زهران القاسمي: “تغريبة القافر” عزف منفرد على خرير الماء
حاورته : ريم الكمالي
يطل علينا الروائي والشاعر العماني المبدع زهران القاسمي، بروايته «تغريبة القافر»، الصادرة عن دار مسكيلياني، والتي يروي فيها من خلال أبطاله، الماء الذي لا يضل طريقه في آبارٍ وبرك ووديان عميقة، سارداً صوت الماء وخريره بقلبه وبصيرته، من خلال طرح قضية أساسية برؤية إبداعية، في موطنٍ عاش في سائله الرقراق، ليعيد إلى الطبيعية ألقها وحضورها، مستشرفاً الولادة المتجددة من رحم الطبيعة بلغة شاعرية جميلة.
«البيان» التقت المبدع زهران القاسمي، صاحب «تغريبة القافر» المرشحة للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، وكان معه هذا الحوار:
يُشغل الروائي الحقيقي توسعة تجربته، وألا يكررها، وأن يحظى بإبداعه الخاص، والتميز… فكيف فعل زهران كل ذلك في روايته؟
دائماً هناك قلق يتكرر عقب كل تجربة كتابية، فما أن يبدأ انتشار الكتاب وإعجاب الناس به أدخل في دوامة من القلق وألا أستطيع تجاوز التجربة لأخرى جديدة، ولكنني كنت أحتال على الموضوع بكتابة الشعر، والدخول في مشاريع حياتية جديدة، فعندما كتبت رواية «القناص» كان لدي سوبرماركت، كنت أديره وأقضي وقتي كله فيه، بعد ذلك دخلت في مشروع تربية النحل وأسست لمنحل كبير بدأت بعشر خلايا وكاثرتها حتى وصلت إلى مئتي خلية، ثم تركته إلى الزراعة وهكذا، هذه المشاريع تجعلني أنسى التجربة التي مضت وأبدأ في التفكير في تجربة أخرى، والآن أحاول جاهداً المضي في مشروع جديد حتى أكتب روايتي القادمة.
بعض الروائيين في العالم منحوا قريتهم البسيطة الكثير من العمق بعد حفر وبحث، حتى أصبحت بسعة العالم، فهل كتب زهران أسطورته الخاصة من قريته؟
في الحقيقة كل ما نحتاجه عادة موجود بيننا ويحيط بنا من كل الاتجاهات، مجتمعاتنا غنية جداً بتفاصيل ذات خصوصية عالية لو استطعنا الالتفات لها لأثرينا الساحة الأدبية بأعمال جميلة. في القرية العمانية هناك امتداد تاريخي غارق في القدم، ضارب بجذوره في سلوك البشر وفي حياتهم وممارساتهم اليومية، وهناك الموروث الثقافي الشعبي الذي حمل سيرة هذا الإنسان الذي سكن هذا المكان منذ آلاف السنين بإحباطاته وأحلامه وفلسفته وطريقة تأقلمه مع المكان، هناك قرى معلقة في سفوح الجبال، هناك أساطير وحكايات تحيط بكل بقعة، كل هذا مادة خام أحاول استخلاصها في خلق عمل له فلسفته الخاصة ومناخه الخاص.
بوصفك شاعراً، هل «تغريبة القافر» هي إحدى أسرارك الشعرية؟ أم أنها قصيدة تحولت إلى رواية؟
أعتقد أن الشعر هو جوهر الأعمال الأدبية، ولا أنكر أنني كنت استمتع في كتابة بعض المقاطع والفصول في الرواية وكأنني أكتب الشعر، كان الشعر حاضراً بطريقة أو بأخرى. الشعر المنفلت من قيود القصيدة ليكون روح العمل السردي، في تكوين الشخصية وفي الأحداث والتقلبات، وربما لأنني أشتغل على ثنائية الشعر والسرد، وربما لأن الشاعر حاضر دائماً ويملي علي قدراته اللغوية والتصويرية، فكانت المتعة في كتابة أعمالي ومنها «تغريبة القافر».
كيف كانت طفولتك؟ حدثنا عن الاختلافات الثقافية والتربوية التي أثرت في رؤيتك للماء ورده للاعتبار أدباً؟ وأخبرنا عن طقوسك في الكتابة؟
الطفولة القروية، ذلك الطفل الذي يصحو مبكراً على أصوات الحياة في قرية تتقاطعها الأودية، كان أبي معلم القرآن في القرية، وكان محباً للأدب لذلك كنت أحب سماع صوته وهو يقرأ الشعر ويتغنى به، كنت أجلس بجانبه وأنصت، حفظت الكثير من القصائد من كثرة تكراره لها، وقرأت في تلك السن المبكر المعلقات ومجنون ليلى وشعر أبي نواس والأجمل كان عندما تبدأ الحكايات تنثال من ألسنة الضيوف. كان أبي حكاءً كبيراً، حفظت عنه الكثير من الحكايات العجيبة التي كثيراً ما أُطرز بها أعمالي.
في مشروعي الكتابي هناك وقت محدد كل يوم أجلس فيه إلى حاسوبي وأبدأ في الكتابة، يسبق هذا كله بحث طويل عن مادة العمل، ثم أكتب ببطء ودون استعجال، تمر الأيام وتبدأ ملامح العمل تتضح وأحياناً أترك الكتابة لفترة ثم أعود إليها وهكذا حتى نهاية الرواية.
كيف وضعت الماء في «تغريبة القافر» على خريطة العطش؟
لدي ارتباط وثيق بالماء منذ طفولتي، فأنا من أسرة كانت تعيش على ضفة واد من الوديان، نستحم في البرك المائية العذبة ونشرب من مياه الأفلاج، الماء كان المحرك الأساسي للحياة اليومية، نسقي به مزروعاتنا وحيواناتنا، ونسمع عنه الحكايات الكثيرة المتداولة من كبار السن، لذلك أردت أن أشتغل على هذه المنطقة الحميمية لي والتي عشتها بتفاصيل كثيرة، أذكر في الثمانينات عملت مع أهالي القرية في تنظيف قناة الفلج من الأتربة المتراكمة في داخله لفترة امتدت إلى أسابيع، كنا ندخل إلى أعماق القناة في باطن الأرض على الرغم أننا كنا أطفالاً، يوكل إلينا أعمالاً معينة مثل نقل دلاء الأتربة إلى الفتحة التي يتدلى منها حبل يسحبه البعض لإخراج تلك الأتربة، كل هذه التفاصيل التي ينظر لها الآخر بغرابة عايشتها في طفولتي.
كما الصيف، نفرش مناماتنا على رمل الوادي وننام، وعندما تمطر السماء مساء ويسيل الوادي وتملأ المياه ضفتيه ننام بعمق في تلك الليالي وفي سفح الجبل بعيد عن التيار، وعلى هدير المياه الجارفة في الأسفل، كل هذا الارتباط المائي حاولت ترجمته في هذه الرواية بشيء من روحي قبل أن أخلق الشخصية الرئيسية في العمل.
بين الغرق في الماء واستعادة الحيّ من الماء، وكل المشاهد في الرواية بحضور الطبيعة، هل السفر في الماء يعطي كل هذه الرسائل؟
على رأي الفيلسوف الفرنسي «غاستون باشلار» فإن ارتباط الإنسان بالماء أكثر من كونه مادة لإسكات العطش، الماء هو مرآتنا الأولى التي تتجلى فيها نرجسيتنا، الماء هو انعكاسنا الصامت الضبابي كما يقول، وهو أيضاً أصل الحياة التي بدأ به الخلق وإليه يعود. الماء ذلك الطقس الديني الذي يمارسه كل منا للتطهر على مر الأديان من التعميد والوضوء والاستشفاء من المرض والاغتسال من الذنوب، لذلك يبدو هذا العنصر الرقراق السائل مغرياً للتقرب والالتفات إليه، له فلسفته، وعالمه المعقد الذي يدخل في نفسياتنا ومواردنا وأساس وجودنا، الشيء الذي يوجد بكثرة ولا نستطيع أن نمسك به بأكفنا العارية، بينما يسيل من بين أصابعنا، وهو ذلك الإغواء الكبير الذي يقودنا إلى الحياة تارة وإلى الهلاك والموت مرات كثيرة.
-
عن البيان