قراءة في رواية ” ثوب أزرق بمقاس واحد” لهيڤا نبي
رائدة نيروخ
كان هو اليوم الخامس بعد انجابي لطفلي البكر أسامة، البيت يغص بالزوار، ضحكاتهم تملأ المكان، ضجيج حركتهم وصوت المواعين وهم يحضرون لوليمة الغذاء يحرمني من النوم، وبطبيعة الحال لا أحب النوم نهاراً، لكن شعرت فجأة بأنفاسي تكاد تختنق، لا يمكنني مشاركة الجمع في حركتهم، جسمي مقيد بأغلال ألم ما بعد الولادة، ثقيلة هي حركتي، وهم بخفة الفراشات يتنقلون، وبدون سابق إنذار ، ما أن اجتمعت النسوة من حولي حتى انفجرت عيناي بالبكاء، اعتذرت وكان العذر اقرب للاعتراف بما أنكر، ” ليس بسببكم أبكي، لا أعرف ما بي” ، وانخرطت ببكاء هستيري لم توقفه كلمات اعتذار النسوة عن ازعاجي ،وتلك الوليمة التي لم تكن في وقتها.
أعادتني قراءة رواية ” ثوب أزرق بمقاس واحد، للكاتبة هيڤا نبي، إلى ذكرى تلك الحادثة، والأيام الثقيلة لاكتئاب ما بعد الولادة.
لذا لا يمكنني الكتابة عن هذه الرواية بحيادية، ولن أدعي الموضوعية أبدا، فلا الأدب ولا النقد بطبعهما الموضوعية، فهما التجلي الأوضح لانصهار الذاتية وتماهيها مع النصوص.
قيل لي مرة ” أحب قراءة ما لم أعايشه، لذا أميل إلى قراءة الأعمال الفنتازية، أما الواقع، فلا حاجة لي بالقراءة عنه، فقد عشت تفاصيله وأيامه، وما القراءة إلا فعل هروب مستمر مما نعرف إلى ما نود أن نكونه “.
لكني قلت معترضة: لكنني أحب الواقع، ولا طاقة لي بالخيال الفنتازي، والمخلوقات الأسطورية، والقطط التي تسقط من سماء موراكامي وغيره.
لكني في حقيقة الأمر كنت أحب قراءة أي عمل واقعي عن تجارب حياتية في بيئات مختلفة، عدا الأعمال الروائية التي تقارب وتحاكي الوقائع التي عشتها.
لذا، كنت أؤجل عن وعي وسبق إصرار قراءة هذه الرواية، وكنت قد اطلعت سابقا على مسودتها الأولى أثناء جائحة فيروس كورونا، قرأتها وكأن مرآة تعكس أمامي تجارب قد عشتها سابقا.
وأدركت حينها أنني أمام عمل يحسن ترصد هواجس النساء، ودواخلهن، لذا أجلت اللقاء بالرواية بنسختها النهائية خوفا من تلك المواجهة مع الذات والذكريات.
اللامسمى
” تنتهي نصف معاناتنا إن تمكننا من تسمية ما يؤلمنا” ثوب أزرق بمقاس واحد
قد تنحى الثقافة الشعبية إلى تجاهل ما لا يمكن تسميته، والتعامل معه كأنه شيء غير موجود.
التسمية هي ما تمنح شهادة اعتراف مجتمعي للشيء، وما لا يسمى يصعب الإقرار بوجوده مهما كانت شدة آثاره، بدون مسميات للأشياء يصعب تفسيرها، لكن انتزاع اعتراف مجتمعي يستوجب اتفاقا على ماهيته وكيفية التعامل معه.
في هذه الرواية كان ” اكتئاب ما بعد الولادة”، الذي لم تسمه الكاتبة باسمه ولو لمرة واحدة، هو ما حاولت الكاتبة انتزاع اعتراف مجتمعي بوجوده.
اعتراف بأن ١٥٪ من النساء يصبن به، وأنه يتطلب رعاية صحية ونفسية للمرأة، وقد تبدأ أعراضه في أثناء فترة الحمل، لذا يسمى أحيانا ” اكتئاب الفترة المحيطة بالولادة”، وهناك ما يسمى ” الكآبة النفاسية”.
يتقاطع عنوان الرواية ” ثوب أزرق بمقاس واحد” مع فكرة انتزاع اعتراف بهذا اللامسمى الذي تصف أعراضه الكاتبة في يومياتها.
يمكن القول إن “الثوب الأزرق ” كناية عن النزعة الذكورية التي قد تعتنقها بعض النسوة أيضا، وتفترض تلك العقلية أن هناك ” ثوبا بمقاس واحد” أي أن هناك طريقة واحدة مقبولة، ومفصلة بمقياس تلك العقلية الذكورية، وكل ما على النساء هو ارتداء ذاك الثوب، فالآخر هو الأدرى بالمقاس المناسب لتصرفات المرأة، المقاس المناسب لردود أفعالها، والمسمى المناسب لذاك اللامسمى الذي تعاني منه المرأة.
” الكون عقل، تديره عقول متشابهة.”
جاءت الرواية صرخة احتجاج على تلك الوصاية المفروضة على النساء، ثورة على المقاس الواحد والعقلية التي أوجدته، وثورة على العيون التي تسهر لمراقبة كل من تجرأ على انتزاعه.
يجد القارئ استجابة واحدة للزوج ديدار في الرواية كلما اشتكت له زوجته من حالتها التي ليست على ما يرام عقب انجاب طفلتها ” ماف” فرد فعله الأوحد على كل شكواها، أن عليها أن تأكل المزيد من كبد الدجاج الذي لا تستسيغه زوجته أبدا، أو النوم، و سيختفي كل شيء: الشكوى من تقلبات المزاج، الشعور بالوهن، ضعف الرغبة الجنسية، الحزن، الهلاوس والتخيلات، الرغبة بالبكاء، صعوبة النوم، التقلبات المزاجية، سهولة الاستثارة، والشعور بالضغط الشديد، ، والرغبة بالانعزال و الابتعاد عن العائلة و الأصدقاء، وصعوبة التفكير و التركيز أو اتخاذ القرارات ، وقلة الاهتمام والاستمتاع بالأنشطة التي كانت تبعث على المتعة ، والشعور بانعدام القيمة والعجز والذنب أو الخزي، أو الخوف من ألا تكون أما جيدة، ونوبات الهلع والقلق الشديد، و سيطرة الأفكار الانتحارية أو أفكار تتعلق بإيذاء النفس أو الطفل الرضيع.
كل هذه الأعراض لاكتئاب ما بعد الولادة أتقنت الكاتبة تمثلها في يومياتها، التي عنونت بعضا منها بعنوان يتناسب مع أحد اعراض اكتئاب ما بعد الولادة مثل ” انتحر أو لا أنتحر، هذه هي القضية”، ” لذة متبلدة”، ” عفاريت ضاحكة”، ” مجنونة العلية”، ” استعارة الجسد”، ” ومم تأتي القيمة؟”، ” كيف نعيش ببساطة؟ “، ” حرب داخلية وحرب خارجية”، ” ما فائدة الصحوة؟ “، ” هشاشة”، ” الوحش في الداخل، الوحش في الخارج”.
فيما أتت باقي اليوميات لتعبر بمضمونها عن باقي الأعراض الاكتئابية التي تعاني منها البطلة التي لم يذكر اسمها على طول صفحات الرواية، وكأنها تفتقد لاعتراف الآخر بها، فيما عمدت البطلة إلى الإشارة لابنتها “بالطفلة” عوضا عن ذكرها باسمها “ماف” والتي تعني بالكردية “الحق،” حقها في الوجود، وكأن تجاهل الأم لمناداة الرضيعة باسمها يعبر عن نوع من الانفصال العاطفي، فهي لا تشعر بأن هذه الطفلة طفلتها، ليست ماف الخاصة بها، وكأنها تنسحب من ظلال تلك الصورة النمطية التي تصور دوما مشاعر الأمومة بالالتحام العاطفي التام مع المولود، فبعض النسوة يقف الاكتئاب حاجزا بينهن وبين تلك المشاعر، بل يلقون باللوم لا شعوريا على هذا الكائن الضعيف الصغير الذي بدّل حياتهن وأجسادهن.
” أعجز عن إرضاع الطفلة… يحدث صراع بين رغبتي في إسكات جوعها وبين رغبتي في الكف عن تغذية هذه الحياة الوردية والبريئة براءة وحشية”.
” ما افتقده الآن هو الشعور بذاتي”.
يقول دافيد لوتربون في كتابه ” سيسيولوجيا الجسد”: ” إن الشرط الإنساني جسدي، حيث الجسد مادة الهوية في المستوى الفردي والجماعي، والفضاء الذي يمنح نفسه للنظر والقراءة وتقدير الآخرين. فبفضله نحن معينون، معترف بنا، ومحددون بانتماء اجتماعي بجنس، بلون الجلد.. ويقيم حدود الذات بين الخارج والداخل بشكل حي، إنه مسامي لأنه منفتح على العالم، وذاكرة حية، لأنه يلف الشخص ويجسده من خلال تمييزه عن الآخرين، ويربطه بهم، بحسب العلامات المستعملة”.
يبدأ إدراك المرء لذاته وللعالم من خلال إدراكه لجسده كذات مغايرة للآخر، وتشكل التغيرات الفسيولوجية التي يمر بها الجسد إحدى أبرز العوامل التي تشكل الهوية، بل إن بعضا من طقوس العبور تعتمد على تلك التغيرات الجسدية، مثل البلوغ ومؤشراته الجسدية، وكذلك الولادة.
ماذا لو خذلنا هذا الجسد؟ هل سنبقى نحن نحن عندما يبتر منا عضو أو نصاب بعاهة دائمة أو حين تحمل إحدانا في أحشائها كائنا آخر يتغذى على طعامها، ويحرمها راحة نومها، ويثقل حركتها، ويترك آثاره عميقا بعد قدومه على هذا الكون بعلامات تمدد على الجلد، أو اتساع في منطقة الحوض، تجعل من مقاس “صفر” للخصر حلما لا يمكن تحقيقه، في عصر توحدت فيه أيضا مقايس الجمال وعلاماته؟
ماذا عن تلك الهرمونات التي تمارس لعبتها المفضلة بالتقلبات المزاجية التي لا يُعرف لها قرار؟
لا يعود جسد المرأة هو ذات الجسد بعد مرحلة الأمومة، لا أتحدث هاهنا عن الوزن أو الشكل فقط، فبعض التمارين الرياضية والعمليات التجميلية، والكثير من الحظ والعناية قد يعيده إلى أقرب هيـئة له قبل تجربة الحمل والولادة.
لكن التجربة تترك لدى البعض “ندوبا نفسية” يستغرق شفاؤها وقتا طويلا، ولا يقتصر ذاك الاكتئاب على الوالدات، فتجربة الإجهاض أو إنجاب طفل ميت تحفر ندبا نفسيا لا يمحى لها أثر عند البعض نساء ورجالا في كثير من الأحيان.
” ليس السيئ في الذكريات نسيانها بل عدم تمكننا من إلصاقها بجسدنا الحاضر، شعورنا بأنها لن تنتمي لنا ولم تك يوما”.
في هذه الرواية تساءل البطلة جسدها فهي لم تعد تعرفه بعد الولادة، وهنت قواها، ويداها تخذلانها، ساقاها لا تقويان على حملها، لم يعد هذا الجسد جسدها، هذا الجسد الحاضر لا يمت بعلاقة لجسدها في الماضي.
” الآن أنا أفقد قواي أكثر، أشعر كأني طفل مقعد، متجمع على نفسه في زاوية، متغوط في ثيابه، نحيف الجسم، شاحب المحيا، ذو نظرة كسيرة لا يرفعها لأحد إلا وتنكسر النظرة من تلقاء نفسها. هذا ما يفعله انعدام الشعور بانعدام القيمة”.
تلقي التغيرات الجسدية بظلالها على نظرة الإنسان لنفسه وللكون من حوله، وفي مرحلة الاكتئاب يستحيل الجسد إلى كيان غير واضح المعالم، فبطلة الرواية ترى العالم من خلال منظار الألم الذي ينهش جسدها، ألم نفسي ومادي، فكيف ستكون تلك الصورة عبر منظار الألم المشوه؟
تخوض البطلة معركتها اليومية لتتعرف إلى ذاتها التي فقدتها، لذا تحفر عميقا في داخلها، تساءل ذكرياتها، هواجسها، مخاوفها، وتحاول جاهدة فهم ذاتها الداخلية، يعلق زوجها ديدار على حديثه الداخلي بقوله ” تفكر النساء بدواخلهن كثيرا، هل أنا مخطئ”.
في العالم الذي لا تشارك المرأة في رسم معالمه، والذي ينكر عليها أي تعبير عن رغبتها، ترتد كل تلك الرغبات والطاقات إلى هوة سحيقة في داخل المرأة.
تستعيض بعوالمها الداخلية عن العالم الخارجي الذي نبذها، ويرفض مشاركتها في تشكيله.
قد لا يعيش الرجل تلك الاستغراقات النفسية الداخلية، بالحدة نفسها التي تعيشها النساء، فالمنظومة الاجتماعية تفرض على المرأة بعض القيود والمحددات التي لا تفرضها على الرجل، وهذا يعيدنا إلى مقولة سيمون دي بوفوار: ” لا تولد المرأة امرأة، بل تصبح كذلك”، أي أن المجتمع يحدد لها مسبقا ما هو مقبول ومرفوض منها، ويفصّل لها القالب الذي عليها أن تضع فيه نفسها، فتعيش في عالمين، عالمها الخارجي ومحدوديته، وعالمها الداخلي غير المقيد بتعقيدات الخارج، وما بين العالمين تصطرع حياتها، وتموج بأفكار وتناقضات.
اقفزي …
قد يكون الخلاص أحيانا من مآسي التناقض بين حياتين بقفزة، قفزة واحدة إلى الداخل أو الخارج، هكذا يرى أصحاب الحلول الحدّية.
في هذه الرواية تخاف البطلة من النافذة، فهي الحد الفاصل ما بين الداخل والخارج، بين العالم الخارجي الذي يمضي بحروبه و حصاره وحيويته، وعالمها الداخلي الذي تعيش فيه، وتحاول المرأة الشبح التي تظهر للبطلة وتعكس أفكارها الانتحارية دفعها لقفزة الخلاص تلك لتنهي حياتها، وتتخلص من تلك الكآبة التي تعيشها.
“وأدركت أن كل إيمان بعالم منسجم مع نفسه، متناسق، وواضح وضوح آلة، هو وجه آخر للهروب منه. وأنا رغم ما أبدو عليه من هشاشة لم أكن لأختار الهرب”.
حاولت البطلة مرارا الحديث إلى زوجها عن مخاوفها، وخوفها من النافذة، لكن الزوج اكتفى بالاستخفاف من تلك المخاوف، ولم يجد سببا منطقيا يدعوه لتغيير اتجاه النافذة لتطل على داخل البيت عوضا عن خارجه.
ماذا لو كان ديدار على وعي بأعراض اكتئاب ما بعد الولادة، هل كانت حالة الزوجة ستختلف؟
في حديثي مع إحدى الصديقات قالت رن اسم ديدار تردد في صفحات الرواية، وكأن الرواية عنه!
في حقيقة الأمر، لا عجب أن يتكرر ذكر الزوج ديدار في الرواية، فدوره لا يقل مركزية في سير مجريات الأحداث، دور اتسم بسلبية في تفهم ما تعاني منه زوجته، التي انتهى بها الحال في المشفى.
ماذا يحدث عندما لا يفهم الآخرون ما تعاني منه؟
تنسحب إلى الداخل، وتلوك باقي الكلمات التي لم تستطع قولها، لإن الآخرين عاجزون عن فهمها.
تحدّث نفسك طويلا، تجادلها، تنفّس عن حنقك وتصب جام غضبك عليها، وتلوذ بمخاوفك تتدثر بها، يتعاظم الألم، وتسمع صدى الكلمات المكبوتة يتردد في الأنحاء بأصوات شبحية، تحاول أن تنتزع اعترافا من هذا الكون الذي لا يفهمك بأنك تتألم، وهذا الألم يضرب عميقا في أعماق روحك، لا يمكن لغيرك أن يتلمس هيئته، ولا أن يصف ماهيته ما لم يختبره.
كل ما تطلبه منه أن يكف عن محاولة إجبارك على ارتداء ذاك الثوب الأزرق ذي المقاس الواحد.
وهذا ما حاولت الكاتبة عبر صفحات روايتها أن تعبر عنه، و ختمت روايتها بذات الاقتباس من رواية إلبرتو مانغويل ” عاشق مولع بالتفاصيل الذي صدّرت به روايتها: ” لن أرغم على رؤية الأشياء كما يريد كل شيء وكل شخص أن أراها ، مهروسة وممتزجة في حساء واحد لا شكل له! لن أستسلم!”.
-
من مدونة الكاتبة