الكتب الأمّهات

(ثقافات)

 الكتب الأمهات

زينب السعود*

       إذا عق الأبناء أمهاتهم اللاتي أنجبنهم فقد خرقوا خرقا في جدار المروءة ، وثلموا ثلما عظيما في أعظم الروابط الإنسانية والأخلاقية والدينية التي عرفها البشر منذ خليقتهم .

 فماذا عن عقوق أمهات من نوع آخر ، لم ينجبن بنات وبنين وإنما ولدن أفكارا وعلوما وأفضن على الدنيا بخيرات المعارف وبدائع الكلم وعجائب الصنعة المتقنة في شتى بحور العلوم .

كلامي اليوم عن أمهات الكتب ولولا الخوف من الوقوع في خوارم اللغة وقواعد النحو لتساءلنا عنها كما نتساءل عن العاقل الفهيم ب( من ) ولكن (ما ) غير العاقل لا تقدح في قيمة ما حوته تلك الأمهات في بطونها ولا ما جاد به ضرعها : فما هي أمهات الكتب ؟

الصحيح في اللغة أنها أمّات الكتب  لأن أم غير العاقل تجمع على أمّات ، ولكنها بما تحويه من أهمية بين جوانبها تستحق شرف الجمع على ما يجمع به العاقل فهي  أمهات الكتب  تكريما وتقديرا واعترافا بقيمتها وما حوته من نفائس العلوم .

وأمهات الكتب مصطلح شائع في الثقافة العربية يشير به الدارسون وطلاب العلم والباحثون إلى المؤلفات التي ذاع صيتها في مجال معين من مجالات العلم المختلفة على مدى أجيال وقرون .وقد أخذت هذه التسمية شكلا اصطلاحيا في علم المكتبات الحديث الذي يعتمد على التصنيف والتبويب ، حتى أصبح دارجا ومتداولا للدلالة على الكتب الاساسية والمصادر الأصلية التي يغرف منها الباحثون والمتفقهون في علم  من العلوم ، ولا غنى عنها لطلاب العلم والمثقفين والدارسين .

هذه الكتب الأمهات تنوعت بتنوع مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية والتطبيقية والشكلية ، ويرد استخدام هذا الاصطلاح عند دارسي العلوم الشرعية بما فيها من أبواب كعلم الحديث والتفسير والتراجم وكل ما يتعلق بمباحث العقيدة والفقه وعلم الأصول  . ومن أمهات هذه العلوم كتاب العقيدة الطحاوية وتفسير الطبري والصحيحين وغيرها الكثير .

أما في مجال اللغة وعلومها – وهو ما يدور حوله هذا المقال – فالمكتبة العربية التراثية تزخر بكثير من العناوين التي تعد بمثابة كنوز لغوية بما حوته من تصنيفات تستهدف معرفة صحيح الكلام وجيده ووضع قواعد تميز بين الصواب وضده في الاستخدامات اللغوية وتؤصل تأصيلا صارما لقواعد النحو العربي والممارسات البلاغية ، وطرائق البيان وأساليب الكتابة وغيرها من فنون اللغة والكتابة.

 ومن أمهات هذا المجال ا: لبيان والتبيين للجاحظ  ،والأمالي لأبي علي القالي ، وعيون الأخبار لابن قتيبة وكتاب سيبويه ، والمفضليات للمفضل الضبي ، والكامل في اللغة والأدب للمبرد ومعجم لسان العرب لابن منظور وأسرار البلاغة للزمخشري . وغيرها الكثير الكثير مما عرف بالمصادر والمراجع التي أخذت منها فيما بعد ، ولكنها تعد أمهات بالنسبة لنا نحن الجيل الذي وهنت وشائجه مع اللغة العربية وعلومها بفعل عوامل كثيرة .

ولو بحثنا في كل علم من العلوم لوجدنا لكل علم أمهاته من الكتب التي أسست له وارست قواعده وبينت ما بني عليه في الأصل ومنذ بداية الظهور .ولكن ما الذي بجعلنا نتذكر هذه الكتب التي نعتت بالأمهات تكريما لها ، لما للأم من فضل عظيم في تربية أبنائها وتعليمهم وضبط سلوكهم .

يجدر بنا ونحن في غمرة الحديث عن يوم الكتاب وحقوق المؤلف أن نستذكر فضل تلك الكتب وفضل أصحابها الذي تركوا للأجيال نفائس ودرر ثمينة لا يغفل عنها إلا جاهل بقيمتها ، ويجدر بنا أن نعيد سرد فضل تلك الكتب على الجيل الجديد ، الذي ربما لن يتسنى لكثير منه التعرف إلى بعض تلك الكتب فضلا عن السماع بها أو مجرد مرور اسم بعضها مرورا كريما على سمعه .

إن مجرد الحديث عن تلك الكتاب والاستشهاد بما في بطونها من في مجالسنا العلمية والثقافية التي يكون روادها من الناشئة بما يقتضيه الموضوع ، أمر غاية في الأهمية ، فالعودة إلى تلك الأصول ولو على سبيل الاقتباسات الصغيرة تجدد ماء الحياة في تلك الكتب وتربط وعي الجيل بأهميتها واسبقيتها وفضلها .

كما أن الحقيقة التي قد يتناساها الكثير من المهتمين بمجال الأدب والكتابة الأدبية  من الجيل الجديد أن جودة ما يكتبه الإنسان مرتبط بجودة ما يقرأ ، واللغة التي هي وسيلة الكتابة لن تلين لمن لا يصبر على مشقة تعلم أصولها وقواعدها ، وخصائص تراكيبها ومبانيها ، والصبر على تدارس علومها التي حفظتها لنا الأمهات ، أمهات الكتب.

*تربوية وناشطة في محال التدريب اللغوي وكاتبة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *