الموتى أن يعبروا نهر ستايكس بقوارب خاصة بهم، وعليهم أن يتزودوا بالمال من أجل دفع الأجرة للمشرفين على القوارب، وحتى يسمح الكلب المتوحش سريبيروس للموتى، بالوصول إلى قاضي الموت.

كما أن تلك الرحلة لابد أن تذكرك بـ (إله البحر) في الأسطورة الإغريقية فوسيدون، الذي يغضب على الإنسان الأرضي أوديسيوس، فيحكم عليه بالفناء المائي وبقائه محكوماً بالماء إلى الأبد.

ونحن لا نلجأ إلى الأسطورة كدواء للسرد إلا حين نكون في بلاد الأساطير بكل تأكيد.

* ـ هذا الاتكاء الكبير على الفلسفة في مجمل روايتك يطرح سؤالاً حول سبب اعتماد الروائيين المعاصرين على الفلسفة كثيراً في أعمالهم في الفترة الأخيرة.. وخصوصاً ذلك الاتجاه نحو الفلسفة الصوفية تحديداً؟ ما رأيك؟ وهل يجب على الروائي أن يكون فيلسوفاً أو متصوفاً؟

في المجتمعات المعاصرة التي نعيش فيها اليوم ونحن مروعون وخائفون، يصبح الاتكاء على الفلسفة نوعاً من التمرد على كل هذا التوحش الاستهلاكي المضمر في نفوس الناس. نحن اليوم نعيش كـ”حيوانات” استهلاكية متوحشة، صممت لها مجمعات ضخمة لتمارس هواياتها بإشباعها، ولا أمل لنا بالنجاة إلا بالانتصار للفلسفة، أو سنغرق في طوفان الماركات التجارية التي لا يقدر إنسان على الوقوف في وجهها. جرب أن توقف سباحاً عن الغطس في كأس من المياه الغازية، كما في بعض الإعلانات، فتقوم الدنيا ولا تقعد، وتطاردك هذه الشركات العملاقة، لأنها محمية من الأذى بموجب القانون، بالرغم من كل الأذى الذي تلحقه بعقول الناشئة على الأقل. جرب في المقلب الآخر إذن. أن تقود الناس إلى فلسفة مضادة لكل هذا الوباء الاجتماعي – الاستهلاكي.

* ـ تركز كثيراً على المحاكاة الداخلية أو المونولوج الداخلي للشخصيات؟

 إن في داخل كل منّا شمعة تضيء له دربه، وهي تخترع له حكاياه أيضاً، ونحن علينا أن نلتقط مونولوجات كل من يمر في أعماقنا، ونقوم بتسجيلها. يروي لنا غاستون باشلار كيف انطفأت شمعة الشاعر، فأكمل قصيدته في تلك الليلة على ضوء عيني قطة.

* ـ تحدثت عن المهرِّب وجشعه.. هل يمكن إلقاء مزيداً من الضوء عليه.. من هو؟ كيف تعامل معكم؟ كيف يفكر؟ ما هو حجم الشر في داخله.. وإلى أي مدى قد يجرفه الطمع  “بالمزيد”؟

بالمناسبة ليس كل مهرب شرير بالضرورة، وخاصة  أولئك المهربين الذين يعملون لحساب الحيتان الكبيرة. بعضهم عشوائي ويمتلك قلباً “طيباً ورحيماً”، ويعتقد أنه يقوم بعمل خدمة لبعض “المقطوعين” من اللاجئين. صحيح أنه يهتم بالمال، مثل أي مهنة قد يقوم بها أي شخص، ولكن بالتأكيد هناك طائفة من هؤلاء المهربين، لا يتورعون عن إغراق زورق بكامل حمولته من الأطفال والنساء والرجال ليحظى بربح سهل وسريع، أو ليضارب على عصابة أخرى احتلت “النقطة” التي كان تسيطر عليها، وقد لا يتورع هذا النوع “المنضبط” عن بيع زورق مطاطي تالف لأربعين شخص، وهو غير مهتم بالنتائج المأساوية التي قد تحدث عن الركوب فيه. كما حدث مثلاً مع ستر الإنقاذ التركية التي ظهر أن معظمها مصنّعة من الفلين الذي لا يقوم بأي عمليات إنقاذ. عالم التهريب بحاجة لتفرغ كامل لالتقاط بعض علاماته وإشاراته، وأنا التقطت النزر اليسير منه بناء على الطريقة التي تعاملوا فيها معي.

* ـ ما هو الحدث الأبرز خلال رحلة الموت تلك.. الانتظار والترقب.. أم العلاقة مع المهرب.. أم مع تجار الأعضاء.. أم مع رفاق الرحلة؟ أم ماذا؟

هذا يعتمد بالضرورة على ثقافة وحساسية كل لاجئ يريد ركوب البحر. الذي يتعاطى حشيشة الكيف مثلاً ينظر إليها من زاوية مختلفة عن تلك الزاوية التي ينظر منها الروائي. ولكن الأول قد يصبح مادة غنية للكتابة بالنسبة إلى الثاني، وقد يرتبطان بصداقة مميزة طوال الرحلة، تمتد إلى ما بعد الوصول إلى بلدان اللجوء. التقيت بشاب سوري في فندق صغير في مدينة أزمير. كان مقطوعاً من كل شيء، وبدا مسالماً تماماً، لدرجة أنه كان يشعر بأن ما يدور حوله يفوق قدراته على التصور. عندما ودعنا بعضنا تركت معه كتاب (سوريا) لسليم بركات، وغادرت إلى مدينة بودروم. لا أعرف أين أصبح هذا الشاب، ولكنه قال لي حينها إنه يريد طلب اللجوء في النمسا. آمل أن يكون بخير. كان وديعاً ولا يملك بداخله إلا الحب للناس.

* في كل رواياتك تتحدث عن الموت والحرب واللجوء، فهل قدر الفلسطيني أن يبقى دائماً داخل هذه الأجواء؟ وأن تكون الحروب والهجرة واللجوء هي العلامات الفارقة في حياته.. وما هذه الذاكرة التي نريد أنْ يكتب لها الديمومة والبقاء؟

نحن لا فضل لنا على الاطلاق بالكتابة عن الموت والحرب واللجوء. الأدب العالمي يزخر بمثل هذه الكتابات التي لا نخشى عليها من الاندثار. مهما تحولت قضايا الانسان، سيظل مخلصاً لقصص الأولين، ولكن ما سيحدث لن يتعدى بالتأكيد درجة التبدل في نوعية وكيفية القيم الجديدة التي يقبل عليها من يأتون من بعدنا. قضايا اللجوء والحروب من القضايا العظيمة التي نشأ الأدب أصلاً من أجلها، ولا أعتقد أن هناك من يمكن أن يسلط الضوء عليها، ويعالجها، مثل الأدب والسينما والفن عموماً.

* ـ في حديثك عن دمشق تقول: ” دمشق علمتني كيف أحفظ روحي وروح من أحب من الصدأ بتلك المفاتيح التي لا نفقدها حتى في الكوارث”.. وتعود لتقول في روايتك الأخيرة: “تتساوى البلاد في لحظة العبور إلى فوهة اللا مكان، فما الذي تعنيه لك دمشق اليوم؟

نعم في فوهة اللامكان الذي ستقصده بجسد مملح على الدوام حيث لا يفارقه طعم الملح تتساوى كل البلاد. أنت هنا تفتقد إلى حس الصنعة في التأريخ للمدينة التي تعيش فيها أو تنتقل إليها بفعل طارئ. حتى اللحظة هذه أطول مدة أغيب فيها عن دمشق، وأعتقد أن عدوى المساواة مع البلاد الأخرى قد طالتها بشكل أو بآخر. لقد غمقت صورتها قليلاً، بالرغم من أن الحنين لتنشق بعض أدخنة ميكروباصاتها يستبد بي في أحيان كثيرة. لقد مللت من الهواء النظيف الرتيب الذي أصحو عليه في جنة اسكندنافيا. أريد هواء درامياً، ولابأس بأن يكون غامقاً.

* ـ غالباً ما تلجأ إلى الأحلام في رواياتك، حتى أن رواية” نوتة الظلام” تسير في المنطقة الحائرة ما بين الحلم والواقع. لماذا.. وما الذي يمثله الحلم بالنسبة إليك؟

ينبغي أن نحلم على الدوام، وجلَّ ما أريده الآن أن أنام لأحلم. ليس هناك أجمل من مشهد يقوم على حلم من مائتي دقيقة تستطيع من خلاله اختصار كل مصورات الأدب والسينما، وهو الأمر الذي نعجز عن فعله تلقائياً في حياتنا الواقعية.

* ـ هل يمكننا القول أن التجريب هو الذي يجعل أدبك لا يسير على وتيرة واحدة، فكل رواية عندك تحمل طابعاً مختلفاً عن سابقتها؟

بالتأكيد أنا أجرب وأكتشف. لا يمكن أن أعيش من دون تجريب. حياتي كلها منذورة له، وبغير هذا التجريب لا أعتقد أنني سأضيف شيئاً إلى مشروعي وتجربتي.

*ـ إلى أي مدى يمكن للكاتب أن يكون محايداً في تسيير أحداث الأبطال، وكيف يمكن للكاتب في هذه الحالة أن يعبر عن نفسه؟

لا تستطيع أن تتبنى كل أبطالك الذين تكتب عنهم. حتى هم في مرحلة ما أثناء الكتابة قد يرفضون أبوتك، بمقابل أنك ترفض أيضاً بنوتهم. ولكن قد تجد مساحة في حلم ما لتتعاطف مع شخصية قد لا يحبها القارئ ولا يتعاطف معها. عموماً الأدب الذهني لا يبحث عن مورثات التعاطف مع أو في الشخصيات، لأنها إشكاليات ثقافية قائمة بحد ذاتها.

* ـ ما هي حكايتك مع أسماء رواياتك: “نقض وضوء الثعلب”..” شامة على رقبة الطائر” “نوتة الظلام”، حتى أن روايتك الأخيرة كنت ستطلق عليها اسم «انتحار بكأس زائد من الماء” كيف تنتقي أسماء رواياتك.. وما مدلولاتها بالنسبة إليك؟

ليس هناك حكاية. العنوان أساسي في صوغ أي رواية. لا يمكن للقارئ أن يصل إلى جوهر الرواية دونه. إنه مفتاح الألغاز كلها التي قد يحتويها العمل، ولا أعتقد أننا نتذكر أي عمل دون تذكر عنوانه، لابل أن هناك عناوين سبقت شهرة مؤلفيها وتجاوزتها. أحترم جداً العنوان المبتكر الذي لا يحوي إشارة من عمل سابق قد تغطي عليه شهرة الكاتب لسبب ما.

* ـ لماذا أطلقت اسم ” الأرملة السوداء ” على كريستينا في رواية ” شامة على رقبة الطائر”؟

من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. كريستينا كينونة أدبية قائمة ولا يمكن إلا التعاطف معها، بالرغم من كون الأرملة السوداء هي من تقوم بالتمثيل بضحاياها. الزمن الذي عاشت فيه كريستينا يحتمل الدفع بها إلى مجازات أعلى، ريثما يتم الانتهاء من أي تحامل قد يقوم به “أعداؤها” المحتملون.

