«أوهام ضائعة» بين بلزاك وكزافييه

«أوهام ضائعة» بين بلزاك وكزافييه

مجدي دعيبس

العلاقة بين السينما والأدب علاقة وثيقة ومتجددة، ولعل هذا التجدد ما يدفعنا لمتابعة ما يصدر من أفلام مبنية أو مستوحاة من أعمال أدبية معروفة مثل فيلم «أوهام ضائعة» (Illusions perdues) من إخراج وتأليف الفرنسي كزافييه جيانولي (Xavier Giannoli)، وقد حصد سبع جوائز (سيزار) منها أفضل فيلم وأفضل ممثل. الفيلم مقتبس من ثلاثية بلزاك المعروفة والتي حملت الاسم عينه «أوهام ضائعة». بلزاك الذي رسخ واقعية الأدب من خلال أعمال غزيرة تناولت المرحلة التي عاشها (1799-1850) وهي سقوط نابليون وعودة الملكية وظهور طبقة بورجوازية جديدة تختلف عن تلك التي عاشت في فرساي، وعزلت نفسها خلف الأسوار والحراس والبنادق. هذه البورجوازية النامية أصبحت مضطرة للتعامل مع الواقع المتغير والمتمثل في وجود مراكز قوى جديدة في المجتمع الباريسي لم تكن ظاهرة ومتمكنة قبل الثورة والجمهورية.
ظهرت ثلاثية بلزاك: (الشاعران، رجل كبير من المقاطعات في باريس، آلام المبتكر) بين (1837-1843)، وتقوم كما يظهر من العناوين على شخصيتين رئيسيتين وهما (لوسيان شاردون) وصديقه وزوج اخته (دافيد سيشار). (لوسيان) الفتى الريفي الوسيم، والشاعر الذي لا يتوانى عن الدخول في مغامرة عاطفية مع السيدة المتزوجة مدام (دو بارجتون) المنحدرة من أصل نبيل، التي تعيش في المقاطعة عينها بعيدا عن العاصمة. يطمح في الذهاب إلى باريس بحثا عن حظه في الشهرة والثروة مثل غيره من أبناء المقاطعات، الذين انتهى بعضهم في قاع السين منتحرين بعد أن لفظتهم المدينة التي لا ترحم الحالمين. هناك، يكتشف حدود اللعبة التي يلعبها أصحاب دور النشر والكتاب وممثلو المسرح والصحافيون في مراجعات الأعمال الأدبية والفنية والإشادة، بما لا يستحق وخسف ما هو جدير وأصيل. يصبح (لوسيان) جزءا من اللعبة ثم يبدل الجهة التي يقف إلى جانبها، يترك الليبراليين وينحاز لأتباع الملكية طمعا في الحصول على لقب نبيل. في المقابل هناك شخصية (دافيد سيشار)، الصديق الوفي الذي يقع في غرام ابنة الريف (إيف) شقيقة (لوسيان) ويقرران الزواج. يحافظ على مبادئه التي تربى عليها ويعرض نفسه للمتاعب والسجن في سبيل مساعدة صديقه المتعثر في باريس. في الجزء الثالث (آلام المبتكر) والمقصود بهذه التسمية هو (دافيد) نفسه الذي ابتكر طريقة جديدة لصناعة الورق الرخيص، يخسر ملكية اختراعه لصالح الأخوين (كوينتي) بعد أن تآمر عليه الجميع.
كان مقصد بلزاك في رأيي من هذه الثنائية (لوسيان – دافيد) إبراز الشخصيتين بشكل واضح وجلي؛ كل واحد منهما يساعد الآخر؛ الأبيض يظهر ساطعا في خلفية سوداء كما يبرز الأسود بقوة في محيط أبيض.
لكن رؤية كزافييه في فيلم «أوهام ضائعة» كانت مختلفة نوعا ما، وجازف المخرج بحذف الخلفية إن صح التعبير. اعتمد بشكل مطلق على شخصية (لوسيان) كما ظهرت في الجزء الثاني (يوميات رجل كبير من المقاطعات في باريس) وبعض تفاصيل ما حدث في الجزء الأول لأن البداية كانت من هناك، في حين اختفت شخصية (دافيد) تماما عن مسرح الأحداث. ولعل الدافع وراء هذا الأمر هو طول الثلاثية وتشابك العلاقات بين شخصياتها وصعوبة تجسيدها سينمائيا في ساعتين أو ثلاث ساعات. علما أن هذه ليست المرة الأولى التي تتحول فيها رواية «أوهام ضائعة» إلى دراما أو عمل فني، فقد ظهرت من خلال رباعية تلفزيونية عام (1966)، باليه الأوهام الضائعة (2014)، مسرحية الأوهام الضائعة (2021) وجميع هذه الأعمال كانت بالتصرف، أي برؤية مختلفة عن رؤية الكاتب.

زمن الرواية يعود إلى مئتي عام تقريبا (1819)، لكن المشهد الذي سأشير إليه هنا يصلح لهذا الوقت أيضا، كأن كل شيء توقف منذ مئتي عام وظل على حاله.

ما أثار اهتمامي في الفيلم بشكل خاص شخصية (دوريا) صاحب دار النشر الذي قام بتجسيدها الممثل الفرنسي المعروف جيرار ديبارديو، وشخصية (سينغالي) المصفق المأجور. زمن الرواية يعود إلى مئتي عام تقريبا (1819)، لكن المشهد الذي سأشير إليه هنا يصلح لهذا الوقت أيضا، كأن كل شيء توقف منذ مئتي عام وظل على حاله. هذا الحوار الذي دار بين (دوريا) و(لوسيان) و(لوستو) بدا مألوفا جدا، وكأنني سمعت الجمل التي ينطق بها الممثلون من قبل. في ذلك المشهد يتعرف (دوريا) على (لوسيان) الذي حضر برفقة صديقه الصحافي (لوستو)، وعندما يطلب الأخير من (دوريا) نشر كتاب لوسيان (أزهار المارغريت) وهو ديوان شعر، تكون ردود (دوريا) في الحوار كالتالي:
«قصائد؟ ماذا سأفعل بها؟ لسوء الحظ هذا لا يبيع. هل تعرف أشخاصا كثيرين يشترون دواوين الشعر؟ لا تثير كتب الغرباء اهتمام أي شخص. أنا لا أنشر سوى للأشخاص المشهورين مسبقا، وإلا فهناك الكثير من المخاطر..». واقعية بلزاك طاغية ولا يؤثر فيها الزمن لأن منطلقها الإنسان-المادة، الإنسان-الأخلاق، الإنسان-المجتمع، لذلك تبقى صالحة لكل مكان وكل زمان.
(سينغالي) يمثل حالة طريفة أيضا، يصفق لمن يدفع أكثر. في المسرح من السهل إفساد العرض من خلال مجموعة من الأشخاص الذين بيتوا النية على إطلاق صيحات الاستهجان، أو الطلب من الممثل التوقف، أو قذف المسرح ومن يقف عليه بما تيسر لهم من ورق وغيره. في المقابل يمكن لهؤلاء الأشخاص المأجورين أن يصفقوا بشكل منظم ومؤثر، بحيث لا يمكن لأي صوت آخر أن يعلو فوق صوتهم. مهمة (سينغالي) هي تدريب هؤلاء الأشخاص على هذه الأمور وإعطاء الإشارة في اللحظة المناسبة خلال العرض. بعد مئتي عام أقول: ربما ما زال هناك سينغاليون كثر بيننا في ظل المنظومة الثقافية الجديدة التي أضحت وسائل التواصل الاجتماعي أحد أركانها المؤثرة.
قد يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: أين صورة بلزاك في هذا العمل الضخم الذي يركز على حال النشر والصحافة والأدب في عصره؟ ليس بالضرورة أن يكون للكاتب وجود فعلي في رواياته؟ لكن ما يحدث أن شخصية الروائي تتسرب إلى العمل، دون وعي تام منه، ولو كان هذا بجزئيات بسيطة غير مؤثرة، على أساس أن الروائي يمثل شريحة من المجتمع. اشتغل (بلزاك) في الصحافة الثقافية والنقد الأدبي وكتب للمسرح، وكان مثقلا بالديون وتنقل من منزل إلى آخر هربا من دائنيه، كما كانت لديه علاقات غرامية متعددة. (لوسيان) أيضا كان متعثرا ماديا وعمل في الصحافة والمراجعات الأدبية، وتعددت علاقاته العاطفية. ولكن في المحصلة، هذا لا يعني شيئا محددا، فصفات كهذه تجتمع في كثيرين من أبناء ذلك الزمن.
ويبقى أن نقول إن تعدد الرؤى في التلقي والتأويل هو دليل على الغنى والثراء الأدبي والفني والإنساني للرواية، ما يفتح الباب واسعا أمام مبدعين آخرين لإعادة إنتاج العمل بصيغ فنية وجمالية تؤثر فينا على السوية عينها.

كاتب أردني

  • عن القدس العربي

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *