(ثقافات)
سنوات في مدارات ذلك الراعي
حوار مع د. رضوان السيّد عن إحسان عباس: الإنسان والعالم
حاوره : عامر أبومحارب – باحث وناقد أردنيّ
** مدخل إلى الحوار:
يمثل الدكتور رضوان السيّد آخر العنقود من صفوة الصفوة من زُمَر الباحثين في التراث، ويعدّ هذا الأستاذ الكبير مدرسةً مكتملة الأركان في الكلاسيكيّات التراثيّة: الدينيّة والثقافيّة والأدبيّة، حتى لكأنه ورث نار المعرفة وبقي بها حفيًّا إلى يوم الناس هذا، ولما أن كان الدكتور السيّد أحد أبرز مريدي الراحل إحسان عبّاس حرصت أن أجري معه هذا الحوار عن بروميثيوس المعرفة، وهو اسم أطلقته د. وداد القاضي على إحسان عباس، أستاذها ومشرفها، وهذا الحوار تسيارٌ في سيرة عالمين جليلين، وفصلٌ جديد وباذخ من فصول الصداقة والصداقة، ومحاولة للولوج إلى عوالم الأستاذين عبّاس والسيّد المعرفيّة المتعددة.
-
متى عرفت إحسان عباس؟ ومتى التقيت به أول مرة؟
– أول مرة قابلت إحسان عباس كانت مطلع صيف العام1972 قبل سفري للدراسة بألمانيا. وقتها دعت جمعية المقاصد الخيرية الإسلاميّة ببيروت التي كان يرأسها الرئيس صاب سلام الشيخ عبد الحليم محمود أستاذنا بالأزهر والذي كان قد صار شيخًا للأزهر- ليكون خطيب حفل التخرج السنوي على عادة الجمعية في دعوة الشخصيات البارزة للتحدث في هذه المناسبة. ذهبت إلى مصر – وكنت موظفًا بدار الفتوى- مع نائب رئيس الجمعية ودعونا الشيخ الكبير فوافق وأتى إلى بيروت. وكان من ضمن الترتيبات سؤال الشيخ من يريد أن يرى في بيروت، فطلب رؤية الدكتور إحسان عباس وقال لي إنه كان يقابله عند الأستاذ محمود شاكر بقاهرة الستينات. ذهبت إلى الجامعة الأميركية وقابلت عباس للمرة الأولى وأخبرته بما طلبه الشيخ الكبير فاصطحبني إلى مكتب وداد القاضي ولم تكن حصلت على الدكتوراه بعد، وتشاور معها، وأهدتني رسالتها للماجستير عن التوحيدي وسألني عباس عن الكتب التي أريد أن يهديها لي فطلبت طبقات الفقهاء للعبادي التي كان قد حققها حديثًا. وخلال ذلك سألني: أين سأُقابل محمود – الذي كان يتذكره وبعرفه لتحقيقه للرسالة القشيرية، فقلت له: أنت بالخيار في مكتب الرئيس سلام بالجمعية أو بدار الفتوى أو في الفندق، ونحن نصطحبك إليه، فتردد قليلًا وشجعته وداد لكنه رفض في النهاية. ثم قابلتُه عام 1974 بتوبنغن حيث كنت قد بدأت الدراسة عند جوزف فان أس وأتى هو لزيارته. فلما عدتُ إلى بيروت بعد الدكتوراه عام 1977 تصادف أن تكون شقتي في البناية المقابلة للتي كان يسكن فيها بحيّ الصنائع، فصرت أقابله في منزله بعد السابعة مساءً في أكثر أيام الأسبوع بناءً على طلبه. ثم صرنا نتقابل في كل حين في مجالات التعاون العلمي حتى ترك بيروت إلى الأردن عام 1985، وزرته هناك مرارًا إنما ليس على الوتيرة نفسها.
-
ما الذي دعاك للاتصال بإحسان عباس، أستاذ الأدب العربيّ، وأنت المشغول بالكلاسيكيات الإسلاميّة، والمختص بالتفكير السياسيّ في الإسلام؟
– تخصصتُ بالكلاسيكيات الإسلاميّة، لكنني كنتُ وما زالت مغرمًا بكلاسيكيات الأدب العربيّ في النثر والشعر والتاريخ والسيرة. ولذلك قرأت مبكرًا كتابه في نقد الشعر، ثم كتابه الصغير عن الشعر العربيّ الحديث في سلسلة عالم المعرفة، وبالطبع كتابه عن بدر شاكر السيّاب. وكان هو يعمل في إعادة تحقيق “وفيات الأعيان”، ثم بعد فترة قسمًا من أنساب الأشراف للبلاذري، وجزءًا من الوافي بالوفيات للصفديّ، بتكليفٍ من المعهد الألمانيّ ببيروت. فصرتُ أتبادل معه المصادر، ومع الوقت صار يستشيرني، ويكتب مع وداد في مجلة “الفكر العربيّ” التي كنت أُحرّرها. وتعاقدتُ معه على تحقيق تذكرة ابن حمدون فصدر له بمعهد الإنماء العربيّ الذي أدرتُه بين 1982 و1985 جزءان من الكتاب. وخلال ذلك كله، ولأنني ظللت كثير التردد على مصر وعلى ألمانيا، فقد صرتُ من ضمن شبكة علاقاته في البلدين، مع المصريين، ومع المستشرقين الألمان. وكانت الفائدة الكبرى لي في التعرف على بحوث النقد الأدبيّ، وعلى منهجيات تحقيق النصوص، وعلى دائرة واسعة من المحققين والمثقفين في المشرق والمغرب. وكل الذين عرفتهم بالأردن ومصر تقريبًا من دارسي التراث- خارج دائرة الأزهريين- أدين بمعرفتهم لإحسان عباس الذي كان يقدمني لهم باستمرار مع ثناءٍ جميل، وتوقع بمستقبلٍ باهر في دراسات التراث الديني والأدبيّ. كلّفه البنك العربيّ في الثمانينات بتحقيق كتاب “الخراج” لأبي يوسف فأمددته بمعظم المصادر. وعندما أصدر رسائل ابن حزم، أُغرمت بدراسته التقديميّة إلى حدود الحفظ. وكان ينتهز كل فرصة ليذكرني في تقديمه للتحقيقات وفي الحواشي، باعتبار أنني نبهته إلى هذا الأمر أو ذاك، وكان رحمه الله يبالغ في ذلك! وهذا فضلًا عن عمليه الكبيرين على رسائل عبد الحميد والوزير المغربي، واللذين أقبلت على كتابة دراساتٍ عنهما. وحتى في نصوص الفكر السياسيّ، صار يُمدُّني هو ووداد بصور المخطوطات في هذا المجال من المغرب والأندلس، وما كنتُ أعرف في الأصل غير لسان الدين ابن الخطيب. فلما أصدرت عام 1983 “الإشارة إلى أدب الإمارة” للمُرادي مع الدراسة التقديميّة تحمس كثيرًا وظلّ يكرر على أسماعي أمام الآخرين: إنه عملٌ مُذهل! وأخذني معه للسهرة ببيروت مع الطيب صالح، وافتخر بي حيث نافستُ الطيب في حفظ شعر المتنبي والسيّاب.
-
تلمح في بعض ما كتبتَ عن إحسان عباس إلى أن مشروعه… كان نهضويًا؟
– كانت عندي فَرَضيّة كان عباس – بخلاف وداد – متشككًا فيها، وهي أنّ المستشرقين الألمان على وجه الخصوص هم الذين نشروا فكرة التاريخ الثقافيّ العربيّ باعتبار ذلك مشروعًا للإحياء والنهوض. فقد نشروا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مخطوطات عربية عظيمة في التاريخ والجغرافيا واللغويات والأدب والشعر والفلسفة والأخلاق من القُرون الأربعة الأولى للإسلام. وقد أدّى بهم ذلك إلى التحوّل عن الحفر على أصول القرآن إلى التأريخ للثقافة العربيّة الغنيّة جدًا في مرحلة الانبثاق. سلك الكلاسيكيون الألمان المسلك نفسَهُ في البحث عن الأصول والهُويّة عند اليونان والرّومان. ولذلك نشأ لدى المستشرقين (بالمعنى الواسع) توجُّه دراسة الحضارات عند اليابانيين والصينيين والهنود.. والعرب. وكانت ثقافاتنا التاريخيّة هي الأغنى بدثائرها العلمية والثقافيّة المخطوطة. فإذا أمكن النهوض واستعادة الهوية الأوروبيّة الجامعة من طريق دثائر اليونان والرومان، لماذا لا يمكن البحث في الهوية والتاريخ الثقافيّ والإحياء بنفس الطريقة لدى العرب، للمعرفة والاستحثاث على البعث الثقافيّ. وقد التقط المصريون هذه الفكرة أولًا (لنقارن أحمد زكي باشا، شيخ العروبة) ثم انتشرت بين سائر المحققين والدارسين العرب في الربع الأول من القرن العشرين: قامت مدرسة دار الكتب في التحقيق، ثم مدرسة جامعة القاهرة. وأنا أعتبر إحسان عباس من نهضويي هذه المدرسة (قارن بكتابي: التراث العربيّ في الحاضر). ولنلاحظ أنه بالتوازي مع التحقيقات الكبرى، بدأت دراسات التاريخ الثقافيّ الكبرى عند جورجي زيدان والرافعي وأحمد أمين (فجر الإسلام، وضحى الإسلام)، ومحمد كرد علي: الحضارة العربيّة..إلخ. وإحسان عباس تلميذ أحمد أمين وطه حسين وآخرين بجامعة القاهرة في الأربعينات، وقد تابع هذ التوجه النهضويّ وطوَّره وأبدع فيه حتى صار مدرسةً بحدّ ذاته. لكنه يدين أيضًا بهذه المزاوجة بين النهضوية الكلاسيكية والحداثة لسنواته في الكلية العربيّة بالقدس قبل ذهابه إلى مصر. إحسان عباس فريدٌ من نوعه في الثقافة العربيّة الشاسعة وفي المعرفة الشاسعة أيضًا بالحداثة في نظرية الأدب والنقد الأدبيّ وتاريخ الأدب.
-
يمثل إحسان عباس مدرسةً في تحقيق النصوص… كيف تنظر إلى جهوده في هذا الحقل؟
– إحسان عباس صاحب نظريّة في التاريخ الأدبيّ، وفي إنشاء مدرسة لدراسات الأدب الأندلسيّ بدءًا بعمله على صقلية. وقد كنتُ في بداية تعرفي عليه أشبِّهه بزميله الأكبر سنًا منه بجامعة القاهرة شوقي ضيف. لكنّ ضيف ما عمل في التحقيق، وكان سرديًّا متميّزًا لكنه ليس أكثر من ذلك. ثمانون بالمائة من نشرات إحسان عباس للنصوص شواهد على رؤيته للتاريخ الأدبيّ العربيّ. ثم لن تجد أحدًا مثله (ربما باستثناء محمود شاكر وعبد السلام هارون) في معرفة وقراءة الشعر العربيّ القديم. ولننتبه إلى أنّ الأستاذ لا يحتاج للمعرفة فقط؛ بل يحتاج إلى الاستقرار. وقد توافر له ذلك على مدى خمسٍ وعشرين سنة بالجامعة الأميركيّة ببيروت. وفي حقبته الأردنيّة أصدر أجزاءه في تاريخ بلاد الشام. وعمل مع إبراهيم السعافين وبكر عباس على نشرةٍ لكتاب “الأغاني”. لكنّ صحته ما ساعدته أكثر. وقد كان ينتوي إصدار نشرة جديدة لابن خلدون بالاشتراك مع الأستاذ إبراهيم شبوح الذي تابع تلك النشرة الممتازة بعده. ما كان إحسان عباس آلةً متميزةً في نشر النصوص، بل كان عقلًا قارئًا بالدرجة الأولى، ودأَبًا لا يُصدَّق في المتابعة والإتقان. رأيت خطّه الدقيق والجميل لمجلدات مخطوطة “الذخيرة لابن بسام” وقد خاف عليها عام 1982 فنقلناها إلى توبنغن. رحمه الله لقد كان أعجوبةً في التفكير والعلم والوداعة الواعية.
-
5. كتب الدكتور كمال عبد اللطيف في كتابه عن “الآداب السلطانية” أنّ إحسان عباس ورضوان السيد ووداد القاضي ينتمون إلى مدرسة واحدة في تحقيق النصوص؟
– صديقي كمال عبد اللطيف ربما أراد بذلك امتداحي وامتداح وداد. نحن لا نُقاسُ بعباّس. لقد تعلمتُ منه كثيرًا في قراءة النص، وفي صنع الحواشي والفهارس، وأطلتُ أكثر منه في المقدمة الدراسية للنشرات. إنما ما كان لديّ صبره في نشر النصوص الطويلة. وفي الإصرار على متابعة كلّ نصٍ من الأول للآخر. قلت مرةً له ولفان أس وقد اقبلا على امتداح نشرتي ومقدمتي الدراسيّة على كتاب الماوردي: “تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك”: أنا وقعتُ بين شخصيتين لا يمكن مجاراتهما: إحسان عباس في نشر الطِّوال العظيمة، ويوسف فان أس في الدراسات العَقَدية الطويلة الطويلة. كان ينبغي أن أنشر أنا ابن عساكر وأكتب عن رُؤيته للتاريخ، وقد انتظرني الناشر خمس سنوات. وكان ينبغي أن أكتب أنا تاريخًا للعلم الكلام الإسلاميّ. وفي النهاية كتبتَ أنت يا يوسف تاريخ علم الكلام، وأنتَ يا إحسان كتبتَ ونشرتَ نصوص الأدب العربيّ وتاريخه. وقد اهتمّ إحسان عباس ووداد القاضي بالفكر السياسيّ الإسلاميّ، لكنهما لم يُتابعا ذلك، بينما نشرتُ عشرات الدراسات والنصوص فيه، وصارا يمدانني هما بالمخطوطات والمعلومات كما سبق أن ذكرت. المجال مختلف والمنهج مختلف، أنا أكتب في تاريخ الأفكار والمفاهيم، وإحسان عباس يكتب في التاريخ الأدبيّ. إحسان عباس كتب التاريخ الأدبيّ العربيّ، وأنا لم أستطع كتابة تاريخ الفكر السياسيّ العربيّ الإسلاميّ (أو ما أُسميه: التفكير بالدولة) حتى اليوم، مع أنني فكرت في ذلك منذ العام 1978! وبالمناسبة لا أتفق مع كمال عبد اللطيف ولا مع أستاذنا الراحل محمد عابد الجابري في رأيهما في فهمهما للآداب السلطانيّة والعقل السياسيّ العربيّ. إحسان عباس ورضوان ينتميان إلى مرحلتين مختلفتين في الثقافة العربيّة الحديثة. هو ينتمي إلى الحقبة التاريخانيّة والنهضويّة، وأنا أنتمي لسوء حظي إلى المرحلة الأيديولوجية التي ما أزال أُكافح للخروج منها وعليها.
-
6. إنشغلْتَ بكتابي إحسان عباس عن الوزير المغربي وعبد الحميد.. لماذا وهل لذلك علاقة بمشروعك في البحث في موضوعة التفكير السياسيّ في الإسلام؟
– كما ذكرت في سؤالك لأنني قرأْتُ ما اعتبره إحسان عباس نصوصًا أدبيةً رفيعة (وهي كذلك) قرأْتُها باعتبارها تراثًا في التفكير السياسيّ. والتفسير نفسه كنت أريد إعطاءه لرسائل المعري التي نشرها أُستاذنا، ولمجموعة النصوص أو دثائر الكتب التي جمعها عن “أدب الثغور”. الذين نشر لهم إحسان رسائل ما كانوا مجرد كتّاب في النثر الفني، بل كانوا أيضًا – حتى المعري- معنيين بالمجال العام والسياسيّ. دائمًا – وأحيانًا في شيئٍ من الإسراف- أقرأ النص في المفهوم والدلالات في السياق التاريخيّ والسياسيّ والأيديولوجي؛ لأنّ عقدتي منذ أطروحتي عن “ابن الأشعث والقراء”(1977) هي العلائق بين الدين والدولة. إحسان عباس أُعجِب بمراجعتي لكتابه عن رسائل عبد الحميد. وزعم لي باسمًا أنه استفاد منها ورَجَع إليها بعد عشرين عامًا عندما كان يكتب أجزاءه في تاريخ بلاد الشام. أما دراستي ومراجعتي لرسائل الوزير المغربي فلم تعجبه، وقال: إنّها موغلةٌ في الغرابة. بالنسبة له كان الوزير المغربي أديبًا كبيرًا، وباطنيًّا إسماعيليًّا، وأنا رأيت أنها جزءٌ من الصراع بين الفاطميين والعباسيين، وذات دلالة في التحولات العقدية والاستراتيجية الكبرى بين السنة والشيعة. من زمان، من الثمانينات تخلصت من قطائع باشلار وفوكو، ودخلت في المنهج التاريخيّ لمدرسة الحوليات الفرنسية لجهتين: جهة تغيير الرؤية للعصور الوسطى الأوروبيّة والإسلاميّة، وجهة القول بالتغيير “في المديات الطويلة” (فرنان بروديل). وكنت أتناقش مع إحسان عباس منذ أواسط الثمانينات في أطروحة التاريخ الشامل وفي نطاقه هناك تلازُمٌ بين الآثار الفكرية والآثار الأدبيّة الشعرية والنثريّة للسوائد والمتغيرات. وما كان هو مقتنعًا بذلك، ولديه شواهد من الأندلس والمغرب وخُراسان وبغداد؛ لكنه كان مقتنعًا أن الأدبيّات أكثر حساسيّةً للمتغيرات من الفكريات.
-
أين يتقاطع الدكتور رضوان السيد مع إحسان عباس؟
– نتقاطع في أنّ القراءة الدقيقة للنص (بالتحقيق) هي منطلق كل دراسةٍ أو تفسيرٍ أو تأويل أو فهم للشخصيات والمراحل التاريخيّة. ونتقاطع في النهج الدراسيّ باعتبار أنّ أطروحات المستشرقين – وليس نشراتهم للنصوص فقط – ينبغي أن تظلّ موضع اهتمامٍ وإن كانوا يخطئون كثيرًا في الرّؤى الشاملة، في حين يبدعون في التفاصيل. وكان يقول لي باسمًا وهو يرى إلى غرامي بإدوارد سعيد وكتابيه في “الاستشراق” وفي “الثقافة والإمبرياليّة”: يا أبا الرضا (وهو لقبٌ أعطتني إياه العزيزة وداد القاضي) هل تظنّ أنّ إدوارد سعيد وهو الناقد الأدبيّ الكبير في نطاق الثقافة الغربيّة، قد قرأ بعناية التراث الفيلولوجيّ والأدبيّ للمستشرقين الإنجليز والفرنسيين وبخاصةٍ أنه يعرف اللغتين، أم أنه التهى بجماعات الأيديولوجيا الاستعمارية؟! وكنت أُجيبه: لا أظنه يعرف كثيرًا في التاريخ الأدبيّ والفكري العربيّ بحيث يستطيع تمييز الجيد من “الاستعماري”(!) في أعمال المستشرقين حول التاريخ الأدبيّ العربيّ؛ لكنني مغرمٌ به لأنني أعتبر كتاباته وأحكامه بمثابة “كشف حساب” للعلائق بين حضارتين في مرحلة تأزُّمٍ واستقطابٍ بالغ. وقبل إدوارد سعيد وبعده صارت أيديولوجيا “الخطاب الاستعماريّ” تيارًا من فرانز فانون وألبير ميمي وطلال أسد وإلى إدوارد سعيد والمفكرين الهنود اليساريين وبعض مثقفي أميركا اللاتينيّة، وهو ما صار يُعرَف منذ عقدين بدراسات “التابع” والذي أخبرتموني أنكم تعملون عليه.
-
حول عمل إحسان عباس في التحقيق؟
– كنّا نمزح أنا ووداد وعلي ذو الفقار شاكر (ابن أخ محمود شاكر) وفؤاد السيّد المحقق المعروف أنّ إحسان عباس يستطيع قراءة سطرٍ ممحوٍ أو سطرين في مخطوطة، وإذا وُجدت منها نسخةٌ أخرى فسيتبين أن عباس ما أخطأ فيما قدّره. إلى هذا الحدّ كان إحسان عباس متضلّعًا في قراءة النص الأدبيّ والتاريخيّ. وكان المستشرقون يقصدونه إمّا لقراءة الغوامض من المفردات في المخطوطات أو أسماء الشخصيات أو ما إذا كان يعرف نُسَخًا من هذه المخطوطة أو تلك لا يعرفونها. إنما الأهمّ أنهم كانوا يسألونه عن أهميّة المخطوطة أو الموضوع. عباس نادر المثال في قراءة النص. ولا أعرف في جيله مثله. ربما كان هناك أُناس من الجيل السابق بمصر أو سورية أو العراق، يماثلونه أما فيمن أعرف وأقرأ لهم منذ السبعينات فلا مثيل له. ولطالما اختلفنا وكان الحقُّ معه دائمًا. ولا أدري من أين أتاه التّفرّد بهذه الحساسية الدقيقة، فقد كانوا جيلًا واحدًا بجامعة القاهرة مثل ناصر الدين الأسد ومحمد يوسف نجم وإحسان عباس وشوقي ضيف، وذهبوا جميعًا إلى محمود شاكر من خارج الجامعة، وبالمناسبة كان محمود شاكر يحترمه ويعتبره ندًّا له. حقّق عباس أو راجع أكثر من خمسين نصًا بعضها عدة مجلدات. وساعد عشرات منهم أنا في تحقيق نصوص أو دراستها. فهي تجربة طويلة تحولت إلى بصيرة أو ما يشبه الطبيعة الثانية أو الفطرة، كما يقال. وبالمناسبة ما كان عباس يتحدث بالفصحى بل بفلسطينيّة عامية، وكان يسخرُ مني عندما أصرُّ على استعمال الفصحى في حديثٍ عاديّ.
-
كان إحسان عباس غزيرًا في التأليف والتحقيق والترجمة، ما أبرز أعماله.. إلخ؟
– عندما تعرفت على إحسان عباس كان قد كفّ عن الترجمة. إنما في الخمسينات والستينات كانت له ترجمات عظيمة مثل موبي ديك لهرمان ملفيل، ومقال في الإنسان، وأسطورة الدولة لكاسيرر. وقد سمعت من عديدين (منهم جابر عصفور) أنّ ترجمة موبي ديك أعجوبة وبخاصة في المعجم البحري وأسماء الأسماك المتنوعة… إلخ. أما من كتب التأليف فسيِّدُ كتبه تاريخ النقد الأدبيّ العربيّ، نقد الشعر. وقد أخبرني الدكتور جابر عصفور أنّ الكتاب كنز سَرَق منه الجميع ولم يذكره معظمهم! وفي التحقيق هناك “وفيات الأعيان” و”الذخيرة”. وأنا أذكر ذلك على تردد لأنّ كلّ أعماله التحقيقية ممتازة، ومنها “رسائل ابن حزم”، و”رسائل المعريّ”.
-
عاش إحسان عباس فترةً من حياته ببيروت، ماذا تذكرُ منها الآن؟
– عاش بحسب تقديري خمسًا وعشرين سنة في بيروت تقريبًا. وفي المرحلة الثانية منها عرفته وصاحبته وتتلمذتُ عليه. قلت من قبل إنّ الاستقرار مهمٌ للعالم والأستاذ، لذلك كانت حقبة بيروت أطول الفترات وأغزرها إنتاجًا. بيروت في الستينات كانت البيئة الأولى للنشر في العالم العربيّ، ثم إنّ كلَّ المثقفين والشعراء والكتّاب العرب كانوا فيها أو يمرّون بها أو يزورونها:
تمامُ الحجِّ أن تقفَ المطايا على خرقاء واضعة اللثامِ
وما عشتُها حقًّا لأننا كنا صغارًا وقضيتُ نصفها في مصر للدراسة. وما كانت مصر أقلّ في الاستقبال والازدهار لكنها كانت مختلفة عن بيروت. ولأضرب مثلًا: مكتبتي بدأت بالتكون إذ ذاك في قسميها الدينيّ والتاريخيّ. عدتُ من مصر بثمانية آلاف كتاب ما كلفتني أكثر من عشرة آلاف جنيه. وفي السنتين اللتين قضيتهما ببيروت موظفًا بدار الفتوى اشتريت ألفي كتاب بحوالى الخمسة عشر ألف دولار. قال لي إحسان بعد أن أقفرت بيروت بسبب الحرب الداخليّة: يا أبا الرضا زارني اليوم بالجامعة فلان آتيًا من السودان لينشر كتابًا، وكنت قد نصحته بعدم المجيء. ذهبت معه إلى دار الثقافة وسلّم المخطوط ويصدر الكتاب بعد عشرة أيام، لكنّ تكلفة الإقامة في الفندق أعلى، وهو رغم ذلك شديد السرور؛ لأنه رأى بيروت. كانت في منزل إحسان عباس مكتبة صغيرة يعملُ فيها صباحًا قبل الذهاب للجامعة فيها حوالى الألفي كتاب، ورأيت حوالى الألف في مكتبه بالجامعة. كان اعتماده على مكتبة الجامعة وهو ما لم أستطعه أنا لأننا بالجامعة اللبنانيّة وبكلية الآداب لم نكن نملك مكتبة! كان يعمل من خمس إلى ست ساعات بين الصباح والمساء، وكانت تُعرَض عليه كتب للتحقيق أو التأليف؛ إنما الغالب أنه كان له برنامج للتحقيق والتأليف وهو طويل المدى. وكان ينفِّذه غالبًا إلّا عندما تَحُول دون ذلك التكليفات أو الالتزامات العارضة. هل تأثر برنامجه بالشهرة؟ نعم بعد العام 1970 كثرت عليه الطلبات وفي التحقيق أكثر من التأليف. وكان لا يستطيع العمل في فريق أو معه، لكنه كان يستعينُ بطلبته في الفهارس، وينشر وحده مهما كان العمل طويلًا. عندما تعاقدت معه على نشر التذكرة الحمدونية قدّر أن تكون في عشرة مجلدات مع الفهارس وخلال سنتين. لكنه لم ينشر إلّا مجلدين لأنني غادرتُ إدارة معهد الإنماء فتعذّر إكمال الكتاب ثم فقد هو الاهتمام به، وأعرف أنّه كان عنده عرضان. كان يقول: التحقيق صعب ومملّ، لكنّ التأليف شائك وإشكاليّ. وفي الأغلب الأعم كان راضيًا بعد أن تخرّج أولاده بالجامعة وغادروا المنزل وخفّ عنه العبء المادي. ثم إنه صار بالفعل مشهورًا. وكَثُر زائروه وطالبوه. ونشر مع أربعٍ من دور النشر هي: دار الثقافة، ثم دار الشروق بالقاهرة، ودار الشروق بعمّان- ثم استقر مع دار الغرب الإسلاميّ عند صديقه الحاج الحبيب اللمسي -رحمهما الله- فيما بين بيروت وعمان.
في إحدى الجلسات المنزليّة بعمان مع إبراهيم شبوح وإبراهيم السعافين في أواخر التسعينات كان يقارن بين فتراته في الخرطوم وبيروت وعمّان فقال: عمّان وطن. لكنّ التفاضل بين الخرطوم وبيروت وما رأيتُ أحسن من صحبة السودانيين، إنما حسبُ المرء العالم أو المثقف أو التاجر أن يكون قد أقام في الستينات في بيروت! تغادر القاهرة فتظلّ تذكرها أو تنساها، أما بيروت فهي مثل حقيبة تبقى على الظهر دائمًا!
-
كيف تلقّى إحسان عباس مقالاتك عن كتبه؟
– كان مسرورًا جدًّا رغم أنه كانت هناك مراجعات أخرى جادّة لكتاباته بعد أن اشتهر. قال لي مقالتك عن عبد الحميد أهمّ وتستطيع قبولها أو استبعاد أفكارها دونما إزعاج. هي قراءة في المفاهيم والأيديولوجيا الظاهرة. أما مقالة الوزير المغربي فهي مشكلة، لأنّك تقرأ النص والشخصيّة بطريقة مختلفة، ولا أُحبُّ الطريقة الحزبّية التي قرأتَ بها النصّ وأظنّ أنّ العصبيات وقتها ما كانت بهذه الحدّة، وإلّا كيف تنقّل المغربي بين كل هذه البلاطات!
-
كيف كان إحسان عباس ينظر إلى مشروعك في الفكر السياسيّ العربيّ الإسلاميّ؟
– كان إحسان عباس يرى أنني افتتحتُ مجالًا أكاديميًّا مهمًا لجهة اتجاهات التفكير بالدولة. لكنه كان مهمومًا بأنّ أفكاري تخالف الاتجاه السائد عن الخلافة وعلائق الدين بالدولة. إنما علمت من بعد على أثر حصولي على جائزة عبد الحميد شومان عام 1985 أنّ المحكَّمين الرئيسيين كانا قسطنطين زريق وإحسان عباس وقد أبديا إعجابًا بالغًا بكتابيَّ الصادرين حتى ذلك الحين: “مفاهيم الجماعات في الإسلام”، و”الأمة والجماعة والسلطة”، ونشراتي لكتب الماوردي والنصوص الأخرى في مرايا الأُمراء. كانت علاقتنا قد تجاوزت التلمذة إلى الصداقة والزمالة، وصار كلّ نقدٍ بناءً.
-
ما قصة لقب “قمر الزمان” الذي أطلقه المستشرقون على إحسان عباس؟
– كما سبق القول؛ فإنّ المستشرقين الألمان -على وجه الخصوص- كانوا يلجأون إلى إحسان عباس في كل آن بسبب وجود المعهد الألماني للأبحاث الشرقيّة ببيروت؛ فيحلُّ لهم المشكلات في قراءة النصوص وحتى في التأويلات. والذي أعرفه أنّ هلموت ريتر ورومر وفيلد وفان أس هم الذين أطلقوا عليه هذا اللقب تحببًا فشاع في سائر دوائر الاستشراق الكلاسيكي. وما عاد منهم أحدٌ حيًّا الآن غير أسطفان فيلد أطال الله عمره.
-
ترى أنّ “الأسى الشفيف” الذي ورد في قصيدة السيّاب يمثل مفتاحًا من مفاتيح شخصية إحسان عباس، كيف كان ذلك؟
– لا أكتمك الاعتراف أنني فوجئت وفُجعت بغربة الراعي. وقلت لإحسان إنها تشبه الاعترافات في السِيَر الفرنسية، وهي أفظع من ذلك. وقلت ذلك في الاحتفال الذي أُجري له بعد وفاته بالمركز الملكيّ بعمّان. صديقي الناقد فيصل دراج كان شديد الإعجاب بما ورد في سيرة الغربة، أما أنا فسميتها “الغربة الغربية”. الأسى يحوط الشخصية الإنسانية الفلسطينية وهذا معنى “الأسى الشفيف”، وكما تعلم فإنّ إحسان عباس كتب دراسةً عظيمةً عن السياب. إنما في “غربة الراعي” هناك فجيعةٌ بكل شيئ. وإحساس عميق بخيبةٍ فاغرة ما كنت أعرفها ولا أتوقعها:
وتزعم أنك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر
وداد القاضي في: من الذي سَرَق النار، اعتبرته مثل برومثيوس. بينما آثر السعافين للكتاب التذكاريّ الثاني عنوان: في محراب المعرفة. وأنا مع المثال المعرفيّ. إنما لكلّ نموذج جوانبه الآسية والمأساوية. وداد القاضي ورمزي بعلبكي أشهر تلامذته بالجامعة الأميركية، وإبراهيم السعافين وبكر عباس ورضوان السيد من الذين مسّتهم محبّته والغرام به بين كثيرين. ولدى الجميع لا تفترق الشخصيّة الإنسانيّة عن الشخصيّة العلميّة.
-
السؤال الأخير: كيف يتمثل إحسان عباس في وعيك المعرفي وذاكرتك الإنسانية بعد عشرين عامًا على وفاته؟