عزف على وتر الخراب المنفرد


*سعدي عباس العبد

( ثقافات )

لم تخنّي الذاكرة أبدا , فما زالت تتأجج بذلك التوهّج المخيف المتلامع في العراء الداخن . . ما زالت تلك الرائحة المنبجسة من الجنود المتفحمين تتصاعد لاذعة في فضاء الذاكرة .. رغم مرور كلّ تلك السنوات العصيبة , الحافلة بالأنين والجراح والألم والوجع والموت المدهش للغاية , ما زال ذلك الخراب المهوّل يحفر في الروح والذاكرة … مرّت سنوات على ذلك الحطام المرعب . سنوات كانت فيها احلامنا الشديدة الروعة تتآكل شيئا فشيئا ,.. مرّ كلّ ذلك الزمن المدهش على روحي ..وانا ما زلت اصعد محلّقا في فضاء الذاكرة . اتوغل بعيدا نحو مرافىء صدئة حفرت فيها الحروب والنسيان .. حروب نسيتها السنوات عبر مرورها الطويل ! نسيتّها مركونة هناك في خراب المدن , وذاكرة الأرامل والأمهات .. حروب مرّ عليها حين من النسيان والغياب والجنود ..الجنود الذين لم يعودوا من نسيانهم الطويل !! لم يعودوا من إقامتهم المزمنة في في الغياب ..بل لن يعودوا أبدا .. حتى لم يعد احد يتذكّر , متى غادروا الحرب والحياة والاحلام .. متى غادروا طفولتهم , وامهاتهم ومدارسهم . متى حدث كلّ ذلك !!؟ .. كنت احدهم اقاتل النهارات النازفة في العراء ..النهارات المتباطئة في مشيّها نحو الإجازات الدورية ..خرجت من تلك النهارات ببقايا اصابع مبتورة وملامح طبعت عليها الحرب آثارا من التشّويه .. سنوات طويلة خلت نابضة بالوجع المر , وانا اكابد هذا الجسد الهش الذي نخلته نهارات الحرب وعاثت فيه خرابا . سنوات وانا اقاتل الانهاك والخمول والخواء والاوجاع في بدني المعاق الذي استوطنه الخراب , كان بدنا خاويا يقودني باستمرار من حافة الوجع إلى حافة الوجع ! ما زلت اتجرّع مرارة كلّ تلك العذابات من دون انّ المح في افق حياتي الغائم قبسا فاترا يبدّد العتمة المريّنة على نهاراتي المزدحمة بالنكد والمكابدات واليأس , ..كما لو إنّي اتحلّل في ظلام رطيب .. لم يتبق ليّ سوى الوجع المر , اتوكأ على نزيفه ! . لم تبق غير آثار الدمامة والجراح والخيبات . أي شظايا هذه التي حفرت عميقا في بدني !! وجعلتني اقف مترنحا على حافة شيخوخة اشرفت على اطلالها قبل الآوان ! .. سنوات من الخراب والوجع والندم واليأس وانا ابحث عما يضمّد جراحي ويسد رمقي .. سنوات وانا ابحث في دوران منّهك عن تلك الطمأنينة التي افتقدتها مذ دعوني إلى الألتحاق في الحرب . سنوات وانا ابحث عن أملٍ واه وعن حلمٍ ولكن دون جدوى , عبثا كنت افتش عن احلامي التي تأبه ان تعود متألقة يافعة باذخة كما كانت من قبل ,.. لم اعد قادرا على العزف باصابع مبتورة .. لقد هرسوني هناك , قبل سنوات مثل صرصار . هرسوني تحت اقدام الحروب الثقيلة .. الحروب التي كان لامفر منها , اينما ولّيت تلاحقك …حروب تغلي متأججة باستمرار تجذبك قسرا لتحترق في آتونها .. كنت هناك لم ارَ غير الموت يحلّق في سماء واطئة فوق الخوذ الملطّخة بالسخام والدم اليابس .. لم ارَ سوى الجنود يتساقطون في انحدارات سريعة متتالية من الطيران ..كنت اراهم يطيرون . يطيرون للابد , طيران بلا عوّدة .. كنت ارى الخراب يتجلى في اوّج عنفوانه . يتجلى وهو في ذروة السادية !! كان كلّ شيء يتبدى كما لو انه الخراب ذاته ! … من اين ابتدأ يا إلهي .. من أي خراب .. فما زالت الحروب التي اندلعت ذات وقت ما , شديد القسوة واليأس .تواصل خرابها المرعب . تجتاح عبر جريانها المتلاحق كلّ شيء , كلّ شيء ..فما زالت رائحتها تضوع صادمة من ذاكرتي , تتصاعد لاذعة من فضاء الروح . كنت ابان ذلك الوقت المضطرب على وشك التخرّج من معهد الموسيقى عندما طلبوني إلى الألتحاق بالجندية .. ماذا اعزف هناك , يا إلهي !! ؟ نشيد الموتى أم نشيد الأنكسار والخراب .. التحقت في صنف المدفعية , صنف الكوابيس والعزف المتّصل على اوتار القذائف والخوف والبكاء المر على رؤوس الموتى في ظلام الشتاءات الطويلة القارصة التي لا نرى خلالها سوى وميض الموت الذي كان ينخل الاجساد نخلا . قبل انّ يسحب الروح من اطراف الاصابع . كنا لا نسمع غير نداء الموت في هطول القذائف وعصف الانفجارات وحفيف الريح وخرير المطر المنحدر في مجرى الوادي . وادي الموت . كنت هناك عند السفح واقفا عند كتف الوادي لما طارات اصابعي اجتزئتهنّ شظية , فجرفتهن صوب المنحدر مع احلامي وخوفي وخوذ وسيقان جنود. طارت اصابعي هناك مع احلامي وذكرياتي ..لا دري للآن كيف كنت احتمل كلّ ذلك الشقاء , ؟ أبدافع الخوف .؟ الخوف المتفشي في فضاءات المدن على طول امتداد البلاد ..اجل كان الخوف من سطوة الجنرلات والديكتاتور ييسري في البدن والروح .. ويغطي سماء البلاد , تلك السماء التي لم تزل تغطي البلاد بغيوم قاتمة من الخوف والرعب والموت .. كنا نحيا تحت سماء من الخوف .. ذلك الخوف الذي كنا نعلم متى وكيف يجيء !؟ اما هذا الخوف الذي حل عقب خمود الحرب وغياب الديكتاتور في اعماق الظلام السفلى .. فلا نعرف له ملامح محدّدة ! ولا ندري كيف ينتشر ويتفشى ؟ خوف غريب يسود البلاد الآن . بيد انها كلّها مخاوف تفضي في نهاية الامر الى الموت ..كلّها حافلة بالدم ..الدم الذي لا يرضى باقل من الموت ثمنا لخوفنا ورعبنا !! فشرعنا ننسج من خيوط قلقنا وخوفنا طمأنينة زائفة ,.. طمأنينة تضوع رائحة خراب . خرابنا القديم . الخراب الذي اجتث اصابعي واحلامي . والذي لم يزل يتصاعد صداه في روحي , خراب يبتدأ طرفه البعيد من تجاعيد الجنرلات اليابسة .. الجنرالات الذين نفقوا في [ عبادان وسربيل زهاب وقصر شيرين وبنجوين ] احصي عبر ذاكرتي من غرقوا في نهر الكارون , كانت الاعداد مهولة , اوسع مساحة ورعبا من انّ تحصيها ذاكرة معطوبة .. ذاكرة لم تعد تسعفني فتغيب الاسماء وتتلاشى العلامات وتتساوى الملامح كما لو انها تعود لخراب او شبح او جندي واحد !! ولكن بنسخ باهتة لا حصر لها !!.. ولكني مازلت اتذكّر عيونهم المنطفئة , كيف استغرقت في الظلام.. ما زلت اتذكّر بكاؤهم الاخير وهو يتصاعد مع الدوي والدخان والغبار ورفيف الشظايا .. كنا نتواثب مرعوبين في اوقات شديدة القسوة والموت .. ولكن اين المفر , فرق الاعدام من ورائنا والموت في الامام ينتظرنا , .. كنا وقودا لمحرقة لا مثيل لها !! . كنا نتفحم ارهاطا وثللا , رهط يعقب رهط , والمحرقة تتسع وكأنها تهتف بالسماء وهي تبلغ الذروة ..هل من مزيد !!… بلى المزيد في الطريق سيأتي . وعقب خرابات جاء المزيد بكامل رعبه . مزيد مدهش للغاية لايضاهى , حتى بخرابنا الاوّل .. كان المزيد : مركبات مفخّخة واحزمة وعبوات ناسفة وموت بالجملة يجري طوال السنوات التي اعقبت خرابنا الاوّل ,,موت يحدث في كل الاوقات على يد متنفذين وتجاردم ولصوص وسماسرة وقوادين ووزاراء وارباب سوابق وعاهرات ومليشيات محترفين ومدراء شركات وشرطة وجنرلات وجنود مأجورين وباعة ومتسولين وعاطلين عن العمل والضمير والجمال و وووووووووووووووووووو.. !!! / انتهت /

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *