نادرة محمود*
( ثقافات )
لم أنظر إلى الاعتصامات التي نُظمت خلال سنة 2011 من منظور سياسي ضيق أو على أساس كونها نوعا من المبادرة السياسية. فانا ومنذ البداية لم أكن كثيرة الاهتمام بالسلوك السياسي المصاحب للأحداث الراهنة، إلا ما يتعلق منه بالحياة المباشرة. وهو امر له علاقة بطبيعة رؤيتي لدور الفنان المبدع. فقد كان جل اهتمامي منصبا على الارتقاء بعملي الفني وتطوير وضعي المعرفي وصقل مهاراتي التقنية. لكن حين بدأت الاعتصامات شعرت ان المسألة صارت تتخطى المفاهيم السياسية المتداولة لتصل إلى الوضع الاجتماعي والأخلاق العامة، خاصة وأن المطالب التي رُفعت من قبل المعتصمين كانت تتمحور حول تحسين الاوضاع المعيشية والقضاء على البطالة واقامة نوع من التوازن الاقتصادي وانهاء حالات الفساد في بعض مفاصل الدولة.
ولقد انطلقت في رؤيتي إلى الأحداث من موقف ايجابي وانا أرى ان الشباب العماني قد استجاب لضرورة التغيير ضمن حدود المقبول تاريخيا في الحالة السياسية العمانية. وهو الموقف الايجابي الذي اتخذته من قبل في مواجهة وقائع الربيع العربي الذي شهدته بعض البلدان العربية. وكما أرى، فان المثقفين العرب في مختلف انحاء الوطن العربي وللاسف لم يتخذوا مواقف ايجابية مناسبة من تلك الوقائع، بل تأخروا كثيرا، حيث سبقتهم الاحداث فصاروا يلهثون وراءها. لقد شعرت يومها ان الشباب العماني اراد من خلال الاعلان عن مطالبه الصحيحة التعبير عن امتزاجه بروح العصر وتفهمه لأسباب ودوافع الربيع العربي.
لقد وجدت ازاء ما يحدث باعتباري جزءا من الوسط الثقافي ورسامة أن علي أن أغادر عزلتي (التي هي جزء من شرط الوجود الفني وديمومته) وأن اكون جزءا عضويا من الصوت العام. الصوت الذي يسعى الى قول الحقيقة التي تعلي من شأن دور الناس في بناء الحياة وتطوير ادواتها وأساليبها. قلت لنفسي يومها ينبغي أن أكون في قلب الحدث الساخن. ولقد دهشت وسعدت كثيرا بمستوى الوعي الذي تميز به الشباب، وقدرتهم على التعبير بطريقة حضارية عن مطالبهم. لذلك كان الوقت يمر بي من غير أن أشعر به. كنت أذهب الى الساحة بعد صلاة المغرب وأبقى هناك الى الساعة الواحدة صباحا.
وحين انيطت بي مسؤولية اللجنة الفنية قررت أن أفعل شيئا في مجال توثيق الحدث، لكن من خلال تقنية فنية متميزة. لذلك قمت بشراء أمتارا من الكانفاس والاصباغ والاقلام الملونة، لتكون هناك وسيلة تعبير مختلفة، غير اللافتات التي تحمل الشعارات وغير الهتاف. مع تلك اللافتات الفنية بكل جمالياتها والتي تبدلت أربع مرات بعد ان امتلأت رسوما وكتابات اكتسب الحدث الشعبي طابعا فنيا. امتزجت على سطح الكانفاس الرسوم والأشعار والكلمات المقتضبة والكتابات الهامشية، فصار هناك حائط مؤقت يمكنه أن يروي حكاية ما جرى بأسلوب فني. ولأني لا أحب الظهور ولا الخطابة، بل أسعى دائما إلى الجلوس في الصفوف الخلفية في كل لقاء، فقد كانت تلك الفكرة وسيلة رائعة لكي اتعرف على تفاصيل يومية، قد لا تكون معلنة أو معروفة. لقد اجتذبت تلك اللافتات الفنية الصغير والكبير، المتعلم والإنسان العادي، المتحمس والمتأني. باختصار كانت فضاءا حرا لتبادل الأفكار الأنية والحوار الجمالي.
وكما أرى فانني من خلال تلك اللوحات التلقائية قد أديت واجبي كفنانة طليعية. لقد أجبت من خلال ذلك الفعل الحيوي على سؤال من نوع: ما الذي يمكن أن يفعله الفنان في اللحظات الحرجة من التاريخ؟ في إمكانه أن يفعل الكثير من جهة قدرته على تأسيس نوع صحيح من العلاقة بالآخرين. لقد غادرت عزلتي وامتزجت بالجمهور العريض، وكان ذلك الامتزاج مفيدا لي لا من جهة التعرف على أحوال الناس المباشرة حسب، بل وايضا من جهة التعرف على المزاج الثقافي لشريحة مهمة من شرائح المجتمع. أقصد شريحة الشباب. حيث فوجئت فعلا بوعي الشباب العماني المتقدم، سياسيا وفكريا وسلوكهم الحضاري حيث استطاعوا أن يعبروا برقي وتهذيب عال عن مطالبهم.
كان ذلك بالنسبة لي حدثا استثنائيا، عشته بعمق ومحبة وإيمان.
غير أنني أنسحبت من الاعتصام حين شعرت ان لغة العقل قد تراجعت. صار الصراخ المتوتر يمتزج بخطاب ديني لا أمل في التفاهم معه أو الخروج به إلى صيغة متعادلة. وهو ما جعلني أشعر أن هناك خطأ قد حدث في مكان ما. خطأ في التفكير كما في الممارسة. لذلك فضلت أن لا أحسب على تيار غير عقلاني، يسعى الى جر الاعتصامات إلى منطقة التوتر. وهي منطقة تبعد الاعتصامات عن أهدافها الحقيقية النبيلة والكريمة وتنحرف بها.
والآن ما الذي تبقى من تلك التجربة الإنسانية العميقة؟
كانت تجربة غنية بالمعاني الإنسانية. تعرفت من خلالها عن قرب على بناة المستقبل العماني. أنصت إلى نبض الشارع. اكتشفت ان الفنان حتى وهو في عزلته يكون مرئيا من قبل الكثيرين ممن يهتمون بالثقافة. لقد تأكد لي أن هناك شبابا عمانيا يفخر المرء به، لتمكنه من التعبير عن حقيقة انتمائه الى الوطن والى الامة والى العصر، بعيدا عن المزايدات السياسية والحماسة الفوضوية. كما خرجت بانطباع ايجابي عن دور المرأة الخلاق في التعبير عن وعي انساني متقدم. صرت على ثقة أكثر من أن لغة الحوار حين تسود فانها تفتح القلوب والعقول معا. حينها يطمئن المرء إلى أن المعاني السامية التي يناضل من اجلها الناس لن تفقد بريقها وقيمها الداخلية. غير أن ما تأسفت عليه فعلا هو أن تلك اللافتات التي هي أشبه بالوثائق الجمالية قد اختفت. هي في مكان ما اليوم. ربما ما بقي منها في الذاكرة هو الأهم. أقول ربما.
* فنانة تشكيلية من سلطنة عمان