(ثقافات)
مقطع من رواية ” غابات الاسمنت” لذكرى لعيبي
كانت غرفة المطبخ والممر وقضاء الليل مع الحارسة، نزهة في حديقة، وربما ظهر لهن أن بعض السجن أجمل من أجزائه الأخرى… بخاصة الزنزانة، وكانت ليلة غيابي أو مديحة تُفَسَّرُ من السجينات ضمن ما يشملهن من اقتراحات، وكن يحترمننا ولم تكن بيننا أية مشاكل، وفي الليلة التي سبقت ذهاب كريمة إلى المحكمة لمعرفة نتيجة الاستئناف، راحت السجينات يغنين ويرقصن فَرحًا، وغنت أم جبار وهي امرأة في الأربعين من عمرها ضبطت في قضية تهريب، أغنية لعّابة الصبر:
صبري صبر أيوب
حزني حزن يعقوب
الحقني يا محبوب
زادت أنا جروحي
وذابت بالهوى روحي
فتّ الصخر نوحي
الحقني يا محبوب
تطوعت سجينتان بالرقص، بدأت أم نظيم وهي أمرأة جاوزت الخمسين، ضُبطت في قضية دعارة، تصفق بيديها تصفيقًا أشبه بدقات طبل، كنا نروم أن نرفع من معنويات كريمة، فغدًا تذهب إلى المحكمة لتسمع صوت الاستئناف، غناء ورقص وأداء، بدت السجينات كلّهن في وئام، وأظن أن معاملة حبيبتي مسؤولة السجن للجميع جعلنا أكثر ودًا، وخففت المشاكل بيننا.
وقلبت صورة النفور إلى مودة وحب، ولم يكن هناك شيء نفعله لصديقتنا سوى الدعاء، وكنا على ثقة من أن الاستئناف سيكون لصالحها.
وربما كنتُ الأكثر تفاؤلًا من غيري، لأنني أعرف أن النقيب ابتسام لن تتركها.
وذهبتْ كريمة … وليتها لم تذهب ..
رجعتْ صامتة، والصمت هو الجواب اليقين.
وكان الخبر صدمة لنا، الاستئناف رُفض، فازددتُ حنقا وحزنا، أما كريمة فبدت متماسكة كأنها أنفت أن تكون هدفا للشفقة والرثاء، شموخ وكبرياء لا تقهره إرادة الموت … لا ترغب أن يرثيها أحد.
يوم صدر الحكم أغميَ عليها حالما دخلت السجن، وعاشت شكّا وأملًا، وحين تيقنتْ من موتها تماسكت، تجللت بهالة من الرزانة والوقار، فلبست طرحة بيضاء، وانكبّت على القرآن تقرأ ولا تكلّم أحدًا، صامتة عن الكلام كما يصوم القديسون، كما صام النبي زكريا ليحلّق في أجواء السماء، رجوناها أن تنطق فكانت تشير إلينا بيدها وهزات رأسها، وفي خلسة من الجميع كتبت على جُذاذة ورق:
ولداي عدنان وكامل عنوانهما مع أبيهما أدوّنه، أرجو حين تخرج أي واحدة منكنّ، أن تسأل عنهما وتقبّلهما لي.
لم تقل أكثر من ذلك.
كانت أكبر من أي كلام وأشجع من أن تبكي.
الشجاعة ليست سيفا ومسدسا، بل هي ضمير حيّ يرفض الاستبداد بكل أنواعه، كريمة بِصمتِها هذا رفضت الحكم الصادر بحقها وحسبته نوعا من أنواع الاستبداد القاهر.
تَأملتها طويلًا … تأملتُ هذا السكون الذي يغشاها، تُرى ما سرّ هذه القوّة وهي مُقبلة على الموت؟
* صدرت الرواية عن دار الدراويش للنشر
مرتبط