(ثقافات)
حوار مع الفنان التشكيلي العراقي علي رشيد: الفن في زمن الحرب
أجرى الحوار: صالح الرزوق
دخل علي رشيد غمار الكتابة والرسم منذ بداياته. وإن غلبت على نصوصه (في الشعر والمسرح) روح حزينة وكئيبة، فإن رسومه بدأت من خنادق الحرب أيضا ورسم عن المقاومة في فلسطين وحروب العراق المتعددة والمتتالية والتي فقد فيها أخاه. وأكثر ما يميز لوحات علي رشيد العسكرية أنها بلون رمادي أو رصاصي أو بخطوط رفيعة سود تصور أجساما مشوهة وغير متوازنة ووجوها ممطوطة تنقل أهوال الحرب والخراب الذي تسببه للنفس من الداخل. وربما هذا أول ما يلفت انتباهنا في بصرياته. فهو يجرد داخل شخصياته ويضعنا أمامها بكل ما فيها من إحباط وبكائيات، ويبتعد عن الأرض المحروقة بالنار وعن خيوط الدم التي تتفجر من القتلى الشهداء. بتعبير آخر إنه يبرئ لوحاته من اللون الأحمر الناري ويختار لها لون الرماد، وهو لون حالتها النفسية. وهذه هي رسالة علي رشيد.. أن يساعدنا على رؤية ما لا نستطيع أن نراه بأعيننا المجردة.
ومن هذه النقطة تابع في مراحله التالية: مرحلة الدراسة في إنكلترا. ثم الإقامة في هولندا. وأخيرا مرحلة إسبانيا وفيها سمحت له الظروف بمعايشة سلفادور دالي وبيكاسو عن مقربة. وفي الأطوار الثلاثة الأخيرة حرص على لغة بصرية مختلفة وهي على التوالي: اللوحات الصامتة وفيها يقدم طلاء بلون واحد أبيض غالبا ودون أشكال باستثناء سماكة الطلاء ودرجة السطوع. ثم لوحات الطبيعة السائلة ويعيد من خلالها بناء الطبيعة مع تبديل مكان السماء والأرض. أحيانا تكون السماء في الأسفل والأرض في الأعلى. وكل منهما مرآة للآخر. ودشن بذلك حقبة ما بعد الحداثة أو النشاط التمثيلي المضاعف للعين. وأخيرا الكولاجات وهي توليفات مركبة تنقل مشاهد يوم القيامة العراقي بعد الغزو وما تركه من خراب وفوضى في حياة الإنسان والمدينة. وقد بدأ منذ فترة بسيطة مرحلة رابعة هي عبارة عن تخطيطات تشبه الظل الذي بسقط من شيء على جدار، لكن اختار اللون البني لأنه لون جذوع الأشجار والتراب في العراق. ولا تخلو كل هذه اللوحات من رثاء لأيامه الجميلة في كربلاء (باعتبار أنه من مواليد المدينة المقدسة)، وكأنه يريد الوقوف على الأطلال، والتأوه على وجوه أحبة رحلوا وتركوا في قلبه فراغات تراها في هذه اللوحات بشكل مناطق دون خطوط ولا لون.
يقيم الفنان علي رشيد في هولندا. عمل بتدريس الفن التشكيلي في قطر وفي الجامعة الإسلامية في هولندا و الأردن والبحرين. اشترك بعدة معارض دولية في إيطاليا وإسبانيا وتونس والمغرب وفرنسا وحصد عدة جوائز في عدة مناسبات.
وهذا اللقاء يوضح خلاصة رأيه بالفن التشكيلي وعلاقته بفنون الكتابة.
-
ما الذي يميز لوحة علي رشيد وما هي بنية الاشتغال عليها؟
* ما يميز لوحتي ربما “هذا رأيي الشخصي غير ملزم لأحد” هو الهمس الداخلي للعمل، البوح الخفي الذي يحيل إلى الاستفهام. ذلك الحوار الأبدي المتغير بتغير الزمان والمكان. حوار تتجدد مدلولاته مع كلّ زائر فاعل يحاول فك طلاسم العمل، والغوص في متاهته بحثا عن ما يحيل إلى الذات.
في ما يخص الاشتغال فيبدأ من لحظة الوقوف أمام البياض “القماشة” بسعته اللامتناهية، لحظة التفكير في الكيفية التي يمكنني من خلالها الإمساك بهذه السعة، وترويضها. كلّ مرة أذهب فيها إلى الرسم أبدأ من حيث المتاهة التي تشدني إلى البحث عمًا يقودني إلى اليقين. أشتغل في العادة بالبياض على البياض، وعلى الضد مّما هو متعارف عليه. في اشتغالات الرسامين عادة هناك إنشاء للوحة، وطريقة معالجة متيقن منها الفنان مسبقا حيث البناء على سطح القماشة من خلال رسم الأشكال، وتوزيع الكتل، والصباغة لتكوين عوالم، وإنشاءات تخفي البياض . أنا أشتغل على هدم ما بناه الآخرون لأعيد للبياض حضوره وشساعته. عملية الهدم هذه تحيلني إلى البحث عن أثر ما بقيّ غامضا. عن غياب أحاول الوصول إليه، وتفكيك طلاسمه. أتعقب الأثر لأوقظ المخيلة لدى المتلقي، لأجعله فاعلا، وأحرضه على البحث عن أثره الخاص وفك طلاسمه..
-
ألا ترى معي أن هذه فانتازيا فنية أو خيال شعراء. أي إنسان يمكنه أن يضع على الجدار ورقة بيضاء. ما هي الخصوصية التي تحول هذا الصمت الأبكم إلى ثرثرة تخلق انطباعا أو معنى أنت تريده عند المتلقي. لا يوجد فن أبكم. ولا بد من وجود رسالة يريد الفنان أن يرسلها
*الفنتازيا والخيال هما زاد الفن ومتاعه. دون خيال ما كان للفن من أن يصل إلى كلَ هذه المدارس، والتحولات التي ذهبت بالفن بعيدا إلى الحد الذي أصبح مفردة يومية في حياتنا . كلّ لون يحمل دلالاته وبعده النفسي وتأثيره على المتلقي، هذه الدلالات غير ثابته بل هي متغيرة من شخص إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى. إذا اللون ليس أبكم، ولا أصم بل هو محاور يمتلك لغته الخاصة، وفاعليته في التأثير. ماشدني للون الأبيض هو السعة التي أنشدها في العمل، وهذه السعة وجدتها في البياض الذي يعبر حدود القماشة ويتماهى مع المحيط متجاوزا قياسات اللوحة نفسها. هناك سبب آخر يتعلق بفاعلية المتلقي التي أنشدها. اللون الأبيض يعطي الإحساس بعدم الاكتمال الذي يحرك مخيلة المتلقي للبحث عن الغائب والغائر في هذا النص البصري، بل يدفعه إلى ابتكار عوالمه الخاصة، وتشكيل دلالاته داخل العمل مّما يجعل المتلقي مساهما في مناخ العمل الفني ومناخه الفكري. هنا ستتجدد الأفكار والمفاهيم داخل العمل مع كلّ متلق بناء على خزينه المعرفي والحياتي وتتدخل هنا القناعات والمواقف في قراءة العمل، وهذا مايمنح العمل ديمومته كنص محاور، ومتغير الدلالات. أن يكون الفن فاعلا في الحياة، وفي المشهد الثقافي هي الرسالة التي أريد إيصالها عبر الفن .
-
كيف تبدأ تنفيذ فكرتك؟ وهل تأتي فكرتك تلقائية؟
*حين يأتي هاجس الرسم، لامجال لك من الاختيار. ولافائدة من الخطط المسبقة أو التنبؤ بنتائجها. الفكرة تنبثق عفويا من الخزين المعرفي، والبصري، والحياتي لدى الفنان. تنبثق من الإلهام. الفكرة التي يحملها الفنان معه إلى المرسم ليشتغل وفق حدودها ترهقه وترهق العمل أيضا. لذلك الفكرة لديّ تتصاعد أثناء العمل، وتتطور معه. حين أرسم تحت تأثير حدث، أو فعل يستفزني وأسعى إلى تدوينه، أو الإشارة إليه تكون الفكرة حاضرة قبل الاشتغال في بعض الأحيان. هنا يتحتم عليّ ترويضها كي لا تبدو جامحة، وصارخة بحيث تجعل من اللوحة ظلالا لها.
-
هل أحببت الرسم فعلا أم كنت تريد أن تعتاش منه ووجدت نفسك متورطا فيه؟
*لا يوجد فنان يزاول الرسم دون محبة. بالنسبة لي لم أشعر يوما أنني متخصص في مزاولتي الرسم، بل هو اختيار نابع من الذات، قادتني إليه الموهبة في سنّ مبكرة، وأصبح مع الزمن جزءا من كياني الشخصي، بل أضحى أحد أهم أدوات التعبير، والتواصل مع العالم. أصبح لغة مضافة . يؤرقني كلّ يوم سؤال عن ماهية الرسم، وجدوى ما أقدمه. حتى حين درست الفن كان الهدف من دراستي هو الاطلاع على مفاهيم مضافة، وصيغ جديدة لم آلفها من قبل، وليس لغرض الحصول على شهادة توصلني إلى عمل آخر يعيق ممارستي للرسم “أوقفت دراستي للدكتوراه حين وجدت أنها لاتضيف لي شيئا سوى الفرص الوظيفية “. ربما أكون محظوظا في إقامتي في الغرب التي منحتني فرصا لمشاهدة الأعمال الفنية العظيمة للفنانين الكبار وعبر أزمان مختلفة ودراستها، أن أكون على المحك مع التيارات والمدارس الفنية، مع تطور طرق الاشتغال، والبحث عن المواد البديلة. وكذلك تطور وسائط الاتصال المعاصر، والانفتاح على العالم، وتداخل الثقافات والتبادل المعرفي والجمالي. كلّ هذا عبر بي من محبتي للرسم إلى جعل الفن صيغة للعيش، والحياة معا.
-
ما رأيك بالفن العراقي الحالي وهل استطاع الفنان العراقي داخل العراق وخارجه أن يوصل معاناة البلد من خلال فنه عربياً وعالمياً ؟
*شكّل الفن العراقي في خمسينات القرن الماضي مشهدا ثريا من خلال تنوع الأساليب، والتقنيات، ورفد الحركة الفنية بتجمعات، وفنانين مازالت أعمالهم، وأساليبهم تشكل مصدرا مهما للأجيال الفنية وحتى الآن. للأسف الفن التشكيلي العراقي الحالي لم يبتعد كثيرا عن تجارب الرواد تلك، ولم يتقدم بها، أو يضيف إليها. في المقابل هناك تجارب فردية مهمة لفنانين عراقيين. تجارب تمكنت من استيعاب التغيرات الفكرية والجمالية المعاصرة في الفن، والاشتغال عليها لتأصيل هوية فنية تشير لهذا الفنان أو ذاك. أما الشق المحزن من السؤال يمكنني القول أن الفن العراقي لم يكن بمستوى الأحداث التي عصفت بالبلاد من دكتاتورية أعقبها غزو، فولد من رحم الغزو الإرهاب والدمار والفساد، وقمع مطالب الناس، واحتجاجاتهم بشكل دموي. بل لم يكن الفن العراقي مرآة، وصوتا للتضحيات التي تصل إلى حد الأساطير في عمليات تحرير البلاد من قبضة داعش. لقد جعلت غورنيكا بيكاسو العالم يقف مذهولا أمام ماحصل من دمار لتلك القرية النائية، بل جعلت من ذلك الحدث رمزا في تاريخ البشرية. لكن ما حصل في أي مدينة عراقية من دمار وقتل فاق هول غورنيكا بملايين المرات. إذا كم غورنيكا علينا رسمها لنشير إلى فظاعة ماحصل، ومازال يحصل كلّ يوم؟ للأسف لا الفنان العراقي، ولا المؤسسات الثقافية انشغلت بهذا الأمر.
-
هل أنت متأكد أن أداة التعبير عند العراقيين لم تلمس هذا الجانب. الشعر كتب مئات القصائد باستنكار حروب الخليج أو تمجيدها. وكذلك الرواية والقصة. أذكر مؤلفات عدد من أدباء الداخل في مقدمتهم سعد محمد رحيم الذي حصل على أهم جوائز السرد في الخليج العربي قبل أن يهزمه الموت المبكر. ومن أدباء الخارج حميد العقابي وجنان جاسم حلاوي وقصي العسكر، إلخ… ألا تعتقد أنه يوجد تغييب للذاكرة الفنية المضادة. من ينسى تغييب ثم مقتل عقيل علي ومحمود البريكان وخالد الأمين وبقية هذه الأسماء المحاصرة. ألا توجد مواهب فنية أيضا دفنها السياسيون والإعلام الحكومي في مقابره؟.
*كما ذكرت هناك كتابات ونتاجات فنية عالجت مواضيع اجتماعية وسياسية وبمواقف معلنة ضد الحروب المشبوهة التي استنزفت الوطن سواء حروب الطاغية، أو غزو العراق وتدميره من قبل أمريكا وحلفائها وسيطرة ثلة من سياسيّي الصدفة على مقدرات العراق وأنهكته بالفساد والسرقات. لكن يبقى السؤال هل تم الاهتمام في أرشفة وتدوين هذا الأدب أو الفن المعارض أو المناهض، أم بقيّ في حدود مايتوفر من هذه النتاجات هنا، أو هناك. وإذا ماتم الإشارة لهذا النتاج أو ذاك فيبقى في حدود الأخونة والمصالح والصداقات وهذا ينطبق حتى على الكثير من الانطلوجيات الشعرية التي تصدر هنا أو هناك.
كلّ واحد يحتفي بأبناء عمومته وعشيرته.
-
أنت شاعر وكاتب أيضا. هل توجد صور أو تصورات في ذهنك أثناء عملية الكتابة. أقصد أشياء تتحرك في ذهنك بالإضافة للفكرة المجردة؟.
*كما أخبرتك الرسم يبدأ من دون تصور مسبق لما ستكون عليه اللوحة، ويكتمل العمل من خلال الإضافة والشطب والاكتشاف لحظة الاشتغال، لكن دائما هناك هاجس ودافع خفي يدفعني نحوه. لايختلف نسق وآلية الاشتغال على القصيدة عنها في الرسم. أذهب إلى الكتابة بهاجس وبمفردات تعلق في الذهن، تتحول بعدها إلى جمل غائمة تتصاعد وتتكثف، تحيلني إلى المضي قدما معها، فأشطب وأضيف حتى تشكّل النص واكتماله. كثيرا مايدفعني النص الشعري إلى الرسم أو العكس. لديّ طقس في فتح حوار بين الرسم والنص الشعري وهو تعبير عن فرح يتملكني إزاء اكتمال اللوحة، والوصول إلى نتيجة تجعلني أقف أمامها مذهولا بعد أيام من المتاهة. فحين يصل العمل إلى كماله أبدأ بمحاكاته وبصوت مسموع قد تتحول تلك المحاكاة في أغلب الأحيان إلى مفتتح لنص شعري، ولهذا غالبا ما أنشر عملا فنيا لي يرافقه نص ولد من رحمه. هذا النص ليس عنوانا للعمل، أو شرحا بل توأمة بين نصين أحدهما بصري والآخر كتابي.
-
هذا شيء يشبه الروايات المصورة. وحاليا يتبنى هذا الأسلوب الإسكوتلاندي روج غلاس، وربما انتقلت إليه العدوى من أستاذه ألاسدير غراي. فقد كان سكرتيره الشخصي وكتب كتابا كاملا عن العلاقة التي جمعت بينهما.
-
الآن نعود إليك. سمعت آراء من نقاد فنيين محترفين أن علي رشيد أسير اللون الرمادي والأسود. وقد يعني ذلك أنه ينظر لعالمه بنظارة سوداء. وهي فكرة عدمية وباردة وظفتها الرأسمالية لقتل أحلام البسطاء بمستقبل مشرق. لماذا أنت سوداوي في كل شيء حتى في كتابة أشعارك التي رافقتها تخطيطات بلون أسود على خلفية بيضاء. أقصد كتابك “غرقى يحرثون البياض”؟
*أنا لست سوداويا، بل هناك حزن عميق مشروع يحفر في الروح إزاء الخسارات التي تضع مخالبها في تفاصيل حياتنا. من منًا لا يرغب في أن يكتب قصيدة عن الحبيبة، عن الفرح، عن الشمس في شروقها، عن غابات من الورود، عن البلاد التي تسكن القلب والذاكرة، لكن حين ينأى كل شيء ويحاصره الغياب لا يمكن للنص إلا أن يكون انعكاسا لهذا الواقع المر. مجموعة ”غرقى يحرثون البياض” هي بيان احتجاج على القسوة، على الفقدان، على الأحلام التي ابتلعها البحر. كان النص واقعيا، وصادقا، فكلما أردت الكتابة أو الرسم وجدت الغرقى / القتلى يزدحمون فوق البياض. لايمكنني كإنسان إلا أن أشير لهذا الجانب المظلم من عالمنا أملا في تجنبه، والعمل على عالم تسوده الحرية، العدالة، والمساواة. قد تبدو هذه المفردات مثالية، وفاقدة المعنى عند البعض. لكن الأمر معي مختلف لأنها كانت مدخلا لدخولي السياسة في عمر مبكر حين اخترت أن أكون ماركسيا مؤمنا بالمشاعة بين الناس.
-
اسمح لي بسؤال تقليدي أستعيره من سارتر. ما علاقة الرسم بالحرية والمسؤولية؟..
*الرسم هو تمرين، بل مزاولة للحرية، هو مؤشر لإنسانية الإنسان، وإحترام لقناعاته، ومواقفه حيث لا قيود، أو مصادرة للمتخيّل، ولا وسائل التعبير، أو العناصر المستخدمة. لحظة الرسم تتجلى حرية الرسام، بل حرية الآخر في التلقي واستنباط تصوّره الشخصي، وممارسة حقه في طرح الاستفهامات. هنا تكون اللوحة مفتاح تلك الحرية، ومدخلا للتبشير بها. الرسم يشحذ المخيلة لبناء عوالم بديلة. عوالم يتساوى فيها الجميع، ويمتلك فيها كلّ شخص الحق في التعبير عن آرائه، وما يعتقد به دون قمع أو حظر .
-
هل ساهمت إقامتك خارج الوطن في تقديم تجربة فنية مغايرة ؟
*بالتأكيد ساهمت إقامتي في الغرب في تغيير الكثير من القناعات السابقة حول الفن، بل ساهمت في بناء ثقافة بصرية ما كان لي تناولها لولا دراستي هنا، ومتابعتي للتجارب المعاصرة، ومشاهداتي. هذا التغيير أحدث صدمة كبيرة لي في بداياتي، لكن مع الزمن، واستيعابي لمضمونه أصبح قوة انطلاق لبناء عوالم، وصيغ مبتكرة. كنت قبل وصولي إلى الغرب ودراستي للفن فيه متمسكا بالصيغ الصارمة للرسم، وتكنلوجيا الألوان، وقيمة اللوحة في امتلائها حتى اكتشفت أن كلّ ذلك يمكن أن يكون مجرد هواء تزفره وينتهي كما قالت لي أستاذة الرسم في الأكاديمية الملكية في خلاف بيننا على معنى الرسم وبناء العمل. صدمني قولها ذلك ولم أستوعبه، أو أرتضيه إلا بعد زمن من البحث والمشاهدة والتجريب، فعدت أردد ما قالته أستاذتي يوما لكن بعبارة النفري الأكثر عمقا ودلالة ”كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” التي لم ننتبه لما يمكن أن تشكّله كمدخل للحداثة في الفن. ..
-
من واقع الحياة اليومية، وإمكانية التقاط المفارقات، وتكثيفها وإحالتها لرسم تشكيلي. هل يمكن للفنان أن يستخدم ريشته كمبضع جراح، يتخطى مرحلة التشخيص؟
*بالنسبة لي واقع الحياة اليومية هو المصدر الرئيس لممارستي الفنية ليس على مستوى المشهد، والأفكار بل يتعداها إلى المواد، والمفردات والعناصر التي تشكّل هذا الواقع. أجد أن على الفنان الغوص عميقا في اليومي، والمعاش ليس لغرض تمثله، بل لرصد ما هو غير معلن منه، وتفكيك شفرته، والإحاطة بمكنونه. حينها يكون فعل الفن فعلا آركيولوجيا، وليس تمثلا تشخيصيا لا يتعدى قيمته الجمالية في التنفيذ.
-
ماذا رسمت لنفسك ولم تُظهره لأحد ؟
*ما فائدة الرسم حين لا تظهر نتائجه على الآخرين، وتشاركهم قيامته وفاعليته. الرسم ليس حاجة ضرورية للفنان وحده، بل يشاركه المتلقي الذي يحتاج أيضا أن يرى ويحاور، ويكتشف، ويصوغ أسئلته الخاصة من خلال اللوحة. الرسم بحاجة إلى مشاركة وجدانية، ومعرفة جماعية. عدم إظهار الفنان لأعماله ليشاركها مع الآخرين هي أشبه بشخص يئد مولوده خوفا عليه من الآخر. اللوحة تتنفس، وتنضج وتعمّر من خلال الآخر، وإلا تتحول إلى كتلة صلدة لا حياة فيها لو قرّر الفنان وأدها.
-
من مبادئ التعبيرية الثورة على مجتمع تسوده أخلاق زائفة، هل لمست علاجاً للمجتمع من خلال الرسم؟
*لا يمكن للرسم أن يعالج المجتمعات، ولا يمكنه أن يغير الأنظمة، ولا يمكنه الوقوف في وجه الشر الذي يسود. لكن وظيفة الفن هي قدح الشرارة في الضمائر، وغرس رؤى جدية، وشحن المواقف. فكلما كان الرسم متمثلا بالذات الإنسانية للفنان، يمتد هذا التمثّل ليغرس في ذوات أخرى. هنا يصبح للفن دور في تحريك الساكن، و طرح الأسئلة. أما الأجوبة، والتغيير فتبقى مهمة المجتمع نفسه.
-
بقي سؤال أخير. ما رأيك بتجارب زملائك الرسامين الشعراء أمثال السوري منذر المصري وأستاذ الأجيال أدونيس. وهل اطلعت على تجربة الاسكوتلاندي ألاسدير غراي Alasdair Gray أحد أهم أعضاء حلقة شياطين غلاسكو ومؤلف العديد من الروايات التصويرية. أرجو أن ترد بصراحة. ودون أي تحفظ. الصراحة ليست حجرة تقتل بل شمعة تنير لأرواحنا طريقها في هذا الجحيم.