* ـ برأيك هل كانت الغارة الإسرائيلية على موقع الجيش في لبنان كافية لقتل كريستينا في نفس رشيد رغم تعلقه الشديد بها، كما أوضحت في الرواية؟

لا يمكن لمن عاش غارات كثيرة، واعتاد عليها، أن تقتل غارة واحدة فيه حبه الحقيقي والوحيد. كريستينا لا تموت في نفس الرقيب رشيد، ولكنه يتعافى من وجع اللحظة الرمادية القاتمة التي جمعتهما، ودفعا معاً أثماناً باهظة جراء ذلك. أعتقد أنه بحث عنها بعد ذلك في أخريات، وإن أخفق، فإنه لا يتحمل المسؤولية. وصفة الكارثة كانت أكبر منهما.

* ـ في رواية” نقض وضوء الثعلب ” يتناسل الغرائبي من الواقعي ويتجاوران فيشكلان وجهين لعملة واحدة..  فكيف توازن بينهما؟

لا أتقصد عمل ذلك إطلاقاً عندما أكتب. عموماً أنا شخصية مسالمة ولا أحاول توزيع الأدوار على ما هو غرائبي أو واقعي. عندما أريد أن أكتب عن سور دمشق مثلاً سوف أرفع بعض الأحجار الثقيلة وأكشف عما هو تحتها. قد أجد عقارب وأفاعٍ أو دعسوقات تصلح لأن تكون مادة روائية عن دمشق نفسها. لا أبحث عن تفضيل هنا، وإنما أنهمك بالكتابة، كما حدث مثلاً في حمام القرماني الذي استحميت فيه مرة واحدة في حياتي، وآثرت بعدها في روايتي (نقض وضوء الثعلب) كشف بعض الغرائبيات التي تحصل فيه، أو هي بدت لي كذلك أنا على الأقل.

* ـ لماذا اخترت أجاثا كريستي تحديداً في رواية ” نوتة الظلام “؟ ولماذا تعمدت أن تطلب من مهيار بأن يسرد قصة حياته في مائتي دقيقة، وإشارتك إلى أنها نفس المدة الزمنية التي يستغرقها القط في حلمه يومياً؟

أجاثا كريستي جزء مهم من ذاكرتي، وإن استدعيتها للرواية، فلأنها عنصر حكائي مهم، يضيف إلى حبكة الرواية ما أعتقد أنه التشويق نفسه. أنا أستدعي ذاكرتي في الواقع التي تشكلت طوال الحقبة الماضية لأنني أريد الشفاء منها أيضاً، وليس هناك ما هو أنجع من حلم في مائتي دقيقة لمحاولة التنعم بـ “مصح” أدبي وسردي، يمكن أن يعثر عليه الكاتب في بحثه اليومي عن التوازن.

* ـ هل تستطيع القول بأنك تنتمي للرواية العربية الجديدة؛ أو رواية ” الوعي الجديد ” كما تطلق عليها؟

الرواية الجديدة هي الدرب الذي أسلكه يومياً. أو لنقل رواية الوعي الجديد بمسمى نوعي ومختلف. وليس من نص مستقل بشخصياته وأمكنته وعوالمه أكثر إنصافاً من رواية اليوم. هذه الرواية التي لا تتجسد بأساطير ملحمية. ليس كل ذلك النوع الذي يبثه البعض في أرجاء كتاباته بزعم هذه الحاجة. وأعتقد أن أهم ما يميز هذا الوعي السردي هو الاستقلالية الكاملة التي تتيح إعادة توزيع الشخصيات على الأمكنة التي تستحقها، بغية معرفة الحد الفاصل بين ما هو تخييلي وواقعي، وهذه عموماً إحالة للقارئ ينبغي عليه الخوض فيها، ووضع علامات وإشارات في طريق العودة، بعد أن يدمن الإيغال في المتاهة التي تشكلها بعض الروايات الجديدة. متاهة السرد أيضاً لا تعني في وجه منها أنها تشكل رواية مستقلة. ليس بالضرورة أن ينشأ ذلك عنها.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *