“عريس لؤطة”

(ثقافات)

“عريس لؤطة”

سليمان قبيلات

 

.. رنّة “ماسنجر” طويلة تكررها وفاء مرات ومرات من ولاية أُوهايو الأميركية، وخالها في عمّان لا يجيب.

:”كنت بدي افرّحو معي بهالخبر وابعتلو أكمّن إرش. أطيع رزء، عمرو لا رد. بس حرام بعد شوي بارنللو”.

ترسانة مشاعرها انفتحت على مصراعيها، دفعة واحدةً؛ باتت مواطنة أميركية تعمل مستقلة عن زوجها المليونير، وبدخلٍ عالٍ يُضحكها، ملء شدقيها لدى مقارنته بفتات كانته سبعون ديناراً أجرها الشهري في محل النوفيتيه الذي يملكه صاحب الخال .

تذكّرت أن” البومة” زوجة خالها، كانت ” إتأشطني تلتين أجرتي. بس حرام ربوني وهيني ما شاء الله. وعيلتهم كبيرة، أي هيا البسطة تاعة خالي بتجيب شي!”

كانت وفاء ابنة الخامسة والعشرين عاما، تخرج للتوِّ من ” أجمل لحظة في حياتها”؛ أقسمت يمين الولاء للولايات المتحدة. ” وين كنّا و وين صرنا”، كانت الجملة التي تطربها طوال الوقت.

تزوجت رجلاً “مترّس مصاري” على حد وصف صديقتها، حين أخبرتها عن “زبون لؤطة، دخل النوفيتيه في الشميساني ، بدو يشتري إطعة، طلع بإطعتين”.

لم يُبطئ الرجل مُشرقُ الطلعة رغم سبعين عاما على كتفيه في طلب يد العروس الفتيّة “شكلها مزنوءة وبدها تترك الفقر”. قال في نفسه وهو يُجيل الأمر في رأسه ليلاً:” هاي بنت بدها توكل خبز، وما رح تتدخل بحياتي وين رحت ووين جيت. وبركي الله أعطاني خلفة منها. يا رب”.

كان أحمد الريسي رجلاً مثابرا منذ أن وطأت قدماه الارض الاميركية، قبل ٤٦ عاما، بنى خلالها امبراطورية عقارية تدرّ الملايين.

حين ذاع صيت التريسي، حاولت منظمة كبرى للمهاجرين العرب ان تستقطبه إلى صفوفها، ليس متبرعا فقط، بل منّته بموقع قيادي، ورقد يبتسم له الحظ فيغدو عضوا في الكونغرس، إن انتظم في احد الحزبين الكبيرين. أبى التريسي بشدّة “خليني بحالي أريح. بلا من السياسة وأهلها”.

على وجه الخصوص، كان التريسي يرفض أي علاقة مع أي فلسطيني او عربي يشك في أنٍ له علاقة بالتنطيمات الفلسطينية. (يا عمي شو فلسطين ما فلسطين. بعرف بدهم إيّاني اعطيهم فلوسي ليدبحوا اليهود. أيوااا ويمسكني الأميركان. يحبسوني ويروح كل شي منشان عيون فلسطين اللي راحت نهائي. انا مسامح اليهود بأرض قريتنا البروة، نيابة عن أهلها. شو يعني لو ظليت بالربوة؟! كان هسّا مزارع تعبان او صاحب دكان “..

وليحشد مزيدا من الاسباب التي تحصّنه لئلا” ينزلق” فيتبرّع، استدعى من الذاكرة، شراكته في بادئ أمره، مع مقاول يهودي أميركي، نقلته الي عالم الثراء.” والله اليهود احسن واسدأ من العرب الجُرُب. “كثيرين العرب اللي خسروني. يعني هو شو بدو يجي من فلسطين وغير فلسطين الا الخسارة. مبروكة ع اليهود ليوم القيامة. والله يستحقوها” .

تقدم التريسي خاطبا في اليوم التالي للقاء النوفيتيه .

جاء الرجل الذي” لعب على مية دف ودف” في سيارته الاميركية الفارهة، محملاً بهدايا “زغللت عيون خالي ومرتو، ووافأوا زي الطلأ” قالت وفاء لصديقتها قبل أن تستدرك “نسيو انهم كانوا بدهم يجوزوني واحد مألعط من أرايبين البومة. زي ماما بالزبط، جوزوها منشان المصاري، يا خسارة عليها ماما. كانت تحب ابوي الله يرحمو”.

” ياختي نيالك، إجتك ملايين أميركا لعندك، لا ومو بس هيك، رح تصيري أميركية”. قالت صديقتها، وهي تضحك ضحكة تُبطنُ الجدّ ” خليه يشوفلي واحد زيو، لنطلع من عيشة الزفت هون”.

حطّّت وفاء رِحالها في اميركا ملتحقة بزوجها قبل ٤ سنوات، وها هي أميركية” خمس نجوم”.

وهي ابنة شهيد اردته فرقة مغاوير إسرائيلية، بعد مطاردة استمرت ايّاماً، تسقّطت خلالها كل شاردة وواردة عن المسلح المزنّر بالمتفجرات.

زوّد جواسيس منبثون كما الهموم في قلوب المُعدمين، جهاز الموساد: إبراهيم هو ذاته الذي أفلت من قبضة الجيش، حين اردى ثلاثة جنود في مفرزة قرب نعلين، قبل أشهر.

وفاء جميلة كبدر التمام وذكيّة، التقطت بمجساتها الحسّاسةِ، أن زوجها كان في عمّان يواري شخصية منبتةً تماماً عن فلسطين والعرب، عموماً.

ومع العِشرة الثقيلة عليها، بات الزوج مستفزّاً لها بمنطقه الاستعلائي وخيلائه الطاووسية.

وفاء ليست متعلمة، فقد

فصلها خالها من المدرسة، قبل أن تنهي الصف السادس. بكت بكاءً مُرّاً، فقد كانت في المرتبة الاولى في الصف.

ألقت بها ” البومة” في المطبخ “انت شغلتك من اليوم وطالع هون. طبيخ وجلي وغسيل، فهمتي” .

احتشدت في جوانيات وفاء، سبل التفولذ والمقاومة في سجنها المفتوح على زواج قسري توقعته في أيِّ لحظة . كبرت، وإذ بها تُفاجئ الخال َوزوجته: خليني اشتغل بنوفيتيه ارابتك يا خالو. سمعت عنو بالشميساني. بحمل كتف معكم. وهكذا كان .

في طريقها إلى العمل والعودة منه، كانت تقرأ كل شيء عن فلسطين، فيزداد إكبارها للشهداء و تتضاعف ميولها للعودة الى”نعلين” لتسير على طريق أبيها. وارت كل قناعاتها عن الناس، وحرصت على أن تبدو عادية”متلها متل اي بنت”.

كان جمالها يثير حساسية الزوج الذي اخذ يشعر بانها لا تحبه “جامدة وما إإدرت احرك فيها أي مشاعر رغم خبرتي الطويلة. والله انا زير نساء، ما خليت وحدة من شرّي، زي ما بيحكوا”.

بات التريسي نافراً من زوجته التي أسمعته بأنها تكره حتى عطوره الراقية، بل رائحة جسده المخمور.

وباتت مكاشفة المشاعر شديدة الوطأة التي عبرت عنها وفاء، خنجراً في صدر التريسي الذي أقذع التعبير خلال المُلاسنة اليومية”: دم ابوكي راح خسارة. لو عاش حاط راسو بين هالروس، كان ما عشتي زفت عند التعبان خالك. لا تنسى افضالي عليك يا حبيبة فلسطين “.

” ع فكرة من أوّل ما وصلت هون، عرفت انك خنزير، وبعدين كنت تحكي مع اصحابك اليهود بالتلفون قدّامي، تسب العرب وتقدم خدماتك. اسمع ما بينّا الا الطلاق. الحمد لله اني ما خلّفت منك. كان طلعوا خون متلك. انت خاين مو بس بالكلام. انت تتبرع دايما لمنظمات صهيونية، منشان تراكم ثروة الحرام. انا بعرف يا تريسي انك مقامر بنوادي خاصة بنخبة اليهود. يعني ما شاء الله ما ظل إلا اناديك ” مناحي بن شلومو”.

افترقا نهائياً، وإن أقاما تحت سقف واحد.

” لو رجعت لنعلين أفضل. كنت سطحية واغواني بفلوسو”. قالت في نفسها.

تنخرط وفاء في أحد نوادي تعليم الرماية خارج كولومبوس، فتتقن التصويب والإطلاق والتهديف ببراعة.

خِلسةً، تركب الطائرة الى مطار اللِّد. تُقيم بصفتها أميركية في نُزلٍ في الجزء الغربي من القدس. تتعرّف على المدينة التي الهبت خيالَها.

تبتاعُ مجموعة مسدسات من مافيا السلاح الفردي اليهودية، بثمن كبير. تترصّد دوريات الشرطة المتخصصة في الجزء الشرقي من القدس. تتابع بسيارة مستأجرة، دورية قرب باب الاسباط. كان الشرطيون يتمازحون واسلحتهم ملقاة في السيارة.

أطلقت نيران مسدسيها اللذين استلتهما بيديها الاثنتين في حركة اتقنتها في أوهايو.

اردتْ اثنين من الإسرائيليين واصابت ثلاثة. فرّت من الموقع برشاقة الثعلب. رصدتها كاميرات المراقبة.

أُلقي القبض عليها في الليل، بعد تبادل إطلاق نار، أصيبت فيه إصابة بليغة. أسلمت الروح فجراً.ووريت وفاء ثرى نعلين.

بعد أيام كتب احدهم على نصب القبر:

هنا، الشهيدة وفاء ابنة الشهيد ابراهيم علوان:

قبل أن تُردي جنديين للاحتلال ، قدمت مليون دولار، تحويشة ١٠ سنوات من العمل في اميركا لأُسر الشهداء.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *