من تحديات الكتابة


*أمير تاج السر

كثيرا ما يوجه إلي سؤال عن عدم استخدامي حتى الآن، في أعمالي الإبداعية لأماكن عشت فيها طويلا، مثل مصر وقطر، وتمسكي باستخدام مفردات بيئتي الأصلية التي خرجت منها منذ فترة طويلة، ولا أحتك بها إلا فترة طويلة كل عام؟، 

السؤال جميل بالفعل، ويحتاج لكلام كثير حتى تتم الإجابة الجيدة عليه، فأولا ليست كتابة الكاتب الإبداعية تحديدا، مشروطة بمكان معين، حتى لو عشق ذلك المكان وذاب في معطياته وذابت تلك المعطيات فيه، كما حدث لي باندماجي في مجتمع دولة قطر، ومعرفتي التي بت أعرفها عن البيئة الخليجية عموما، وإحساسي الدائم، أنني أستطيع أن أكتب عملا مستوحى من تلك البيئة. كما أن وجود كثير من الشخصيات من حولي، وصلاحية عدد منها لتصبح شخوصا روائيين، يدعم ذلك الإحساس كثيرا. 
أعتقد أنه رغم ما ذكرته، فإن الكتابة تمتلك جنونها الخاص، أي ذلك الجنون الذي يتوجه مباشرة نحو مكان الخبرة الأولى، تلك البذرة، أو الرشفة التي يرتشفها الكاتب حين يولد، ويظل يرشف بعدها، إلى أن يكبر، وحين يأتي للكتابة، في يوم ما، يجدها تستهدف بداية وجوده، وحين ينفلت من تلك البيئة الأولى لسبب أو لآخر، فغالبا ما يظل يكتبها، وهذه المرة مدفوعا بوقود الحنين الذي، يرافق دائما غربة المسافر. 
في وجود دفقات الحنين، تختلف المعطيات كثيرا، تختفي القسوة والجلافة، وملامح خشنة كثيرة من طباع المجتمع الأصلي وتحل محلها اللغة الناعمة، وفي أثناء تأجج نار الحنين، يصبح المنبع، بحيرة من عسل، يتمنى المهاجر لو حصل منه على القليل.
لكن مع تطور الكتابة، وإمكانية أن تلغي المكان المسمى تماما، ويصبح ثمة مكان افتراضي، تدور فيه الأحداث ويمكن أن ينطبق على أي بيئة أخرى، تصبح الإيحاءات متعددة، أي أن ثمة شخصيات من مصر والأردن وقطر، يمكن أن تلعب دورا جيدا ومميزا، في نص سوداني، نجاحات كثيرة حدثت في الدوحة، يمكن أن تزين نصا عن الخرطوم، وشوارع بعينها مستلفة من أي مكان بالعالم، بضجيجها، وحركة مرورها، وتكدس مركباتها، يمكن أن تربط بين عدة أمكنة في نص لا يمت لأماكن وجودها بصلة، وهكذا.
كل مكان يملك خصوصيته، هذا صحيح، ولكن بالمقابل، كل مكان يملك مفردات عامة، يمكن أن يعيرها لمكان آخر، والذي يقرأ نصوصا مكتوبة بهذه الخبرة، لن يستطيع إحالتها لبلد معين. فقط إحالتها لبلد الإبداع الذي هو بلد افتراضي، يعيش داخله كل مبدع حقيقي.
بناء على ما ذكرته، فلدي شخصيات عديدة، استلفتها من مصر بملامحها وسلوكها، ومشاعرها المتباينة، وضعتها في نصوص لي، وشخصيات أخرى صادفتها في الدوحة، ودخلت نصوصا مكتوبة عن الخرطوم، أيضا كان للأسماء دور كبير في إنجاح النصوص، واكتشفت أنه برغم وجود أسماء خاصة ببلاد معينة، ولا توجد خارجها في الغالب، إلا أن استخدامها في بيئات مختلفة، يزيدها تميزا، ويجعلها تركز في ذهن القارئ أكثر، فلا بأس من وجود هندي اسمه: كايتا فلابيل عسكر في رواية عن أرض السودان، ولا بأس أن يدخل البنغالي أبو البشر، رواية تدور أحداثها بالكامل في بلدة طوكر، في أقصى شرق السودان.. هكذا.
ما ذكرته عن المكان وشروطه، ينطبق على الكتابة العفوية، الكتابة التي تأتي غصبا دون تخطيط، وتفكير في احتمالات كسب آخر، بعيدا عن محبة القراء التي نعتبرها كسبا كبيرا ونحتاجها في أي وقت، لكن توجد ما أسميه بالكتابة القصدية، أي تلك التي يخططها كاتب ما، بورقة وقلم، ويضع جميع احتمالاتها، وطريقة الصياغة وحركة الشخوص، قبل أن يبدأ بكتابة أي حرف، وهذا النوع من الكتابة دائما ما أحس بجفاء تجاهه، ولا أدري لم لا يمنحني أي فرصة للتفاعل معه، حتى لو كان كاتبه، من الذين أحب كتابتهم.
لقد كتبت مرة مقالا أسميته: جسر طالبان، وتحدثت فيه عن تلك الأعمال التي كتبها روائيون عرب وغربيون عن أفغانستان، عقب الحرب الأمريكية على كابول، وسقوط جماعة الطالبان، وأقحموا فيها أحداثا غير ممتعة، أرادوا بها فقط أن يكتبوا تشدد طالبان، وتخلفها، وعداءها للمرأة، واستخدامها للدين العظيم كأداة أساءت له، وأعتقد كما أذكر أنني تحدث كنموذج،عن رواية سنونوات كابول، للجزائري: ياسمينة خضرا، التي قرأتها تلك الأيام، وأحسست تجاهها بذلك الجفاء الغريب، ولهذا الكاتب رواية أيضا عن بغداد، تحمل سمات الكتابة القصدية.
الكتابة القصدية، تنطبق أيضا على معظم كتابات ما بعد الربيع العربي، تلك الكتابات التي ظهرت في العامين الأخيرين، وكانت كما بدت لي تعجلا من كتاب أرادوا أن لا تضيع حرارة الثورات من دون أن يؤرخوا لأنفسهم بكتابة عنها. 
بالطبع لا ينطبق الأمر على جميع من كتبوا، فدائما يوجد من يجيد الكتابة عن أي حدث كبيرا كان أو صغيرا، وأظن أن الكتابة عن ثورات الربيع العربي، ستيدو أكثر جمالا، وإمتاعا لقارئها، لو أنها تركت قليلا حتى تستقر البلاد التي ثارت، وللأسف معظمها مضطرب حتى الآن، وابتدأ في التفكك، ولا يوحي بكتابة تحيي أو تمجد الربيع العربي.
إذن ما كان يقرصنه مكان الخبرة الأولى بجر الكاتب إليه، حتى لو هاجر بعيدا، أصبح بالإمكان أن يكتب الآن، في روايات لا ترسم مكانا جغرافيا محددا بقدر رسمها لمكان إبداعي عام، يعيش بداخله الكاتب الجيد، ويستخدم معطياته في أي زمان، وانطلاقا من أي مكان.
*روائي سوداني/ القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *