الاستشراق بين إدوار سعيد وبراين تورنر

(ثقافات)

الاستشراق بين إدوار سعيد وبراين تورنر

مراجعة بقلم تشارلز . إي . بترووث*

ترجمة : محمد نور النعيمي**

 

إن كتاب إدوار سعيد، الاستشراق، وكتاب براين تورنر Bryan Turner، ماركس ونهاية الاستشراق، يهاجمان الاستشراق، بلا هوادة  أو على الأقل ذلك الجزء منه المهتم بالشرق الأوسط الإسلامي، إذ يرى الكتابان على حدٍ سواء أن كل الدراسات الأوربية للتاريخ والثقافة والمجتمع، أو للسياسات المتعلقة بالإسلام في الشرق الأوسط والدول الإسلامية، تشوِّه الواقع إلى حدٍ تكون فيه مستلزمات الاستشراق ومقتضياته موجهة لهذه الدراسات. ولا يتردد كلٌ من سعيد وتورنر في اتهام بعض العلماء الذين يتم اللجوء إليهم لمعرفة هذه المنطقة الحيوية من العالم بالاسم؛ وقلة منهم نجت من مثل هذه الاتهامات. وعلى كلٍ، فسعيد وتورنر لا يقدمان رؤيتهما بالطريقة نفسها ولا يبحثان عن إصلاح متشابه.

فعلى سبيل المثال، يبني سعيد اتهامه ضد الاستشراق على تحليل عميق لأعمال مهمة للعديد من الباحثين الذين ترافقت أسماؤهم مع الدراسات الأكاديمية للشرق منذ القرن السابع عشر، إضافة إلى باحثين معاصرين. وعلاوة على ذلك، فهو يولي اهتماماً خاصاً لكتابات المؤلفين الذين سعوا إلى تقديم الشرق بطريقة أكثر ذاتية وحتى أنه يأخذ بعين الاعتبار كتابات أولئك الذين انغمسوا في الأمور السياسية لمنطقة الشرق الأوسط وحاولوا شرح أمور شعوبه وأرضه لمواطنيهم الغربيين. لقد أطلق سعيد لفكره العنان في هذه الموضوعات بالتفصيل فقدَّم لمحاجّتِه العريضة مناقشة مكثفة لمنهجه. وعلى العكس من ذلك، يميل تورنر كثيراً إلى الاختصار، فكتابه الصغير مبني أساساً على مصادر ثانوية حول المشاكل الكامنة في مناقشة ماركس لنمط الإنتاج الشرقي أو الآسيوي Asian or Oriental mode of production ولإخفاق ماركس في إيلاء الكيانات الشرقية أو الآسيوية الاهتمام الكافي. وباستثناء إشارة عابرة عن المستشرق وعالم اللغة الفرنسي الكبير إرنست رينان Ernest Renan من القرن التاسع عشر فإن تورنر يبني أحكامه حول الاستشراق على كتابات العديد من المعاصرين جُلُّهم من علماء الاجتماع. وباستخدامه أسلوب التوثيق الجديد المحصور بين أقواس صغيرة ضمن الكِتاب parenthetical references، يدلي تورنر بمحاجته بإيجاز واقتضاب مُحيلاً القارئ إلى عدد كبير من أمهات الكتب. وبينما يهتم سعيد بالقارئ العادي اهتمامه بالقارئ المختص، إذ يعيد ويكرر مناقشته كي يجعلها واضحة، فإن تورنر يكرِّس نفسه كلياً لمخاطبة أولئك المهتمين بمشكلة التأويل الماركسي. فقط في الصفحات الأخيرة من كتابه يقترب من القول الواضح في مناقشته لموضوع الاستشراق.

إن كتاب سعيد يتناول ببساطة سياسات الخطاب عند تطبيقها على الشرق الأوسط. فهو يؤكد أن الاستشراق يجب أن يُفهم على أنه ناشئ عن ثقافة سياسية خاصة كونه مُتشكِّلاً استجابةً لمستلزمات تلك الثقافة السياسية وكونه مُشَكِلاً بدوره لها، بالإضافة إلى تشكيله للثقافة السياسية للمنطقة الخاضعة. (والحديث [هنا] للحظة مثل سعيد هو تورية مقصودة). ويمكن القول إن هدف سعيد هو جعل العلماء أكثر تحسساً لما يدعوه بــ “الأغلال الأيديولوجية القديمة” للاستشراق (ص 326) بجعلهم أكثر ارتياباً في افتراضاتهم. ومع ذلك فإن سعيداً متأهب لإدانة هؤلاء العلماء الذين درسوا المنطقة بطريقة يراها هو على أنها خاطئة. ولكنه يُضيِّع فرصة تقديم إرشادات دقيقة حول كيفية متابعة الدراسات غير الاستشراقية عن الشرق. فعلى الرغم من تنصله من مسؤولية ذلك، فإن منطق مناقشته يُظهِرُ أن أقصى ما يتوق إليه هو احتجاج غاضب أو تعبير مُتَّقِد عن الكَرب. وبمقدار ما يكون سعيد صائباً عندما يزعم أن كل أشكال المعرفة الأكاديمية عن الشرق الأوسط مُشوَّهة ومغلَّفة من قِبل الجو السياسي التي نشأت فيه (انظر، ص 11)، أو بمقدار استحسانه لنفاذ بصيرة ميشيل فوكو Michel Foucault التي ترى أنه نتيجة للمناخ السياسي فإن كل محاولات الصور أو التمثيل تشوِّه بالتأكيد الموضوع الحقيقي (انظر الصفحات،  272 – 274)، فيجب عليه، [أي سعيد]، قبول الحدود الصارمة لمثل هذا التفكير: فإذا كانت معرفتنا أو قوة الصور مقصورةً على أفق وسطنا السياسي والثقافي فإن الوعي الذاتي أو وعي محنتنا يعجز عندئذٍ عن توسيع حدود أفقنا؛ وأقصى ما يمكن عمله هو أنه يجعلنا أكثر ميلاً لأن نكون أقل عجرفة فكرياً. إن محاجة سعيد، وقد طُرِحت بهذا الشكل، تبدو أكثرَ بقليل من كونها وصفاً متطرفاً لتشبيه الكهف*** عند سقراط عند تطبيقه على دراسات الشرق الأوسط، ولكنها أقلُ إقناعاً من تلك النسخة الآنفة الذكر، سواءً بسبب إنكارها وجودَ مَخْرج وبسبب إخفاقها في شرح الكيفية التي استطاع بها سعيد نفسه أن يصبح على علم بوسطه المحدود.

إن هدف براين تورنر المتواضع يُبْعده عن مثل هذا المأزق، فهو مقتنع في النهاية بأن فَهْمَ ماركس للإنسان والمجتمع كان صحيحاً بشكل أساسي ويحتاج فقط لصياغة جديدة. ففي حين يرغب تورنر برؤية من يباشر بنقدٍ عميقٍ للأصول النظرية للاستشراق ونتائجه، مثلما فعل سعيد، فإنه لا يرى أن مهمته تكمن في ذلك. ومن الواضح أن تورنر لم يكن يعلم بعمل سعيد، (مثل عدم علم سعيد بعمل تورنر)، مما جعله يخفق في الاستفادة من هذا الحليف الضليع. وبدلاً من ذلك فهو يؤكد أنه على الرغم من أن الماركسية استطاعت اقتلاع الاستشراق للأبد، فإنها يجب أن تنصرف إلى مشاكل أكثر إلحاحاً. وقبل كل شيء يجب أن تُطَهِّرَ نفسها بشكل ما من تلك الأشكال من الفكر الماركسي الذي يشبه الاستشراق. ويحدد تورنر تلك الأشكال ويشرح كيف أنها تُشبِه الأشكال المعادية، ولكنه غير قادر عملياً على القيام بمثل هذا التطهير، والسبب الوحيد الكامن خلف إخفاقه هو اهتمامه الأساسي بمراجعة كتب التحليل الماركسي. وهذا ما يقوده إلى العديد من المناقشات الفرعية حول التأويل الصحيح لـ ماركس، وبالتالي إلى انتقاد مكثف للعلماء الماركسيين الحديثين. ولكن مهما كان ذلك الأمر مثيراً للاهتمام إلا أنه لا يعوِّض عن إخفاقه في متابعة المناقشة الملحة، أكثر من فهمه الجدير بالثناء لمكونات فيبر Weber ودوركهايم Durkheim عن فهمه المحدود لما يشكل الاستشراق ومنطقة موضوعاته.

براين تورنر

وإذا ما وصل الاستشراق إلى نهايته، فلا يعود الفضل بذلك إلى تأكيدات تورنر حول ميزات الماركسية، وإذا ما سَلمْنا بما جاء به سعيد، فلن يكون ماركس ذا فائدة كبيرة في مثل هذا المشروع لأن مناقشته لا تعطي فكرة حقيقية عن نوع الخضوع نفسه لحدود المناخ السياسي والثقافي مثل ما تفعل مناقشات المستشرقين. ومن الواضح من مراجعة هذين الكتابين أن كتاب سعيد أكثر شمولاً وحتى أكثر إمتاعاً وهو مكتوبٌ بحرفية عالية وسعة فكرية مدهشة. ففي حين كان اطلاع تورنر على المصادر العلمية للتحليل الماركسي والاجتماعي لافتاً للنظر فإن سعيداً كان ذا معرفة عميقة ومفصلة وذا اطلاع واسع على تاريخ الاستشراق والفروع العلمية التي نشأ منها. فهو يتحدث حديث العالِم حول الأدب وفقه اللغة والتاريخ والسياسة وحول المصادر الثانوية المتعلقة بكل فرع من فروع المعرفة هذه. وباختصار فإنه كتب كتاباً يُعَدُّ من عدة نواح عملاً فكرياً باهراً يدل على المقدرة العالية.

ولكن مع كل ميزات كتاب سعيد فهو ليس خالياً من العيوب. ففي المقام الأول وعلى الرغم من أنه يقدم بشكل أساسي نقداً سليماً لنقاط ضعف الاستشراق وحتى لبعض أفضل المستشرقين المعروفين فهو لا يقول شيئاً جديداً. وأولئك الذين درسوا منا الشرق الأوسط عرفوا منذ مدة طويلة المشاكل الملازمة للعمل الأكاديمي للمستشرقين الأوائل. فلقد حيرتنا الأحكام القاسية التي أطلقها رينان Renan على فكر الشعوب السامية ودياناتهم، مثلما أذهلنا إقصاء لين Lane وفتننا إسراف فلوبير Flaubert أو بورتون Burton وتعلمنا وبالمثل تعلمنا التعرف على التحامل الذي يَسِم عمل بعض المعاصرين والتعامل مع بحوثهم الأكاديمية وفقاً لذلك. إن الوعي بمثل هذا التحامل والانحياز يستدعي محاولاتٍ جادةً لإعادة فحص أسس الكثير من معارفنا ولصياغة قضايا ومناهج تسمح لنا بدراسة الثقافات الأجنبية بموضوعية. وفي المقام الثاني فإن زعم سعيد أن نقاط ضعف الاستشراق هي نتيجة ضرورية لوسط سياسي وثقافي خاص ليس مقنعاً بالتأكيد، وكما شُرح آنفاً، فإن محاجته تترنح لعدم قدرته على شرح كيف أنه وحده قد أنجز مثل هذه الإضاءة. وفي المقام الثالث تعاني محاجته من العيب نفسه الذي ابتُلي به المنظِّرون العسكريون الحديثون ألا وهو إفراط المهارة. فبينما جرح رشيق بمشرط يمكن أن يحسمَ خصاماً فإن سعيداً يتقدم مهاجماً بفأس أو عندما يَظْهَر بفاعلية كخصم جدير بالمخاصمة فإنه يُضعِفُ مناقشته بتوجيهها ضد خصم غير كفؤ. وفي أوقات أخرى يلوي سعيدٌ عنق مقطعٍ من المقاطع حتى يمنحه هذا المقطعُ معنىً مختلفاً عن المعنى الذي يتضمنه أصلاً. إنه يقوم بذلك باستمرار دون ضرورة لذلك وبالتالي فإنه ينجح فقط في إضعاف ما كان بطريقة أخرى مناقشةً سليمةً. وأخيراً ثمة عيوب إهمال مثل الكثير من الأخطاء في نسخ اللغات الأجنبية وترجمتها بالإضافة إلى الكثير من الأخطاء المطبعية.

د. محمد نور النعيمي

وما أنجزه سعيد حقاً هو كتابته لتاريخ فكري وافٍ للاستشراق مع إحالات إلى التأثيرات الثانوية وإلى الطريقة التي يقود إليها البحث العلمي الجاد أو الطريقة التي قادت إليها الدوافع السياسية والثقافية والأدب الخيالي. ولكن لولا الإيحاء بأن هذه الظاهرة مرتبطة بطريقة ما بعجز الإنسان عن الوصول إلى تصور صحيح للآخر، فإن سعيداً قد أخفق في تحديد قوة دافعها. وبالنهاية فإن مشكلة سعيد هي العنصرية وهي مشكلة تشرح كيف أن أفراداً يُعتَبَرون في حالات مغايرة أذكياءَ ومحترمين يرضون بقبول آراء تلغي وتشوه سمعة مجموعات من الشعوب الغريبة عنهم. ففي حين أن سعيداً محق في افتراض أن المشكلة قديمة قدم إسخيلوس Aeschylus، هذا إذا لم نقل منذ النبي إبراهيم، فإنه يجب عليه أن يذهب إلى أبعد من ذلك: يجب عليه أن يشرح لماذا نشأت هذه الآراء والأحكام.

ومع ذلك وعلى الرغم من هذه العيوب الجوهرية فكتاب سعيد يعتبر مغرياً، فهو يتناول مشكلة كبيرة في حجمها ويتابعها بشكل واسع وعميق وعلاوة على ذلك ومن خلال الكتابة بمستوىً يجذب اهتمام جمهور عريض من القراء من خلال تقديمه الدليل بحيث يمكن للقارئ المختص والعادي على حدٍ سواء أن يُقدِّرا ميزات الكتاب بنفسيهما، فإن سعيداً قد أشار إلى القضايا الأكبر التي تكمن وراء نوع آخر من الخصام المتْعِب وبالمثل فإن محاولة سعيد إظهار أن المشكلة تقع في حيز ما بعد المعرفة الأكاديمية التي تُؤثِّر وتتأثر بالأدب الخيالي إضافةً لتأثرها بالسياسة فإنه يصب زيتاً جديداً على النار. وأخيراً وعلى الرغم من شكِّي في صحة مسلمات سعيد الأساسية، فليس بإمكاني إلا أن أُعجب بوضوح عرضه وقوته وشموليته.

* – تشارلز . إي . بترووث أستاذ العلوم السياسية بـ University of Maryland, College Park في الولايات المتحدة الأمريكية، والبحث منشور على الموقع التالي:

– Book Review: The American Political Science Review, Vol.74. 1980, pp. 175-176

** – (من أرشيف) محمد نور النعيمي، أكاديمي ومترجم سوري.

*** – هناك الكثير من الشروح لأمثولة كهف أفلاطون في الانترنت وغيره من المصادر؛ ففي إحدى حواراته في كتابه “الجمهورية” يصور أفلاطون في قصة “الكهف” الرمزية التي تروي حكاية تتناول طريقة عيش مجموعة من البشر منذ نعومة أظفارهم في كهف مظلم طويل يؤدي إلى بوابة خارجية وهم مكبلين في الأغلال غير قادرين على الحركة ولا يرون إلا أطياف السجانين المنعكسة على الجدران نتيجة وجود نار مشتعلة خلفهم. وعند خروج أحدهم من الكهف (الفيلسوف) يكتشف واقع الحياة الحقيقي الشفاف تحت ضوء الشمس خارج ذلك الكهف المظلم؛ وأثناء عودته إلى الكهف بعد فترة يجد أنه من المستحيل إقناع بقية المجموعة التي لم تخرج من الكهف (البشر العاديين المعتادين على العيش ضمن مقيدات واقعهم – الأغلال) بحقيقة الحياة خارجه؛ افلاطون هنا يطرح مشكلة فلسفية عميقة يصور فيها نمطين من أنماط عيش البشر في العالم: أناس أسرى أغلال واقعهم المحدود والمقيِّد (العيش ضمن مجتمع ضيق وفي ثقافة منغلقة على ذاتها دون انفتاح على الآخر وثقافته) مقابل أناس قادرين على تفسير أو تأويل واقع الآخر وهم الفلاسفة الذين جربوا العيش في الواقع الحقيقي تحت شمس الشفاف والمنفتح. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على عدم قدرة الكثير من البشر الفكرية الفطرية كأشخاص عاجزين أو غير راغبين في البحث عن الحقيقة وإعطاء حكم موضوعي، كالفلاسفة. إن إشارة تشارلز . إي . بترووث في هذه المقالة إلى أمثولة كهف أفلاطون بالعلاقة مع إدوار سعيد ومشروع الاستشراق إشارة ظالمة متناقضة حيث نجد أن سعيد يمثل من خرج من قيود الثقافتين الشرقية والغربية في بحثه عن الحقيقة، مجسداً المقولة الحكيمة التي عبَّر عنها هيو سينت فيكتور Hough St. Victor بجمال مُثير (والتي استشهد به سعيد نقلاً عن إويرباخ) حين قال: “إن الإنسان الذي يرى وطنه جميلاً لا يزال مبتدئاً وغِراً، أما الذي يرى كل تربة كتربة وطنه هو القوي بالفعل، والكامل هو من يرى العالم برمته كأرض غريبة ” (ص 259).

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *